المواطنة والعلاقة بغير المسلمين-9-

 

من سياسة إلى دين

لكن أليست الجزية والشروط العمرية من فرائض الإسلام وعلينا تطبيق جميع فرائضه ولا نخشى في الله لومة لائم؟ أوافق أن علينا أن نطبق ديننا دون مبالاة باستحسان الآخرين لذلك أو استنكارهم، لكن علينا التأكد أن ما سنطبقه ونصطدم مع الآخرين بسببه هو فعلاً من ثوابت الدين. أعود لأكرر أن الجزية لا يحل للمسلمين أن يأخذوها من أهل الكتاب وغيرهم إلا نتيجة التغلب بالقوة العسكرية عليهم، وكلنا نعلم أن دولنا التي نعيش فيها الآن ليست ثمرة انتصاراتنا بل ثمرة هزائمنا وضعفنا. أي بعد تخلفنا وتراجعنا حتى عن ثوابت ديننا وانتشار الجهل فينا سواء بالدين أو بالدنيا لم يعد لنا الحق في استعادة ما فقدناه من وضع متميز في بلادنا كمسلمين. أما الإجماع الذي بناء عليه اعتبر أخونا الشيخ علي نايف الشحود وغيره من الإسلاميين الجزية والشروط العمرية واجبة التطبيق على غير المسلم لمجرد أنه غير مسلم مغلوباً كان أو غالباً فله حكاية أخرى.

 

عندما اختلف المسلمون حول أحقية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في أن يكون خليفة رسول الله، وادعى من تشيع له أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لعلي بالخلافة، وأن هنالك نصوصاً في القرآن والحديث تثبت ذلك، وبالغوا في الأمر فأضافوا في الشهادة "وأن علياً ولي الله" بعد "أن محمداً رسول الله" بحيث تحولت السياسة إلى عقيدة دينية، لم يجد أهل السنة والجماعة نصوصاً قوية ترجح حق أبي بكر وعمر وغيرهما بخلافة رسول الله، إنما كانت مبايعة أبي بكر قراراً بناء على اتفاق الصحابة للحفاظ على الاستقرار ودرء الفتنة بين المسلمين، بالغ السنة أيضاً وأدخلوا السياسة في العقيدة فجعلوا إجماع الصحابة وكذلك إجماع مجتهدي الأمة في أي عصر من العصور مصدراً للتشريع لا يقل عن القرآن والسنة، وادعوا أن الأمة بمجموعها معصومة من أن تجتمع على ضلالة، وبالتالي يكون كل ما أجمعت عليه متمثلة بمجتهديها في عصر من العصور حقاً ثابتاً لا شك فيه، وعلى الأمة التوقف عنده والالتزام به وعدم مراجعته إلى يوم القيامة. وبالمقابل آمن الشيعة أن أئمتهم المختارين من الله من ذرية فاطمة الزهراء رضي الله عنها معصومون، وكل ما يأتون به من حلول للمستجدات في حياة المسلمين إنما هو استمرار لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم من دون أن يكونوا أنبياء، فصار الإيمان بالولاية عقيدة لا يكتمل إيمان المسلم من دونها، لأنه يترتب عليها الإيمان بعصمة الأئمة، وبكونهم مصدراً متجدداً للتشريع في الإسلام. واضح أن اعتقاد العصمة للأئمة وأن ما يقولونه مصدر للتشريع لا يقل عن الكتاب والسنة، وكذلك الاعتقاد أن الأمة بمجموعها معصومة، وأن اجماع مجتهديها في أي عصر بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو المصدر الثالث للتشريع الإسلامي، واضح أن كلاً من العصمتين، عصمة الأئمة وعصمة الأمة كانتا وماتزالان وسيلة السنة والشيعة لإجبار كل من ينتمي لهاتين الطائفتين على عدم الخروج عن رأي سياسي تجاوزه الزمن، متعلق بمن كان أولى أن يخلف رسول الله، علي أم أبو بكر ثم عمر. صدقوني كثيراً ما أقرأ لعالم دين معاصر أو من السابقين وأعجب كثيراً برجاحة عقله وقدرته على التفكير الناقد المستقل ومنطقه السليم أو القوي في المحاججة، ثم يفاجئني بتحوله إلى مجادل غير منطقي، يعتبر الأدلة الهزيلة أدلة قطعية، ويقع في أخطاء التفكير والمحاكمة العقلية التي كان ينتقد غيره عليها قبل سطور، كل ذلك ليثبت العصمة والحجية التي ما بعدها حجية للإجماع إن كان سنياً وللأئمة من آل البيت إن كان شيعياً. يجادلون لإثبات إحدى هاتين القناعتين بنفس المنطق الهزيل الذي يجادل به مسيحي يريد أن يثبت لنا أن عيسى عليه السلام ابن الله. لكن ولله الحمد ليس انحرافنا وانجرافنا مع السياسة خطيراً مثل الإيمان أن لله ولد، وإن كان الإيمان بكلتي العصمتين قد أعاق الأمة عن التطور الفقهي والفكري الديني الذي هي بأمس الحاجة إليه في هذا الزمان.

 

إني أسائل نفسي: متى يراجع المسلمون أنفسهم ويتخلصوا من عقد التاريخ التي كانت سياسية بحتة حولها المسلمون إلى دينية عقدية، من يخالفها يكون كافراً أو على الأقل ناقص الإيمان. السابقون معذرون وهذه كانت وسائلهم في الصراع ما بينهم، لكننا نحن في هذا الزمن أقدر منهم على الرؤية والتحليل ودراسة ما حدث والتحرر من إساره لنعود إلى الكتاب والسنة ونكتفي بهما مصدرين للتشريع لا ثالث لهما، نحيل كل مستجدات حياتنا ونردها إلى أولي الأمر منا، أي حكمائنا في الاختصاصات المختلفة وممثلينا في المجالس التشريعية ليختاروا للأمة ما ينفعها ويجنبوها الوقوع في ما يضرها. بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم لا أحد معصوم إلا آيات القرآن الكريمة المحكمات ذوات الدلالة القطعية وما صح من حديث شريف قطعي الدلالة أيضاً، والباقي يكفينا فيه غلبة الظن وعلى الله القبول. إن التحرر من خرافة العصمة عند السنة وعند الشيعة لن يتم بسهولة أبداً، بل يحتاج إلى جهود جبارة من أبناء الأمة الإسلامية، الذين يجتمع فيهم الذكاء العالي وقوة الشخصية اللازمة للإبداع، كي يخلصوا الأمة من خرافتين دخلتا العقيدة الإسلامية وترسختا وصارت لهما جذور عميقة فيها. الأمر خطير ويستحق الجهد، وسيكون هو أقوى ما نفعله تأثيراً كي تنطلق الأمة، سنتها، وشيعتها، لتعود لها العزة التي ضاعت وليلقي الإسلام بجرانه وأثقاله في الأرض، ويظهر على الدين كله.

 

 

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين