المواطنة والعلاقة بغير المسلمين -8-

وضع جديد وأحكام جديدة

والسؤال هو: ما الذي تغير الآن؟ أليسوا الآن أهل الكتاب والغالبية العظمى منهم غير موحدين لله وينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أي هم كفار ويشملهم قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)) (التوبة).؟ أولسنا مأمورين بمقاتلتهم وفرض الجزية والصغار عليهم لعلهم يؤمنون؟ ألم يكن الصحابة أعلم بدين الله وهم الذين أجمعوا على الشروط العمرية وبالتالي هي من فرائض الإسلام ويأثم من يتحرج منها؟

 

أسئلة مشروعة وتحتاج إلى إجابات مقنعة قبل أن نعلن أننا نؤمن بالديمقراطية والمواطنة الكاملة لكل من يعيش على أرض بلداننا بما فيهم من كان أجدادهم ذميين.

 

أولاً: حتى لو قويت شوكتنا وصرنا أقوى أمم الأرض، وبقيت البشرية على حالها، تعطي حرية الاعتقاد والتعبير والعبادة لكل الناس، فما لنا من حق في قتال أحد إلا دفاعاً. هذه الحرية التي ينعم بها الناس في أوربا وأمريكا وباقي بلدان العلم الحر إنجاز حديث للبشرية، لم تكن تتصوره قبل هذا العصر، باستثناء الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لغير المسلمين. القتال الذي أمر الله به في سورة التوبة ليس قتالاً للدفاع، لأن القتال للدفاع حق تكفله شرائع الأرض وشرائع السماء، وقد أذن به الله للمؤمنين بمجرد أن صارت لهم دولة في المدينة المنورة. كان قتالاً هجومياً يسمى قتال الطلب، مقابل قتال الدفع في حال تعرض المسلمين للعدوان. لم يكن الهدف من هذا القتال وفتح الأقطار والبلدان أن يتم إكراه أهلها على الإسلام، بل كان الهدف تحريرهم من القيود التي كانت عليهم، وكانت تحول دون وصول دعوة الحق إليهم، وتحول دون دخولهم في الإسلام إن هي وصلتهم وأرادوا ذلك. إن أردنا أن نصف الحروب التي خاضها المسلمون وفتحوا بها بلداناً كثيرة بالدفاعية فيمكننا ذلك، لكن لم تكن دفاعاً عن المسلمين، بل دفاعاً عن حرية الاعتقاد وعن حق الشعوب في أن تختار الدين الذي تريده، دون إكراه ولا اضطهاد. نعم أمرنا بالقتال كي لا تكون فتنة، وكي يكون الدين كله لله. قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} (البقرة).

 

ربنا يعتبر الإكراه في الدين الذي يسميه فتنة جريمة وظلماً أشد من القتل. وهذا أحد معاني كلمة فتنة في القرآن، حيث قال الله تعالى عن أصحاب الأخدود الذين أكرهوا الناس على العودة لعبادة الملك بدل عبادة الله وألقوا في أخدود النار كل من ثبت على الحق: (فتنوا المؤمنين والمؤمنات) ولنقرأ هذه الآيات من سورة البروج: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)}. وربنا كلف المسلمين أن يكونوا حراساً لحق البشر كلهم في حرية الاعتقاد، ووعد الجنة لمن يقتل منهم دفاعاً عن حرية غيرهم. لا تستغربوا، فنحن مأمورون أيضاً أن نقاتل لرفع الظلم والاضطهاد عن أية أمة مستضعفة، مؤمنة كانت أو كافرة. قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)} (النساء).

 

عام 1994 في شهر إبريل/نيسان بدأت مذابح في رواندا قام فيها المتطرفون من قبائل الهوتو بقتل حوالي مليون من الرجال والنساء والأطفال  من قبائل التوتسي خلال ثلاثة أشهر، وتم قتل الكثيرين بالمناجل والفؤوس لعدم توفر أسلحة نارية للجميع. فرنسا وبلجيكا أرسلتا حوالي ألف جندي إلى رواندا من أجل حماية رعاياهما هناك، ولم يتدخل أحد.. بعد المذابح بسنين عبر مسؤولون أمريكيون عن شعورهم بالذنب والخزي لأنهم لم يفعلوا شيئاً لإيقاف تلك المذابح، ثم تكشَّف أن فرنسا كانت مشاركة في المذابح. لو كان للمسلمين دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية هل كانوا سيتركون أولئك المستضعفين من الرجال النساء والأطفال يذبحون بمعدل عشرة آلاف ذبيح كل يوم؟ إن قتالنا واستشهادنا لإنقاذ هؤء المستضعفين وإن كانوا غير مسلمين عبادة وجهاد تماماً كالجهاد لإعلاء كلمة الله.

 

أعود لحرية الاعتقاد والدعوة والعبادة التي تسود الأرض هذه الأيام، لأذكر أنه لم يعد هنالك مبرر لأي قتال للذين كفروا من أهل الكتاب ولا من غيرهم، بل هي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتأليف القلوب بالإحسان إلى الناس، لأن الحب والرغبة في الانتماء هما أكبر دافع للناس لأن يؤمنوا بدين الله. وهذا يعني أنه ليس متوقعاً أن يصبح عندنا ذميون مرة أخرى.

 

لكن أليس لنا الحق إن استعدنا عزتنا أن نفرض على المسيحيين وغيرهم ممن كانوا ذميين في بلادنا أن يلتزموا بالشروط العمرية لأن الذي ألغى تطبيق هذه الشروط هو الاستعمار الأوربي الذي ليس له أية شرعية أو حق أن يفقدنا الامتيازات التي كنا نتمتع بها؟..

 

لا.. ليس لنا الحق في ذلك. إن انتصار المسلمين على البلاد التي فتحوها جعل كل أهلها من غير المسلمين ذميين، وانكسارنا أمام الأوربيين جعلنا والذين كانوا ذميين عندنا، نتساوى كمواطنين في دول أنشأها المستعمرون ولم يأخذوا رأينا في حدودها المصطنعة. هكذا الدنيا، إنكسار المسيحيين أمام الجيوش المسلمة حولهم إلى ذميين في بلادهم، أما انكسارنا أما الأوربيين فلحسن حظنا لم يحولنا إلى ذميين وبخاصة أن المستعمرين مسيحيون، بل أفقدنا الامتيازات وأخرج المسيحيين وغيرهم من رتبة الذميين إلى رتبة المواطنين. طالما نرى تحول من لم يسلم من أهالي البلاد التي فتحها المسلمون إلى ذميين بسبب هزيمة عسكرية حلت بهم، نراه عدلاً، فإنه من العدل أيضاً أن تتحسن حالتهم بمجرد هزيمتنا عسكرياً أمام من يشاركوهم الدين والمعتقد. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140).

 

 

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين