المواطنة والعلاقة بغير المسلمين -4-

وهم صاغرون -  1

ويبدو لي أن الحكمة من قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} هي شيئان. الأول هو في أمره المسلمين أن يأخذوا الجزية ممن يرفض الدخول في الإسلام من غير مشركي العرب وقتها، وبذلك ما عاد للمسلمين أن يتنازلوا عن الجزية وقد أمرهم الله بأخذها، وهذا يضمن أن الجزية ستفرض على غير المسلمين من الأمم المغلوبة، مع اشتراط أنها لا تؤخذ إلا من الرجال الأصحاء القادرين مالياً، وتستثنى بعض الفئات منهم كالرهبان، أي كان مقصوداً أن يدفعها كل من يبقى خارج الإسلام من هذه الشعوب، في إطار من عدل الإسلام ورحمة المسلمين بغيرهم، وقد كانت الجزية مبلغاً صغيراً بمقاييس ذلك الزمان، والحكمة كامنة في فرضها وفي قلة مقدارها، لأنها بهذا الشكل تدفع من فرضت عليه إلى الدخول في الإسلام الذي كان يلغيها عنه ويضمه إلى أمة المسلمين الغالبة مع أنه أحد المغلوبين. وقد بينت دراسات علم النفس أن الحافز الضئيل يجعل من يستجيبون له يغيرون قناعاتهم، لا مجرد أن يغيروا سلوكهم، للحصول عليه، مع بقاء قناعاتهم على حالها؛ بينما لو كان الحافز كبيراً ومغرياً، فإنه يدفع الناس إلى النفاق والتظاهر بالتغيير، كي يحصلوا على هذا الحافز؛ وهم لا يجدون أي خجل، أن يعترفوا لأنفسهم، أنهم منافقون من أجل شيء ثمين؛ أما أن اعترافهم لأنفسهم أنهم نافقوا من أجل مبلغ ضئيل، فيتعارض مع احترامهم لأنفسهم، لذلك تقوم أنفسهم بتغيير منظورها للأمر، فتنظر لما يطلب منها من جوانبه الإيجابية، وتؤمن به إيماناً، كي تحصل على الحافز الضئيل، دون خسارة احترامها لذاتها. لذا، أعتقد أن الجزية التي كانت مبلغاً صغيراً سنوياً، دفعت أعداداً كبيرة جداً ممن فرضت عليهم، إلى الدخول في الإسلام، إيماناً به، فكان فيها خير عظيم لهم، مع أن دخولهم في الإسلام، كان يحرم المسلمين من الجزية التي كانوا يستوفونها منهم.

 

 وبرأيي أن من يقول إن الجزية فرضت على أهل الذمة لأنهم لم يكونوا يقاتلون مع المسلمين، ولأن المسلمين كانوا مسؤولين عن حمايتهم، مخطىء في هذا الفهم للجزية؛ مع أن المسلمين الذين فتحوا حمص، وعاهدوا أهلها أن يحموهم، وكان على أهلها أن يدفعوا الجزية، عندما شعر المسلمون أنهم لن يكونوا قادرين على حماية المدينة أمام جيش الروم العظيم، الذي بلغهم أنه كان متجهاً إليهم، أعادوا ما أخذوه من جزية من أهل حمص. كانت حماية الذميين مسؤولية المسلمين، ليس لأن الذميين كانوا غير راغبين في المشاركة في الجيش، وفي حماية البلاد، بل لأن المسلمين ما كانوا يثقون بغير المسلمين، وما كانوا يقبلون كافراً في جيشهم، الذي يقوم بالجهاد في سبيل الله، وهو عبادة؛ ومن جهة أخرى، كان الذميون أبناء أمم، قهرها المسلمون، وغنموا كل أرضها، وحولوا أهلها الذين لم يدخلوا في الإسلام، إلى نوع من المواطنين درجة ثانية؛ وأناس كهؤلاء، لا يُؤمَن شرهم وعداؤهم، ولا يصح إدخالهم في جيوش المسلمين. أي كان الذميون أبناء مستعمرات متمسكين بهويتهم وهوية أجدادهم المتجلية في دين آبائهم وأجدادهم، ويغلب أنهم لم يكونوا سعداء بوضعهم كذميين في بلادهم، ولا شيء يضمن ولاءهم وإخلاصهم، لو شاركوا في الجيش والقتال، لأنهم بشر، ولا يُتوقع منهم غير هذا.

 

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين