المواطنة والعلاقة بغير المسلمين -3- تصحيح التصورات

    

 يمكنكم أن تكتبوا في غوغل كلمة Tribute التي تعني الجزية بالإنكليزية، لتروا كيف أنها كانت معروفة وشائعة عند الأمم القديمة. أنا لا أحاول أن أبرىء الإسلام من الجزية، فقد ذكرت صريحة في القرآن الكريم، لكنني أريد أن أبين للمسلمين قبل غيرهم أمرين بخصوص الجزية، الأول: أنها ليست فريضة إسلامية لا نستطيع إلا أن نطلبها من أهل الكتاب لمجرد أنهم أهل الكتاب، ومخطىء من يعتقد أنها فريضة عليهم مقابل فريضة الزكاة على المسلمين. القرآن فرضها على كفار أهل الكتاب الذين يرفضون الإسلام ويختارون الحرب إذا ما تغلب عليهم المسلمون، ذكرها ليبين لنا أن لأهل الكتاب أن يختاروا بين الإسلام أو الجزية، إذ لا يجوز إكراههم على الإسلام كما أُكره مشركوا العرب زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. وبالتالي، ليس عدم أخذنا لها من المسيحيين الذين يشاركوننا أوطاننا تنازلاً عن شيء أصيل في ديننا لأننا ضعفاء في هذا العصر. ومع أن الجزية ذُكرت في القرآن الكريم متعلقة بأهل الكتاب، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن المجوس فيما رواه الشوكاني في السيل الجرار وصححه الألباني: {أنه قال في المجوسِ  سنوا  بهم  سنةَ  أهلِ الكتابِ}. لذا قبلها صحابة رسول الله من كل الشعوب التي فتحوا بلادها على اختلاف أديانها، وكلهم بمنظور الإسلام مشركون، لكن الصحابة لم يطبقوا عليهم حكم المشركين العرب، الذين لم يُقبل منهم إلا الإسلام، أو القتال والقتل، للمقاتلين فيهم، إن أظهر الله المسلمين عليهم. كان المشركون العرب استثناء من مبدأ لا إكراه في الدين، وكان أهل الكتاب مثالاً لهذا المبدأ الذي يسري على البشرية كلها ما عدا المشركين العرب في أرض العرب في عصر الرسالة.

 

والأمر الثاني الذي أريد أن أبينه أن الجزية كانت استحقاقاً للمسلمين نتيجة تغلبهم على الأمم الأخرى، وبقيت مضروبة عليها إلى أن جاءنا الاستعمار الأوربي، فجرد المسلمين من حقوق الغالب التي كانوا يتمتعون بها، حيث كان أهل البلاد الأصليين الذي لم يدخلوا في الإسلام ذميين، عليهم بعض القيود، وعليهم الجزية، وعلى أراضيهم الصالحة للزراعة الخراج، وهو أجرة هذه الأرض التي انتقلت ملكيتها إلى المسلمين بمجرد دخولهم تلك البلاد بالقتال والغلبة، وكل أملاك الدولة المغلوبة تؤول للمسلمين. نعم بمجرد أن فتح المسلمون قطراً من الأقطار عَنْوَةً أي بقوة السلاح فإن كل أرض ذلك القطر أصبحت ملكاً للفاتحين ودولتهم. وبحسب الأعراف التي ورثها الإسلام، كانت هذه الأراضي الزراعية توزع على المقاتلين الذي خاضوا معارك فتح هذا القطر على اعتبار أنها من الغنائم، لكن عمر بن الخطاب غير هذا العرف، ولم يوزع أرض السواد في العراق، ومن بعدها أراضي كل البلاد التي فتحها المسلمون على المقاتلين، بل اعتبرها فيئاً ملكيته للأمة الإسلامية كلها بكافة أجيالها، وأذن لأصحابها السابقين أن يزرعوها، على أن يدفعوا نسبة مما تنتجه من خيرات، كأجرة مستحقة عليهم لبيت مال المسلمين، كانت تسمى: الخراج.

 

تأملوا ما قاله ابن القيم في كتابه الرائع أحكام أهل الذمة: {{وَلِلْإِمَامِ تَرْكُ الْخَرَاجِ وَإِسْقَاطُهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَتَخْفِيفُهُ عَنْهُ بِحَسَبِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ الْمَقْصُودُ بِهَا إِذْلَالُ الْكَافِرِ وَصَغَارُهُ، وَهِيَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دَمِهِ وَلَمْ يُمَكِّنْهُ اللَّهُ مِنَ الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْجِزْيَةِ إِعْزَازًا لِلْإِسْلَامِ وَإِذْلَالًا لِلْكُفْرِ. وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَهُوَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ وَحَقٌّ مِنْ حُقُوقِهَا، وَإِنَّمَا وُضِعَ بِالِاجْتِهَادِ فَإِسْقَاطُهُ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ إِسْقَاطِ الْإِمَامِ أُجْرَةَ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ عَنِ الْمُكْتَرِي}}.

 

وقد جاء في موطأ مالك ما يلي: {سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ إِمَامٍ قَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنْ قَوْمٍ، فَكَانُوا يُعْطُونَهَا: أَرَأَيْتَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَتَكُونُ لَهُ أَرْضُهُ، أَوْ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ لَهُمْ مَالُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: ذلِكَ يَخْتَلِفُ، أَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ، فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ وَمَالِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعَنْوَةِ الَّذِينَ أُخِذُوا عَنْوَةً فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ أَرْضَهُ وَمَالَهُ لِلْمُسْلِمِينَ. لأَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ قَدْ غُلِبُوا عَلَى بِلاَدِهِمْ وَصَارَتْ فَيْئاً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَنَعُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَالَحُوا عَلَيْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ}.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين