المواطنة والعلاقة بغير المسلمين -2-

الحلقة 2 من 15

 

الجزية من قبل الإسلام

قوانين الحروب التي كانت متبعة في ذلك الزمان، كانت قاسية جداً على الأمة المهزومة، ومن شاء فليقرأ ما جاء في العهد القديم عما كان يفعله بنوا إسرائيل بالأمم التي ينتصرون عليها، وبالمقارنة بها يمكننا أن ندرك مدى رحمة المسلمين كفاتحين منتصرين بالأمم التي غلبوها وفتحوا بلادها.

 

لقد أذن ربنا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في عهده ومن بعده أن يتمتعوا بما يغنمونه بالقتال أو الفيء الذي يغنمونه دون قتال، لكنه فرض خمس الفيء لله والرسول، أما غنائم القتال فقد كانت كلها للمقاتلين كما هو العرف عند شعوب ذلك العصر، وبخاصة أنه كان المقاتلون ينفقون على أنفسهم، ويشترون السلاح والدابة التي يركبونها من مالهم الخاص، ولم تكن لهم مرتبات منتظمة. كان لهذا الإذن دور كبير في تقوية المسلمين، مما مكنهم من فتح المزيد من البلدان، ونشر الإسلام في أصقاع واسعة.

 

فرض الجزية والخراج واسترقاق النساء والأطفال والأسرى من الأمة المهزومة أمور كانت البشرية تمارسها قبل الإسلام بأحقاب طويلة، ولم تكن مما أضافه الإسلام، تماماً مثل الرق الذي كان منتشراً على نطاق واسع جداً في جميع بلدان العالم القديم. ومع أن الإسلام يسعى إلى تحرير الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فإنه لم يبطل الرق، بل نظم العلاقة بين العبد وسيده، وحض على حسن معاملة العبيد، وعلى إعتاقهم. لا أحد يلوم الإسلام على الرق الذي استمر قروناً بعد مجيئه، لكن لأن الناس يجهلون أن الجزية وباقي ما يقع على الأمم المغلوبة عسكرياً، كانت موجودة من قبل الإسلام، فإنهم بالنسبة للجزية فريقان: الأول المسيحيون الذين كان أجدادهم ذميين يدفعون الجزية، والثاني هم الإسلاميون الذين يريدون تطبيق الإسلام بكل تفصيلاته. كلا الفريقين يظن أن الجزية على أهل الكتاب كانت مما جاء به الإسلام من تشريعات، فيكره المسيحيون الإسلام، لأنهم يظنون أنه تعمد التمييز ضدهم، أما الإسلاميون، فيظنون أن عليهم إن أقاموا الدولة الإسلامية، أن يفرضوا الجزية على كل مسيحي يعيش بينهم، إن أصر على البقاء على دينه. هم لا يريدون ذلك من أجل المال، وبخاصة أن الجزية التي كانت الدولة الإسلامية تستوفيها من الذميين، لم تكن مبلغاً كبيراً على الشخص، ولم تكن تفرض إلا على الرجل القادر على القتال والمقتدر مالياً. إنما هم يريدون أن يطبقوا دينهم كاملاً غير منقوص، ولا يبالون إن أعجب ذلك الآخرين أو أزعجهم.

 

لم تكن الجزية على المسيحيين واليهود وغيرهم إضافة إسلامية، مع أنها مذكورة في القرآن الكريم. لنتأمل الآية الكريمة مرة أخرى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}.. لاحظوا كيف أن الجزية أتت في الآية معرفة بأل التعريف، وهذا يوحي أنها كانت معروفة للمخاطبين بالآية. وإننا نجد ذكرها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة قبل نزول أية تشريعات. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: {مَرِضَ أبو طالبٍ فجاءته قريشٌ، وجاءه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعند أبي طالبٍ مَجْلِسُ رجلٍ، فقام أبو جهلٍ كي يَمْنَعَه، قال: وشَكَوْهُ إلى أبي طالبٍ فقال: يا ابنَ أَخِي ما تريدُ من قومِكَ؟ قال: أريدُ منهم كلمةً  تَدِينُ  لهم بها العربُ، وتُؤَدِّي إليهم العَجَمُ الجِزْيَةَ، قال: كلمةً واحدةً؟ قال: كلمةً واحدةً، فقال: يا عَمِّ قولوا: لا إله إلا اللهُ. فقالوا: إلهًا واحدًا؟ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ. قال: فنزل فيهم القرآنُ {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ – إلى قولِه – مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}.

 

لم تكن الجزية اختراعاً محمدياً. فالجزية مذكورة في الكتاب المقدس، وكان بنو إسرائيل يستوفونها من الشعوب التي غلبوها بالقتال.

 

جاء في سفر صموئيل الثاني الإصحاح الثامن عن نبي الله داود:  {(1)  وَبَعْدَ ذلِكَ ضَرَبَ دَاوُدُ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَذَلَّلَهُمْ، وَأَخَذَ دَاوُدُ «زِمَامَ الْقَصَبَةِ» مِنْ يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. (2) وَضَرَبَ الْمُوآبِيِّينَ وَقَاسَهُمْ بِالْحَبْلِ. أَضْجَعَهُمْ عَلَى الأَرْضِ، فَقَاسَ بِحَبْلَيْنِ لِلْقَتْلِ وَبِحَبْل لِلاسْتِحْيَاءِ. وَصَارَ الْمُوآبِيُّونَ عَبِيدًا لِدَاوُدَ يُقَدِّمُونَ هَدَايَا}.

 

وبحسب شرح الكتاب المقدس - العهد القديم - للقس أنطونيوس فكري،  فإن المقصود بالهدايا في هذا النص هي الجزية، وإليكم ما قاله في تفسير هاتين الآيتين: {حروب داود النبي ضد الأمم الوثنية التي انجرفت تمامًا في الرجاسات مع عنف وقسوة ووحشية تشير لجهاد المؤمن ضد الخطية بكل رجاساتها وعنفها. ونجد داود هنا منتصرًا دائمًا، فإذا كان هناك سلام بين الإنسان والله، ينجح الإنسان في كل طرقه. أخذ داود زمام القصبة= بالمقارنة مع المكان الموازى.. في (أى1:18) نجد أن داود "أخذ جت وكل قراها" وذلك لأن جت هي قصبة الفلسطينيين وزمام دولتهم، وكانت جت لها قلعة محصنة عالية، على تل تشرف منه على دان وعلى يهوذا، ومن هنا تضرب إسرائيل وتذلهم. لذلك كانت جت هي أهم مدنهم. وكلمة زمام القصبة جاءت في الترجمة العبرية "لجام الأمة" فكأن من يسكن جت يمسك بلجام إسرائيل ويحرك إسرائيل كيفما شاء، فأمسك داود بهذا اللجام ليتحكم في الفلسطينيين، فقد صارت هذه القلعة في يده (لو22:11).. وفي أية (2) نجد داود يضرب موآب، ولقد سبق أن استودع داود والديه لدى ملك موآب، {راجع (1صم22: 3،4)} فلماذا حدثت هذه الحرب؟ هناك احتمالين: 1- أن موآب كان يساند داود لمّا كان داود ضد شاول، أمّا وقد وصار داود ملكًا، فقد حاربه موآب. 2- ويقول اليهود أن داود كان عنيفًا مع موآب، لأنهم قتلوا أبوه وأمه اللذان تركهما عندهم في سلام. وداود ضرب موآب وصار موآب يدفع الجزية لإسرائيل حتى زمن موت أخاب، حيث ثار موآب ضد إسرائيل وعصاه، (2مل3: 3،4). وكانت ضربة داود ضدهم شديدة، قاس حبلين للقتل، أي أجلسهم على الأرض، وقاس الثلثين منهم بحبل، فكانوا للموت، وبحبل للإستحياء= أي الثلث أبقى عليهم. وهؤلاء الذين قاسهم داود، كانوا هم الأسرى، فهو قتل الثلثين من الأسرى، وأبقى الثلث}.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين