المواطنة والعلاقة بغير المسلمين -14-

السلام على الكافر

لم يستطع اليهود بالمدينة المنورة التحكم بمشاعر الكره والحقد والحسد والازدراء التي امتلأت بها قلوبهم نحو النبي صلى الله عليه وسلم ونحو أصحابه، فصاروا إذا التقوا بأحد منهم يقولون له: (السّامُ عليكم) والسّام هو الموت، فهو دعاء على النبي صلى الله عليه وسلم أو على الصحابي بالموت، يدعونه وهم يتظاهرون أنهم يلقون السلام، لأن كلمتي السّام والسلام قريبتان في اللفظ. لم تنطلِ حيلتهم على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار لا يقول في رده على تحيتهم إلا كلمة وعليكم، فإن كان السلام رده إليهم وإن كان السّام ارتد عليهم، ولم يجعل منها قضية، لأنه حليم، وليس من عادته أن يغضب لنفسه، بل لا يغضب إلا لله. لم تمر الأمور بسلام حيث جاء يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زوجه عائشة رضي الله عنها وحيوه بالسّام بدل السلام، فغضبت عائشة وردت عليهم بعنف، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم أن الرفق أخلق بالمؤمن وتوجه بتعليمٍ لأصحابه أنهم إن سلم عليهم أهل الكتاب (وهذا كان الاسم المستعمل لليهود في المدينة في الغالب) أن يقتصر ردهم على كلمة وعليكم.

لنقرأ هذه الأحاديث الشريفة:

  1. {دخَل رَهطٌ من اليهودِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: السَّامُ عليكم، قالتْ عائشةُ: ففَهِمْتُها، فقلْتُ: وعليْكُمُ السَّامُ واللَّعْنَةُ، قالتْ: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَهْلًا يا عائشةُ، إن اللهَ يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كُلِّه) . فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أو لم تسمَعْ ما قالوا؟ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (قد قلْتُ: وعليكم} (البخاري)

 

  1. {أتى اليهود النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا: السّامُ عليك، قال: (وعليكم). فقالتْ عائشَةُ: السّامُ عليكم، ولعَنَكمُ اللهُ وغضِبَ عليكم، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَهلًا يا عائشَةُ، عليكِ بالرِّفقِ، وإياكِ والعُنفَ، أو الفُحشَ). قالتْ: أولم تسمَعْ ما قالوا؟ قال: (أو لم تسمعي ما قلتُ، ردَدْتُ عليهم، فيُستَجابُ لي فيهم، ولا يُستَجابُ لهم فيَّ}. (البخاري).

 

 

  1. {كان اليهودُ يُسَلِّمونَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولونَ: السّامُ عليك، ففطِنَتْ عائشةُ إلى قولِهم، فقالتْ: عليكمُ السّامُ واللعنةُ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (مَهلًا يا عائشةُ، إن اللهَ يُحِبُّ الرِّفقَ في الأمرِ كلِّه). فقالتْ: يا نبيَّ اللهِ، أولم تسمَعْ ما يقولونَ؟ قال: (أولم تسمَعي أني أرُدُّ ذلك عليهِم، فأقولُ: وعليكم). (البخاري).

 

  1. {مرَّ يهوديٌّ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: السّامُ عليكَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (وعليكَ). فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (أتدرونَ ما يقولُ؟ قال : السّامُ عليكَ). قالوا: يا رسولَ اللهِ، ألا نقتُلُهُ؟ قال: (لا، إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتابِ، فقولوا: وعليكُم)  (البخاري).

 

  1. (إذا سلّم عليكم اليهود، فإنما يقول أحدهم: السّام عليك، فقل: وعليك)  (البخاري).

 

  1. {لا تبدَؤوا اليهودَ ولا النصارى بالسلامِ. فإذا لقِيتُم أحدَهم في طريقٍ فاضطَرُّوه إلى أضيَقِهِ} (مسلم).

 

  1. {إذا لقِيتم أهلَ الكتابِ وفي رواية: المشركين، فلا تبدؤوهم بالسلامِ، واضطَّروهم إلى أضيقِ الطريقِ} (رواه البخاري في صحيح الأدب المفرد وصححه الألباني).

 

  1. لا تبدَأوا اليَهودَ والنَّصارى بالسَّلامِ، وإذا لقيتُم أحدَهُم في الطَّريقِ فاضطرُّوهم إلى أضيَقِهِ (رواه الترمذي وصححه الألباني).

كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: أهل الكتاب، ويقصد بذلك يهود المدينة، مع أنهم ليسوا هم كل أهل الكتاب، إذ هنالك باقي اليهود المشتتين في بلدان كثيرة، وكان هنالك أيضاً النصارى الذين يشكلون أمماً كاملة. وحتى القرآن الكريم يقول أحياناً أهل الكتاب ويكون المقصود هم يهود المدينة. لم يكن يحصل أي لبس أو إشكال في الفهم لدى السامعين، فالعرب تقول الناس وتقصد بعض الناس مثل باقي الأهل أو الجيران أو العشيرة، مع أن كلمة الناس المعرفة باللام والألف يمكن أن تعني البشرية كلها، وعلى نفس العادة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول أهل الكتاب، ويقصد قلة قليلة منهم، أي يهود المدينة، مع أن هذه الكلمة يمكن أن تعني جميع أهل الكتاب في كل زمان ومكان.

أراد صلى الله عليه وسلم أن يحذر أصحابه من أذى يهود المدينة فأمرهم أن لا يبدأوا أهل الكتاب بالسلام، وأن يردوا عليهم سلامهم بكلمة (وعليكم) فقط. وصلتنا نصيحته وتحذيره لأصحابه لا تبدأوا اليهود والنصارى او ولا النصارى بالسلام... الحديث. ويبقى التساؤل هل حذر النبي صلى الله عليه وسلم صحابته وأمرهم ألا يبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام، مع ان الذين كانوا يؤذونهم هم اليهود، ولم تذكر السيرة أنه كان يعيش في المدينة يومها أي نصراني؟ أم أنه قال لهم لا تبدؤا اهل الكتاب بالسلام وحصل إبدال هذه الكلمة في ذاكرة أحد الرواة بما تعنيه عادة أي اليهود والنصارى؟ كلا الاحتمالين وارد. المهم سياق الأحداث يبين بما لا يدع مجالاً للشك أن النهي عن بدئهم بالسلام كان إجراءً احترازياً مخصوصاً بزمانه ومكانه والناس المقصودين به.

عندما جُمعت أحاديث رسول الله من ذاكرة الرواة بعد أجيال من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وتطور علم الحديث والفقه، ثم وضع الفقهاء قواعد اصولية وقواعد فقهية يسترشدون بها في عملية استنباط الأحكام، وضعت قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)، وبذلك تحول تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من أذى يهود المدينة في عهده والذي انتهى برحيلهم عن المدينة، إلى حكم شرعي مطلق وعام، ينطبق على كل اليهود والنصارى، وعلى كل المسلمين في كل زمان ومكان. إن أخذ النص معزولاً عن سياقه التاريخي والكلامي واستنباط الأحكام منه يمكن ان يوصلنا إلى نتائج مثل هذه. لم يَفُت بعض فقهاء الأمة ذلك، فنبهوا إلى أهمية اعتبار السياق لمعرفة ما تدل عليه الآيات والأحاديث، لكن المسلمين المتغلبين على اليهود والنصارى ما كانوا بحاجة إلى مراجعة الحكم الشرعي الذي سبق أن وضعه الفقهاء السابقون بناء على عموم لفظ اهل الكتاب او اليهود والنصارى. أما في زماننا هذا حيث نعيش عصر الضعف والذلة بعد قرون من الانحطاط وتفكك عرى الإسلام والاستعمار الأوربي فقد صرنا في حاجة حقيقية لمراجعة حكم تحريم بدء المسيحي أو اليهودي بالسلام، فهم لم يعودوا أهل ذمة عليهم الرضا بوضعهم لأنهم أمة مغلوبة عسكرياً. ومما يبشر بالخير أنه هنالك عودة وعي بأهمية السياق في استنباط الأحكام تتجلى بالكم الكبير من المقالات ورسائل الماجستير والدكتوراه التي تبحث هذا الموضوع وتؤكد عليه من جديد، كما هنالك أيضاً من تجرأ من فقهاء هذا العصر ومفكريه الإسلاميين على إعادة النظر في هذا الحكم الذي لا يبدو منسجماً مع روح الإسلام، دين الرحمة وتأليف القلوب. ربنا لا يأمرنا إلا بالنافع لنا ولا يحرم علينا إلا الخبائث الضارة بنا، فما الضرر في أن نبدأ أصدقاءنا أو زملاءنا المسيحيين بالسلام؟

اعملوا بحثاً في القرآن الكريم واستعرضوا التكرار الكثير لأمر الله لعباده الصالحين أن يقولوا سلام، وحتى وهو يتحدث عن المشركين العرب يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} (الزخرف). أي مع أنه يؤكد أنهم لا يؤمنون ولا يجدي معهم الجدال يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصفح عنهم ويقول سلام، وهل تتصوروا ربنا يقصد أن يصفح الرسول صلى الله عليه وسلم عن المشركين المعاندين ويردد لنفسه كلمة سلام، وهي في أغلب المواضع التي وردت فيها في القرآن الكريم كانت تعني بوضوح سلام التحية.

إذن ليس تحريم بدء المسيحيين واليهود بالسلام من ثوابت الإسلام، وطالما هنالك فهم آخر للحديث الوحيد الذي ينهى عن بدئهم بالسلام، ليس معتسفاً ولا متكلفاً، وأغلب الظن أن هو الحق، فليس على المؤمن حرج أن يبدأ أهل الكتاب بالسلام. الغريب أن الفقهاء أصروا على تحريم بدء أهل الكتاب بالسلام وبقي بدء المشركين من الأديان المختلفة والملحدين بالسلام على حاله، أي مباحاً، مع أن الله أعطى لأهل الكتاب مكانة خاصة ومعاملة خاصة في ديننا. علينا أن ننظر إلى الإسلام نظرة شاملة تأخذ كل أوامره ونواهيه ومقاصده بالاعتبار دفعة واحدة، وأن نكف عن الطريقة التجزيئية في النظر لمفردات ديننا، كي لا نقع بالتناقض. هل يعقل أن ديناً يسمح لك أن تتزوج مسيحية، وبالفطرة لا بد أن يكون بينكما المودة والرحمة، ثم يحرم عليك أن تبدأها بالسلام؟ لو كان هذا الدين وكتابه الكريم القرآن من عند غير الله لكان التناقض بين بعض مفرداته شيئاً طبيعياً ومتوقعاً: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (النساء). لقد لفت ربنا أنظارنا إلى إحدى آياته التي تثبت لنا أن القرآن من عنده وهي غياب الاختلاف والتناقض بين آياته، وسنة نبيناً مبينة ومفسرة للقرآن ولابد أن تكون مثله خالية من التناقض، إلا ما نتج عن انتقالها إلينا بروايات من الذاكرة وما حاول الذين يكرهون ديننا أن يدخلوه فيها من باطلهم. ما عليكم إلا أن تستعرضوا الأحاديث الموضوعة لتروا إلى أي حد هي تتعارض مع القرآن وثوابت السنة.

 

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين