المواطنة والعلاقة بغير المسلمين -13-

المودة مع الكافر

 

قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} (الممتحنة). الآية الأولى ترفع الحرج عن المؤمنين فتكون علاقتهم بالكفار الذين لم يقاتلوهم بسبب الدين ولم يخرجوهم من ديارهم علاقة طيبة سماها ربنا البِرّ، وهو قمة الإحسان في المعاملة لذلك أمرنا ببر الوالدين، والأغلب في البر أن يكون مصحوباً بالودّ، بينما الآية الثانية تحرم على المؤمنين موالاة من يقاتلون المؤمنين بسبب إيمانهم، أو يخرجونهن من ديارهم أو يعينون غيرهم على إخراجهم، حتى لو كان الإخراج لسبب آخر غير الدين، بل نحن منهيون عن أن تكون بيننا وبينهم مودة على الإطلاق، لأنهم بعدوانهم على المؤمنين لإيمانهم إنما هم يحادّون الله ورسوله، أي يغاضبونه ويعادونه ويخالفونه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} (المجادلة). كما حذرنا تعالى من مُوادّة الكفار المحاربين لنا لإيماننا، فهم لنا عدو يتربص بنا الدوائر وليس من الحكمة في شيء أن تحب عدوك الذي يتحين الفرصة للانقضاض عليك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)} (الممتحنة)، أي علينا أن نتخذ من يعادينا في الدين عدوا، فلا نحبه ولا نصادقه ومن باب أولى لا نواليه.

والخلاصة أن المودة مع الكافر المحارب لله والرسول والذي عداوته بيّنة محرمة، ومن باب أولى موالاته والتحزب معه والتبعية له، لا لأنه كافر بل لأنه عدو لن يضيع فرصة لإيذاء المؤمنين، والمودة معه تسهل له أن يضرنا. ثم إن المودة تدفع الإنسان إلى أن يتشبه بالمحبوب، والله لا يرضى لنا أن نقتبس أية أخلاق من كافر محارب لدين الله، وبالمقابل إن المودة تجعل غير المؤمن الذي ليس عنده ما يدفعه إلى الحقد على الإسلام والمسلمين ومحاربتهما، يميل وهو يشعر أو لا يشعر إلى التشبه بالمؤمنين ثم الانضمام إليهم، ولهذا شرع ربنا أن نخصص جزءاً من مال الزكاة نتألف به قلوب بعض الكفار من أجل اجتذابهم للإسلام. ومخطىء من يظن أنه يكفي أن نبين للكفار محاسن الإسلام كي ينجذبوا إليه ويدخلوا فيه. قد يكفي هذا لهداية فئة قليلة من الذين وهبهم الله الحكمة والتعقل، لأن الغالبية العظمى من الناس تدخل في الأديان وتؤمن بها لأسباب وجدانية تجعلهم ينظرون إلى الحق الذي فيها فلا ينكرونه، بل يأخذون به وينضمون إلى المؤمنين به. ولا يمكن أن نجتذب الناس للإسلام إن كنا نكرههم ونحقد عليهم، نعم نحن لا نحب الضلال الذي هم فيه، ولا نحب منهم من يعادينا ويعادي ديننا، لكننا نحب الخير لجميع البشر مؤمنهم وكافرهم، ونحرص على إنقاذهم من النار لأننا نحبهم، لا لأننا نكرههم. إن كنت أكرهك ما الذي يجعلني أحرص عليك وأجتهد في محاولتي هدايتك؟. ما دمت أكرهك فلتذهب إلى الجحيم. نحن بشر وتحكمنا عواطفنا وأفكارنا ولا يمكن أن نجمع في قلوبنا الكراهية والعداوة للكفار مع الرغبة الحقيقية في هدايتهم، لأن ما خرج من القلب هو الذي يدخل إلى القلب.. ديننا دين الرحمة، ولا تحس القلوب بالرحمة وهي مملوءة بالعداء، لأن العداوة تولد البغضاء وتصاحبها، أما الرحمة فهي وليدة المودة ورفيقتها. كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لقومه بالهداية بكل صدق في أشد مواقف الإيذاء الذي ناله منهم. لن نستطيع أن نهدي البشرية ما لم نحبها، ولن يهتدوا ما لم يحبونا، ولن يحبوننا إن لمسوا منا الجفاء والكراهية. إن كنا نريد أن نكون على خطا محمد صلى الله عليه وسلم وأن نخرج الناس من الظلمات إلى النور كي ننال رضى الله وثوابه العظيم فعلينا أن نكون مثله رحمة للعالمين، والعالمين في القرآن تعني كل الشعوب مؤمنها وكافرها، بل وتعني غير البشر من مخلوقات. إن تبليغهم الرسالة ونحن نستشعر الكراهية لهم ليس هو البلاغ المبين الذي يقيم عليهم الحجة ويبرىء الذمة، ألم يوص ربنا موسى وهارون أن يتلطفا في دعوة فرعون وأن يقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو أن يخشى فيهتدي وينجو من عذاب الله. أرأيتم إلى التجار والباعة الذين يريدون أن يبيعوا بضاعتهم كيف يتقربون إلى الزبائن وهم كلهم حرص على كسب مودتهم وإعجابهم، السنا تجاراً مثلهم بضاعتنا هي دعوة الحق؟ يقول الشاعر:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة           ولكن عين السخط تبدي المساويا
ولست بهياب لمـن لا يهابنـي                ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا
فإن تدن مني تدن منك مودتـي               وإن تنأ عني تلقني عنـك نائيـاً
كلانا غني عـن أخيـه حياتـه                   ونحـن إذا متنـا أشـد تغانيـا

            عندما ترضى عن إنسان فإنك لا تكاد ترى إلا محاسنه، وإن أنت لم تر فيه إلا محاسنه فإنك ستعجب به ثم تحبه، وبالمقابل إن كنت ساخطاً على إنسان فإنك لا تكاد ترى فيه إلا معايبه، وعندها يستحيل أن تعجب به وأن تحبه. كيف سنكسب قلوب البشر لنجعلهم يعجبون بنا ويحبوننا فيدخلوا في ديننا الحق؟ إننا نمتلك أغلى وأرقى وأهم سلعة يمكن للبشرية أن تعرفها، لكننا تجار فاشلون، ننفر زبائننا منا بدل أن نجتذبهم إلينا. أطلقوا لقلوبكم العنان، واتركوها تحب وترحم كل شيء، وكل بشر، ولا تكون شدتها إلا على من يحاربها في دينها أو يخرجها من ديارها، وعندها سنتحول إلى أذكى وأمهر تجار، وسيكثر زبائننا ويدخلون في دين الله أفواجاً.

 

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين