المواطنة والعلاقة بغير المسلمين -12-

أمة متحابة متماسكة رغم الاختلاف

هنالك من المسلمين من يظن أنه محرم علينا أن نحب غير المؤمنين، بل حتى أن نبدأهم بالسلام، وأن نهنئهم في أعيادهم. وهم بكل نية طيبة يريدون الاستجابة لما أمرنا به ربنا في هذه الآية: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} (المجادلة). لكن ربنا حذر المؤمنين من كفار هم يهود المدينة، كانوا لهم محبين بينما أولئك الكفار يضمرون للمؤمنين أشد العداوة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)} (آل عمران)، والله هنا يثبت أن المؤمنين المخاطبين، وكانوا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يحبون هؤلاء الكفار من اليهود، ولا يدرون أن الآخرين يكرهونهم، وكان المؤمنون يؤمنون بالقرآن وبالتوراة التي يؤمن بها هؤلاء الحاقدون، بينما هم لا يؤمنون بالقرآن. ومع ذلك لم يلمهم الله على حبهم لأولئك، إنما بين للصحابة الكرام أن هؤلاء اليهود ليسوا جديرين بحبهم، لأنه كان حباً من طرف واحد، تقابله عداوة شديدة وكراهية وحقد من الطرف الآخر.

بالمقابل شهد الله للنصارى أنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، لأن منهم رهبان وقسيسون عبّاد لله، ولأنهم لا يستكبرون كما يستكبر اليهود. قال تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} (المائدة)، بينما كان يهود المدينة يخادعون الصحابة ويدعون أنهم مؤمنون بأن محمداً رسول الله، وأن القرآن وحي من الله، وإن كانوا هم باقين على دينهم، أي يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن كما نؤمن نحن برسلهم وكتبهم دون أن نتحول إلى دينهم. بينما النصارى هم الذين يمكن أن تثقوا بحبهم لكم، لأن منهم رهباناً متعبدين، ولأنهم لا يستكبرون على الناس، ولا على الحق، ويشهدون أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق من ربهم.

الحب غير الولاء

إن الحب، سواء في العلاقة بين الزوجين، أو العلاقة بين صديقين، شيء مختلف عن الولاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (المائدة)، والولاء يكون بين المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)} (الأنفال). الولاء أكثر من مجرد الصداقة والمودة، إنه تحالف وارتباط قد يبلغ حد الالتزام القانوني، لذلك نجد هذه الآيات تنفي علاقة الولاء بين أمة المؤمنين في المدينة المنورة والمؤمنين الذي لم يهاجروا وينضموا إلى دولة الإسلام، إنما بقوا في أرضهم ومساكنهم، مع أن المؤمنين إخوة، وبينهم المودة والرحمة على اختلاف قبائلهم أو أوطانهم. {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)} (الأنفال)، إذن من لم يهاجر من المؤمنين إلى المدينة المنورة ويلحق بأمة المؤمنين ليس له حق بولايتهم حتى يهاجر، لكن هذا لا يعني أنه لا حق له في محبتهم وصداقتهم، وهذه الآية دليل على أن الحب والصداقة ليسا هما الموالاة المحرمة علينا إلا مع المؤمنين، أي يمكنك أن تصادق شخصاً كافراً غير محارب للمسلمين وتحبه دون أن تواليه، لأنه لا يعقل أن يحرم علينا ربنا أن نحب أخاً لنا مؤمناً لأنه لم يلحق بنا في دولتنا إما لأن ظروفه لا تسمح له أو لأنه متمسك بموطنه وعشيرته ولا يحب أن يفارقه. للمؤمن على المؤمن حق ان يحب له من الخير ما يحب لنفسه، وأن يحبه في الله ويكون معه في أعلى درجات اللطف، لكن لا يواليه ما دام ممتنعاً عن الهجرة، أي لم ينضم إلى دولتنا ويحمل جنسيتنا، وهذا يرينا أن علينا أن نحب جميع المؤمنين في الأرض ونراهم إخوة لنا، لكن لا نواليهم ما لم يكونوا أعضاء في دولتنا التي نحن مواطنون فيها.

 وهذه آية أخرى يتضح لنا فيها اختلاف الولاء عن المودة والتحابب، قال تعالى عن الذي قُتل مظلوماً: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)} (الإسراء). فولي القتيل له صلاحية أن يصر على القصاص وقتل القاتل أو أن يعفو عن القاتل ويتنازل عن دم القتيل أو يرضى بالدية دون الثأر. {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} (المائدة)، أي يشكل المتوالون حزباً واحداً يربط الولاء بين أعضائه، ويعطيهم حقوقاً على بعضهم البعض ويفرض عليهم واجبات تجاه بعضهم بعضاً، ومع أن المواطنين في دولة واحدة تربطهم ببعضهم بعضاً علاقة الجنسية المشتركة والوطن الواحد، إلا أن علاقة الولاء مختلفة، لأنها لا تكون إلا بين المؤمنين، بينما المواطنة رابطة تتجاوز الدين والعرق والجنس.

 البنت البكر الصغيرة بالعمر لا تتزوج إلا بمن يرضاه وليها ويعقد هو قرانها  عليه: {الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا"، وحدثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا  بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا، وَرُبَّمَا قَالَ: وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا} (صحيح مسلم). وهذا يعني أن الولاء علاقة مختلفة عن مجرد المحبة والمودة، إذ وليها محدد لا يكون غيره ولياً لها مهما كان يحبها وكانت تحبه.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين