المواطنة والعلاقة بغير المسلمين -11-

المواطنة والانتماء عند المسلم -  2

 

بحكم عملي كطبيب نفسي وبخاصة عندما كنت أعمل في أبو ظبي استشارتني نساء من أديان وأعراق وثقافات مختلفة، وأحيانا تكون الخيانة الزوجية أو التعلق العاطفي بغير الزوج هي المشكلة التي من أجلها أتت هذه المرأة إلى الطبيب النفسي. كلنا يتوقع أن تكون المرأة المسلمة التقية وفية لزوجها لا تخونه لأن تقواها تمنعها. هذا صحيح لكن وجدت كل النساء من كل الأديان والشعوب عندهن نفس الميل الفطري للإخلاص للزوج أو الحبيب، وجدت ذلك عند المسلمات وعند المسيحيات ووجدته عند البوذيات والهندوسيات والكونفوشيوسيات، وعند الشرقيات والأوربيات، وعند المؤمنات والملحدات. هي فطرة المرأة لا تتغير، الأصل فيها أن تخلص للرجل الذي أحبته فلا يدخل قلبها رجل آخر مادام الأول فيه. وهكذا حب الأوطان فطرة عند كل الناس، طالما هم أناس أسوياء وغير فاسدين منحرفين. كل الآباء والأمهات يحبون أولادهم ويبذلون ما يستطيعون من أجل سلامتهم. صحيح أنني أحتسب عند الله ما أنفقه على أولادي، لكن المسيحي أو الهندوسي ليس أقل مني عطاء لأولاده. كل مولود يولد على الفطرة، والبشر كلهم يشتركون بالتكوين النفسي ذاته والميول ذاتها، وما علينا إلا أن نشاهد أفلاماً من أقوام ولغات وأديان مختلفة لنرى كيف أن النفس البشرية واحدة. لو شعر أبناء الأقليات في سورية أن المسلمين السنة يشاركونهم الوطن، ويعتبرونهم مساوين لهم في جميع الحقوق والواجبات، واقتنعوا أن ذلك حقيقي وليس تظاهراً، فإنهم لن يقلوا إخلاصاً وعطاء لسورية عن غيرهم أبداً.

 

لكن هل نصبح مواطنين سوريين وننسى أننا مسلمون نشكل بكافة لغاتنا أو ألواننا أمة واحدة كلنا ننتمي إليها؟ هل يمكن أن نكون مواطنين مع غير المسلمين دون أن يكون ذلك على حساب ديننا؟ وهل يحل لنا أن نحس برابطة بيننا وبين كفار لا يؤمنون بديننا؟

 

يفصّل ربنا في سورة النساء ما يتوجب على المؤمن إن قتل مؤمنا خطأً، فيقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)}. فمع أن المؤمن المقتول خطأ مؤمن فإن رب العالمين نسبه إلى القوم العدو للمؤمنين، الذين في الغالب ليسوا مؤمنين، لذلك قال من قوم عدو لكم وهو مؤمن، بهذا التأكيد على إيمان المقتول يؤكد أن قومه قد يكونون كافرين وقد يكونون مؤمنين، لأن المؤمنين يكونون أعداء للمؤمنين أحياناً، ومع أن المقتول مؤمن فإنه يعامل معاملة قومه مؤمنين كانوا أو كافرين، لا دية للمقتول منهم رغم أن المقتول تربطه بالمؤمنين أخوة الإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، أي هو واحد من أمة المؤمنين، لكنه من قوم عدو فلا دية له.

 

ومن ناحية أخرى لم يُذكر رسول من الرسل في القرآن إلا وتحدثت عنه بعض الآيات على أنه واحد من قوم، هم قومه، وهو منهم، بل كثيراً ما يقال عنهم إخوته أو إخوانه رغم كفرهم واستحقاقهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة. اقرؤا هذه الآيات عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)} (الأعراف).

 

خاطب ربنا الأنبياء بآنهم أمة واحدة تجمعها العقيدة والرسالة رغم تباعد أزمانهم وأماكنهم وأنسابهم. قال تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} (الأنبياء)، وقال أيضاً: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} (المؤمنون)... أي كان كل رسول ينتمي إلى أمة تربطها أخوة العقيدة هي أمة الرسل، وكان في نفس الوقت فرداً من قوم، هم قومه وهو منهم، وحتى لوط الذي بعث في غير قومه الأصليين قال تعالى عنهم وقد كانوا فاسقين "إخوان لوط": {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13)} (ق)، وما أكثر ما يخاطب الرسل أقوامهم قائلين: "يا قومي" يتم تخفيفها في القرآن دون أن يتغير معاناها، فتقرأ "يا قومِ" . وهذا يعني أنني من الممكن أن أكون من أمة الإسلام وفي نفس الوقت أنتمي لقومي السوريين. لا يتعارض شعوري بالأخوة والوحدة مع كل مسلم من أي عرق أو لون أولغة، مع شعوري أنني واحد من قوم أتشارك معهم الوطن ونتعاون جميعنا من أجل أمنه ورفاهيته. هل يتعارض ولائي لأسرتي الصغيرة أي زوجتي وأولادي مع انتمائي لقريتي أو قبيلتي؟ وقد يكون من أفراد أسرتي من هو كافر، أليست المسيحية التي أباح الله لي أن أتزوجها إن كانت محصنة، كافرة؟ أما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} (المائدة). إذن يمكنني أن أكوِّن أنا المسلم المؤمن مع امرأة كافرة بلا جدال - لكنها من أهل الكتاب - أسرة متحابة تكون لها ذرية، أخوالهم كفار، وأعمامهم مسلمون.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين