المواطنة والعلاقة بغير المسلمين ـ 15ـ


مواطنون لا ذميون

هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلم من أهل المدينة عدد كبير، وما أن استقر به المقام حتى وضع ما يسمى صحيفة المدينة أو وثيقة المدينة، التي يقول عنها الدارسون: إنها أول دستور مكتوب في التاريخ. كان مايزال كثيرون من أهل المدينة مشركين، وكان في المدينة ثلاث قبائل يهودية. الوثيقة نظمت العلاقات بين من يعيش بالمدينة من المؤمنين والمشركين واليهود. تبدأ الصحيفة بالقول إن المؤمنين المهاجرين من قريش والأنصار من أهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم أي انضم لهم في المدينة وجاهد معهم يشكلون كلهم أمة واحدة من دون الناس. {هـذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) (بين المؤمنين والمسلمين من قريش و(أهل) يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس.} (وثيقة المدينة). وبعد عديد من الفقرات المتعلقة بأهل يثرب العرب جاء ذكر اليهود وأنهم أمة مع المؤمنين، لهم دينهم وللمسلمين دينهم، وأن لليهود التابعين لدولة المدينة النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، والأسوة هنا تعني مساواتهم بالمؤمنين. يقول ابن منظور في لسان العرب: {والأُسْوَةُ والإسْوَةُ:  القُدْوة..... والقوم أُسْوةٌ في هذا الأَمر أَي حالُهم فيه واحدة}، أي لم يكن اليهود في دولة المدينة ذميين لأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يدخلها غازياً وفاتحاً، بل جاءها مهاجراً إليها، فرحب به فريق كبير من أهلها، وقالوا طلع البدر علينا. كان لابد للنبي صلى الله عليه وسلم من أن يتولى أمر المدينة، فيكون القائم بشؤونها قيام الأمير أو الرئيس، لكنه كما أكد أكثر من مرة لم يكن ملكاً، ولم يتصرف كملك، ولم يتمتع بما يتمتع به الملوك عادة من ميزات. كان ولي الأمر في المدينة، دون أن يكون ملكاً، فقد كان الغريب يدخل المسجد، ومحمد صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لا يتميز عليهم بشيء، فيسأل هذا الغريب: أيكم محمد؟.

المهم، عاش اليهود مع المسلمين سنين كمواطنين معترف لهم أنهم أمة، وأنهم لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما على المؤمنين، أي المساواة التامة، ومعترف لهم بدينهم لا يتدخل فيه أحد {لهم دينهم وللمسلمين دينهم} (وثيقة المدينة)..

وهنالك في مكة، وقبل الهجرة بسنين، نزلت سورة الكافرون، تعلن استقلالية المؤمنين بدينهم ومعبودهم عن دين المشركين وما يعبدون من آلهة ما أنزل الله بها من سلطان. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (الكافرون). لكم دينكم ولي دين أي لي ديني. رحم الله سيد قطب الذي فهم منها وجوب البراء من الكفار، والمفاصلة عنهم، وعدم مداهنتهم أو مجاملتهم على حساب الدين الحق.. لقد فاته أن يلحظ أن الآيات التي تُظهر المفاصلة عن الكفار تعلن في نفس الوقت الاعتراف بهم وبدينهم، لا على أنه حق، وإنما لهم الحق في عبادة من يشاؤون، وهم على دين مستقل ومنفصل عن الإسلام، لكنه دين، ومن حق أهله أن يعترف باقي المجتمع بهم وبه. وهكذا في هذا الزمان أتشارك أنا المؤمن الذي يقول لا إله إلا الله المواطنة  مع من هم كفار برأيي، لكن لا أعبد ما يعبدون، ولي ديني ولهم دينهم، ولا حق لي أن أمارس عليهم أي ضغط أو إكراه بخصوص دينهم وعباداتهم. إنه اعتراف يشبه اعتراف دولة بأخرى في هذا الزمان، مع وضوح الحدود الفاصلة بين البلدين المتجاورين.

إذن هنالك في الإسلام شكل آخر للعلاقة مع غير المسلمين في بلادنا، لا يكون التعامل معهم فيه على أنهم مجرد ذميين حقوقهم مختلفة عن حقوق من عاهدوهم وقبلوهم في ذمتهم، هو المواطنة التي تُلَخص حقيقة التشارك بالوطن على قدم المساواة والندية. وهذا النمط من العلاقة مع شركائنا في الوطن من غير المؤمنين الذي مارسه النبي صلى الله عليه وسلم والأمة الإسلامية الناشئة، يرفع عنا في هذا الزمان أي حرج شرعي إن نحن رغم إيماننا والتزامنا قبلنا المواطنة المشتركة مع غير المؤمنين في بلداننا.

وبهذا تكون الدولة في سورية على سبيل المثال دولة للسوريين، لا دولة للمسلمين من دون الناس، وقلما تجد دولة في العالم جميع أهلها من دين واحد ومذهب واحد.. فحتى لو كان من أتشارك معه الحياة كافراً بحسب عقيدتي، فلا شيء يمنع أن أتعامل معه تعامل مواطن ومواطن في دولة واحدة، له ما لي وعليه ما علي. كما إنها ستكون دولة سورية، لا دولة إسلامية، لكن بمقدور المؤمنين السنة فيها أن يطبقوا ما شاؤوا من ثوابت الشريعة الإسلامية على أنفسهم، لا على سواهم.

عندما كان المسلمون فاتحين متغلبين على الشعوب التي تحول فيها غير المسلمين إلى ذميين قاموا بفرض أحكام الشريعة الإسلامية على الجميع بما فيهم الذميين على اختلاف أديانهم، وإن كانوا تساهلوا معهم بالخمر والخنزير غير المحرمين في شرائعهم. لكن الحال مختلفة الآن، وللإسلام أحكامه التي تناسب حالنا الراهن. وهذا ما سأفصل فيه إن شاء الله في الفصل القادم عن التعددية في دولنا المنشودة، التي لن تكون دول مواطنة ولن تكون ديمقراطية حقاً إلا بالعلمانية، أو بالتعددية الشاملة للتشريعات والقوانين إضافة للثقافة والسياسة.

تم بحث المواطنة والعلاقة بغير المسلمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين