المنهـج القويم للداعية الحكيـم (3)

السلوك الاجتماعي والدعوي

أولى الإسلام عناية كبرى، للعلاقات الأسريّة والاجتماعيّة والإنسانيّة، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة مما يقيم هذه العلاقات، ويحكم روابطها، وينظّم أسسها ويقوّيها إلا أمر به، ودعا إليه، وحثّ عليه، على أساس من الحقوق والواجبات المتكافئة، وإن الناظر في تنظيم الإسلام لتلك العلاقات ليشهد أنها معجزة من معجزات الإسلام الكبرى لأنه جاء في وقت كانت تخيّم فيه على الإنسانيّة بعامّة، روح الأثرة وتقديس الذات، ولا يقام لتلك الروابط أي اعتبار إلا بمقدار ما يرى الفرد أنها امتداد لذاته، وتحقيق لكيانه، أو أن مصلحته الحقيقيّة في اعتبارها ومراعاتها.

ولكنّ الأمر المؤسف حقاً، أن يرى المسلم أن كثيراً من المسلمين اليوم لا ينظرون إلى تلك العلاقات وما يتّصل بها من حقوق وآداب، ولا يعطونها من الأهمّية إلا بمقدار ما يحيط بها من الوعد والوعيد، أو ما يكون لها من حكم التغليظ والتشديد، فإذا قيل لهم إنها من قبيل الفضائل والآداب، رأيت أنهم يزهدون بها زهادة المؤمن الحق بالحرام أن يقترب منه، أو يفكّر فيه، وبمثل هذه النظرة وهذا الموقف اختلّت كثير من الروابط الاجتماعيّة، وتمزّقت العلاقات الأسريّة، وأصبحت لا تمثّل حقيقة ما جاء به الإسلام وحثّ عليه

وفي الوقت نفسه نرى كثيراً من المنظّرين والمفكرين الغربيين قد انتبهوا إلى أهميّة هذه العلاقات وخطورتها من وجهة مادّية دنيويّة بحتة، فهي سبيل للربح الماديّ، وتحقيق النجاح في رواج السلع، والغلبة في التنافس الاقتصاديّ وهي من جهة أخرى سبيل التفوّق الاجتماعيّ والأدبيّ، وذيوع الصيت، واكتساب الشهرة، وهذه أهمّ مدخل لتحقيق الطموحات المادّية الجامحة.

    فنجد مفكراً أمريكياً هو " ديل كارنيجي " مؤسّس معهد العلاقات الإنسانيّة في نيويورك يضع كتابه: " كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟ " وقد ضمّنه مبادئ وقواعد تستهدف كسب قلوب الناس، وإتقان فنّ التعامل معهم، وقد ألّفه ليكون مرجعاً عمليّاً لطلاب معهده، ونال بهذا الكتاب شهرة واسعة، وراج كتابه رواجاً مذهلاً، حتى إنه طبع أكثر من خمس وخمسين طبعة خلال اثنتي عشرة سنة، وترجم إلى أكثر من خمسين لغة من لغات العالم ووصفه بعض النقاد الأمريكيين بأنه: " أوسع الكتب الجديّة انتشاراً في التاريخ باستثناء الكتب السماويّة " وكل ذلك يعكس حاجة البشر الفطريّة، مهما تعدّدت أجناسهم وشعوبهم، وأديانهم وثقافاتهم، إلى اكتساب قلوب الناس، ونيل مودّتهم ورضاهم، فما يسرّك ويرضيك خليق بأن يسرّ كل إنسان ويرضيه، وما يسوؤك ويحزنك، يسوء كل إنسان ويحزنه، ولعل هذا من ميراث الفطرة الذي لا تستطيع أيّ عادية من عوادي التحريف والتبديل أن تعدو عليه، أو تنتقصه.

وإن مما يقوّي إيمان المؤمن بدينه ويزيده، أن يرى أن كل ما رآه ذلك الباحث بعد بحثه الطويل وجهده ونصبه، لا يزيد في شيء منه عما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم من أسس العلاقات الاجتماعية ومبادئها، وآدابها ومُثُلها ولكن الفارق البعيد بين ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين ما توصّل إليه ذلك الباحث، أن ما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم مجرّد عن تلك النظرة النفعيّة القاصرة، وقائم على أساس من الحرص على مرضاة الله تعالى، وابتغاء مثوبته، ورغبة المؤمن الخالصة بالتحلّي بمكارم الأخلاق والتأسّي بمن له الخلق العظيم صلوات الله وسلامه عليه.

وبعبارة أخرى: إن المؤمن ليلتزم بمكارم الأخلاق لأنها مكارم أخلاق، لا لشيء آخر، فالقانون الأخلاقيّ ـ في نظر المسلم ـ يكفيه لكي يؤكّد سلطته أن يقدّم لنا العمل على أنه إلزاميّ، وحسن في ذاته بقطع النظر عن أيّة نتيجة مستحسنة أو مستهجنة، إنه يفرض نفسه بنفسه على الضمير.

وتلك هي الفطرة التي يأتي الأمر الإلهيّ، والتشريع السماوي مقوّياً لها، ومتلائماً معها، وكأنه الجزء المتمّم لقانونها، والسلك المحقّق اتّصال دارتها.

ولكن السؤال المحزن حقاً:

أين تلك الصورة المشرقة لأخلاق المسلم وقيمه وآدابه التي أشرقت على البشريّة في يوم من الأيام، فدخل الناس بإشراقها في دين الله أفواجاً؟

    إن أخشى ما نخشاه أن نكون حجر عثرة في طريق انتشار الإسلام وازدهاره، ونحن نلقي اللوم على أعدائنا، وننادي بالويل والثبور، وعظائم الأمور على ما تقترفه أيديهم في حقّنا، وننسى إساءتنا في حقّ أنفسنا وإخواننا والآخرين في هذا العالم.

ولن نستطيع في هذه الرسالة الصغيرة الحجم، أن نعرض عليك تفصيلات أسس العلاقات الاجتماعية التي أتى بها الإسلام وآدابها ومُثُلها، فذلك ما تخصّصت بالحديث عنه مؤلّفات كثيرة وشهيرة على مدار التاريخ الإسلاميّ، وهو يأخذ أبواباً عريضة في دواوين السنّة الشريفة، وكتب الحديث والسيرة والشمائل النبويّة، ولكننا سنعرض بإجمال أنواع تلك العلاقات، والأسس الأخلاقيّة والتربويّة التي أقامها الإسلام عليها، وتميّز بها منهجه ودعوته وذلك من خلال النقطتين التاليتين:

1ً- أنواع العلاقات الاجتماعيّة والدعويّة:

يشمل السلوك الاجتماعي والدعوي العلاقات التالية:

أ - القرابة: وتشمل الوالدين والأسرة والرحم

ب - غير القرابة: وتشمل الجوار، وسائر الناس.

ج - من هو أكبر، والأقران، ومن هو أصغر.

د- أهل العلم والدين والاستجابة.

هـ ـ أهل الانحراف والفساد.

2- أهمّ الأسس التربويّة والأخلاقيّة:

أ- أداء الحقوق الماديّة والمعنويّة.

ب- الأدب مع الكبير، والرحمة بالصغير، وتوقير أهل العلم والفضل، وخفض الجناح للمؤمنين.

ج- احترام مشاعر الآخرين، ومراعاة خواطرهم وأحاسيسهم.

د- بذل المعروف، وإغاثة الملهوف، ونشر الخير، وإفاضة البرّ والحرص على فعل كل ما يحبب، وترك كل ما ينفّر، والمسارعة في خدمة الضعيف وذي الحاجة.   

هـ- كفّ الأذى، والحذر من الإساءة إلى أحد من عباد الله.

و- دفع السيّئة بالحسنة، بالعفو عمّن ظلم، وصلة من قطع، وإعطاء من حرم.

ز- التضحية بالحقوق الخاصّة، والإيثار بالمحابّ ابتغاء مرضاة الله تعالى.

واعلم أنه لا يمكن لهذه العلاقات الاجتماعيّة والدعويّة أن تنبت على أصولها، وتؤتي ثمراتها وبركاتها إلا إذا انطلقت من الإيمان بالله تعالى، والاحتساب لوجهه الكريم سبحانه، وكانت دوافع المؤمن إليها خالصة من كل شائبة.

    وإذا كان كل مسلم مكلّفاً بهذه التكاليف الإلهيّة، فأولى الناس بذلك أهل العلم والدعوة إلى دين الله تعالى، وطلاب العلم أن يأخذوا أنفسهم بإحكام هذه العلاقات ومراعاة حدودها وآدابها.

    وما أشدّ حاجة الأمّة الإسلاميّة اليوم إلى تلك النوعيّة المتميزة الفريدة، التي يغنيها قليل العلم النافع عن كثيره، ويبارك الله بالقليل من جهدها، فيثمر أينع الثمرات، ويبلغ بها أرقى المنازل والدرجات.

ما أحوج الأمّة اليوم إلى ثلّة كريمة، من العلماء الربانييّن، والدعاة المرشدين، الذين يتأسّون برسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم كلّه، وبخاصّة في أخلاقه وأسلوب دعوته، وحكمته وسعة صدره، ولقد أثنى الله على أخلاق نبيّه صلى الله عليه وسلم أعظم الثناء، فقال سبحانه: {وإنّكَ لَعلى خُلُقٍ عظيم (4)} القلم.

هذا وإن عظمة أخلاقه صلى الله عليه وسلم تتجلّى في جمعها لأربع مزايا رئيسة، لم تجتمع لأحد سواه، وأنها حازت ذروة المستوى الأخلاقي الأكمل، الذي لم يتهيّأ لأحد قبله، ولا لأحد بعده.

ومن هنا عدّ كثير من العلماء أخلاقه صلى الله عليه وسلم معجزة من أعظم المعجزات التي أيّده الله بها، وعلماً من أعلام نبوّته، وقد وصف ببعض ذلك في الكتب السماويّة السابقة، كما جاءت صفته:     " يغلب حلمه غضبه، ولا تزيده شدّة الجهل عليه إلا حلماً ".

= فأما المزايا الأربع، التي اجتمعت في أخلاقه صلى الله عليه وسلم فهي:

ـ المزيّة الأولى: أنها أخلاق غير متكلّفة، بل هي طباع فطريّة زكيّة، وسجايا نفسيّة مكينة، هي طوع الإرادة، ومنية السجيّة، والمتكلّف قد يغلبه الطبع الأول، فيعود إلى طبعه، ويدع ما تكلّفه، وهو لا يكون على سيرة واحدة، وإلى هذه المزيّة الإشارة بقول الله تبارك وتعالى: {فبِما رحمةٍ من اللهِ لِنتَ لهم، ولو كنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لانفضُّوا من حولِك} آل عمران /159/.

ـ والمزيّة الثانية: أنها جمعت فضائل الأنبياء السابقين وكمالاتهم كلّها وزادت عليها، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: {أُولئكَ الذينَ هدى اللهُ، فبهداهُمُ اقتَدِه} الأنعام / 90 /.

كما تحدّثت عنه أحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:

(إنّ مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتاً، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون به ويقولون: ما أحسن هذا إلا موضع هذه اللبنة ! فأنا اللبنة وأنا خاتم النبييّن).

وفي الحديث أيضاً: (إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق).

ـ والمزيّة الثالثة: أنها جمعت بين الكمالات والفضائل الإنسانيّة الفطريّة في تناسق عجيب، وتلاؤم بديع، لم تعرفه الإنسانيّة قبل دين محمّد صلى الله عليه وسلم وهديه، كالشدّة من غير عنف، واللين من غير ضعف، والقوّة في الحقّ، والعفو عند المقدرة.

ـ والمزيّة الرابعة: أن أخلاقه هي أخلاق القرآن وفضائله وآدابه، لا تنفكّ عنه، ولا تحيد، وهي التطبيق العمليّ لكل ما جاء فيه، وهذا ما أفادته السيّدة عائشة رضي الله عنها، عندما سئلت عن خُلُق النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: " كان خُلُقه القرآن ".

وأما المستوى الأخلاقيّ الأكمل الذي كانت عليه أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه، فيتجلّى بمعرفة مراتب الأخلاق الفاضلة، وما كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهي تُصنّف في مراتب ثلاث:

ـ المرتبة الأولى: الإحسان إلى الخلق ابتداءً، وهذه المرتبة قد يتّصف بها كثير من عباد الله.

ـ المرتبة الثانية: الصبر على الأذى، والعفو عن الإساءة، وهي مرتبة الخواصّ من عباد الله تعالى، وعلى رأسهم أنبياء الله ورسله، عليهم الصلاة والسلام.

ـ المرتبة الثالثة: مقابلة الإساءة بالإحسان، وشدّة الأذى بالحلم والصفح، وهي المرتبة التي لم تكن إلا لأولي العزم من الرسل، وقد انتظم عقد دررها، وحاز أعلى كمالها، وذروة الشرف فيها، سيّد الرسل وخاتمهم صلوات الله عليه وسلامه، فهي لم تجتمع بكمالها وشمولها لأحد قبله، ولن تجتمع لأحد بعده، ومن هنا كانت معجزة من معحزاته، وعلماً من أعلام نبوّته، وقد خاطبه الله تبارك وتعالى بقوله: {فاصبِر كما صَبرَ أُولو العَزم مِن الرُّسُل (35)} الأحقاف.

فإذا كان الصبر على الأذى خلقاً حسناً، وهو من المرتبة الثانية، فإن الصبر الجميل أحسن منه وأجمل وهو ما خوطب به المصطفى صلى الله عليه وسلم بقول الله سبحانه: {فاصبِر صَبراً جميلاً} المعارج / 4 /.

قال الإمام القرطبيّ رحمه الله تعالى:

" الصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله ".

ـ وإن من أجمع الآيات التي أُمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، قول الله تبارك وتعالى: {خُذِ العفوَ، وأمُر بالعُرفِ، وأَعرضْ عنِ الجاهِلين} الأعراف / 199/.

وهي آية جامعة فذّة، جمعت بين الأمر بالصفات الإيجابية، وتحديد الموقف ومنهج التعامل مع ذوي الصفات السلبيّة.

ـ قال الإمام جعفر بن محمد رحمه الله: " أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليست في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية ".

ـ وروي عن أُبيٍّ رضي الله عنه، قال: " لمّا أنزل الله عزّ وجلّ على نبيّه هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا جبريل ؟)، قال: (إن الله أمرك، أن تعفو عمّن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وانظر مختصر ابن كثير ج2ص76.

ـ والعفو: هو الفضل، وكلّ ما أتى من غير كُلفة.

ـ والعرف: هو المعروف، وهو كلّ خصلة حسنة، ترتضيها العقول، وتطمئنّ إليها القلوب.

وبعد؛ فلعلّ فيما ذكرنا مقنعاً للطالب، وغنية للراغب، ومنهجاً يوضّح المعالم للمبتدي، ويرسم السبيل للمقتفي، ولا يستغني عنه الراسخ المتمكّن، ويحتاج بيانه إلى دراسة مفصّلة، لا يتّسع المقام لها هنا ودونك كتب السيرة والشمائل، والتربية والتهذيب، لتجد فيها التدليل والتمثيل، من المواقف النبويّة الفذّة، والتشريعات التربويّة، التي لم تتطاول إليها حتى اليوم أعناق كبار المشتغلين بالتربية، المتعمّقين في سبر أسسها ومبادئها، وهي كانت ولا تزال معيناً فيّاضاً، ومنهلاً معطاءً، لكل وارد ظمآن، ومتلهّف عطشان.

خاتمة في ذكر وصايا جامعة للداعية الحكيم

    لقد سبق لنا في ثنايا المباحث السابقة ذكر وصايا متنوّعة، جاءت في سياقها ومناسبتها، ونحبّ هنا أن نختم هذه الرسالة بجملة وصايا، نرى أنها تحمل صفة العموم والشمول، وهي ذات أهمّية خاصّة، ينبغي لطالب العلم أن يوليها ما تستحقّ من العناية والاهتمام، وينظر في نفسه أين هو منها، فعسى أن يكون فيها نفع وموعظة وذكرى، فإليكها، وقد بلغت مبلغ عدّة الشهور عند الله: 

1 ـ اعلم أن تقوى الله تعالى والقرب منه سبحانه، أعظم سبب من أسباب العلم والفهم، والفتح والتوفيق قال تعالى: {واتّقُوا اللهَ، ويُعلِّمُكُمُ اللهُ} البقرة / 282 /، وأن أعظم تكرمة للعبد ومنحة أن يلهمه الله طلب العلم، ويفتح عليه في هذا السبيل، فاحذر أن تحقر نعمة الله عليك، أو تقابل هذه النعمة بالتفريط والإهمال، فإنها سرعان ما تزول عنك، فتنقطع عن الطريق وتحرم فضلها وبركتها.

 2 ـ احرص على صحبة العلماء ومجالستهم، وأحبّهم وتواضع لهم، واحفظ غيبتهم ودافع عنهم، وانصح المسلمين بالانتفاع منهم، فهم ورثة الأنبياء، وهم " أهل الذكر " و" أولو الأمر " الذين أمرنا الله بالرجوع إليهم والأخذ عنهم فقال سبحانه: {فاسألُوا أهلَ الذكرِ، إن كُنتم لا تعلمون (43)} النحل.

وقال تعالى: {ولو رَدّوهُ إلى الرسولِ، وإلى أولي الأمرِ منهم لعلمَهُ الذينَ يَستنبطونَهُ مِنهُم (83)} النساء.

3 ـ لتكن لك أهدافك العلميّة السامية، التي تهفو إليها نفسك، وتتعلّق بها همّتك، وهي قطعاً غير نيل الشهادات العلميّة، والألقاب التي قد تدخل الغرور على ذويها، دون أن يكونوا على أثارة من علم.

4 ـ ليكن لك مذكّرة علميّة، وأخرى شخصيّة، تكتب في الأولى الفوائد العلميّة التي تلتقطها من أفواه المشايخ والعلماء، وتكتب في الأخرى أهمّ ما يقع لك من الأمور التي فيها عبرة وفائدة، ولا تغترّ بقوّة حفظك الحاضر، فإن توالي الأزمان والأحداث ينسي بعضه بعضاً، ولا تغفل تاريخ ما تكتب، فإن للتاريخ أهمّيته الخاصّة، وربما فقد الخبر قيمته إن لم يعرف تاريخ وقوعه.

5 ـ احرص على النظام في حياتك كلها، فإنك تكسب من وراء ذلك وقتاً كبيراً، كان حقّه الهدر لولا تنظيم الوقت، وضبط الأعمال.

واجعل لكل وقت ما يناسبه من الأعمال والمطالعات، وقراءة الدروس أو اللقاءات والزيارات.

6 ـ نظّم برنامجاً دقيقاً لدروسك ومطالعاتك، وتابع تطبيقه بدقّة، وتدارك أسباب التقصير فيه، إذا قصّرت، واقطع كل العلائق التي تشغلك عن تنفيذه وتطبيقه، واستعن بمن يقوّيك على أدائه على أكمل وجه.

وينبغي أن يكون برنامجك على ثلاثة أنواع: برنامج يوميّ، وآخر أسبوعيّ، وثالث شهريّ. ولكل من هذه البرامج الثلاثة، واجباته وتكاليفه.

7 ـ احرص على الاتّزان في أداء الواجبات، واحذر من الإفراط أو التفريط فليس في أحدهما إلا تضييع واجب، أو التقصير في مسئوليّة.

وكن دائم المحاسبة لنفسك، ما قدّمت؟ وما أخّرت؟ وما أسباب التقصير، وما السبيل إلى تلافيها.؟

8 ـ إياك والمراء في مسائل العلم والجدال، مع الأقران فضلاً عمّن يكون أكبر منك، وأسبق في هذا السبيل، فإنه يوغر الصدور، ويزرع الإحن في القلوب ويورث البغضاء والعداوة، والتدابر والقطيعة، وقد يكون هذا المنزلق باباً لصدّ الطالب عن سبيل العلم، وولعه بالسقطات والعثرات، فلا يجني إلاّ تجميع السيّئات، وهبوط الدركات، وربما دخل الشيطان إلى بعض القلوب، وسوّل لها أنها تنتصر للدين والحقّ، وهي لا تنتصر إلاّ لرعوناتها وأهوائها.

فليس لطالب علم أن يجادل في مسائل العلم إلاّ بعد أن يتعلّم أدب الخلاف العلميّ، ويأخذ نفسه بآداب الإسلام التربويّة، التي تحدّثنا عنها في المبحث الثاني.

9 ـ أدم مذاكرة العلم، والبحث والمدارسة، فحياة العلم مذاكرته، واعلم أنه لا شيء يجني على العلم مثل هجره والانشغال عنه، وقد رأينا من بعض طلاّب العلم من نسي أمّهات مسائل العلم والفقه، لانصرافه عن العلم، وانقطاعه عن الكتب والبحث، ولقد أصبحت الشهادات العلميّة، والألقاب العريضة، سبباً لفتور الهمم، واستيلاء الغرور على القلوب.

10 ـ خذ نفسك بالعزائم، وكن ذا همّة طموح، واحذر من التواني والكسل، فقد قيل في الحكمة: " إنّ العلم إذا وهبته كلّك، وهبك بعضه "، فكيف بك إذا لم تهب العلم إلا بعضك؟ فماذا تنال منه.؟

وقديماً قال بعض السلف: "من لم تكن له بدايةٌ محرقة، لم تكن له نهايةٌ مشرقة ".

11 ـ احرص على العلم النافع، وإيّاك ومالا نفع فيه من العلوم، أو كان ضعيف الأثر والجدوى، فقد تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع.

12 ـ إيّاك والغرور بما معك من العلم، وانتقاص أهل العلم والسبق في هذا السبيل، فإنه من أعظم الآفات المهلكة، وهو دليل ضعف العقل وقصور الفهم، وسبب لحرمان الله للعبد من بركة العلم ولذّته ومثوبته، وكفى بالمرء جهلاً، أن يغترّ بما معه من العلم.

وختم الختام:

إنما تنصب نفسك في تحقيق هذا المنهج، على قدر شعورك بالعبء والمسئوليّة، وعلى قدر معرفتك بفضل العلم، ومنزلة العلماء عند الله، وعلى قدر وضوح الهدف والغاية في نفسك، وعلى قدر ما أوتيت من الهمّة والعزيمة.

واعلم أن ما سطّرته لك في هذه العجالة، لا يمثّل كل شيء، ولكنه خلاصة جامعة نافعة بإذن الله، فإذا أردت النفع لنفسك، وأخلصت القصد في علمك نفعك الله بهذا القليل نفعاً عظيماً، وبارك الله في عمرك وعلمك، وعملك ودعوتك، وجهادك وبَذلك وكنت على قدم النبوّة والأنبياء، ورأيت أطيب الثمرات، قرّة لعينك في الحياة الدنيا، ولأجر الآخرة أعظم وأكبر.

 وفّقني الله وإيّاك لما فيه حبّه ورضاه، ولا تنسني من صالح دعواتك، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين