المنصور بالله أبو يوسف يعقوب بن يوسف الكومي القيسي

 

 

ثالث أمير في دولة الموحدين 

 

 

في السابع عشر من ربيع الآخر من عام 595 توفي، عن 41 سنة، المنصور أبو يوسف، يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الكومي القيسي، ثالث أمير للمؤمنين في دولة الموحدين في المغرب والأندلس، وباني مدينة الرباط في المغرب.

 

كانت أم يعقوب أم ولد رومية اسمها سحر، وولد يعقوب سنة 554 في مراكش في إمارة جده عبد المؤمن أول خلفاء الموحدين، والذي توفي سنة 558، ونتوقف قليلاً لنتحدث عن الجد عبد المؤمن، إذ هو مؤسس دولة الموحدين التي خلفت دولة الملثمين وقضت عليها، ثم الوالد يوسف لأهمية ذلك.

 

ولد عبد المؤمن بن علي الكومي سنة 487 في مدينة تاجرت بالمغرب، قرب تلمسان، والكومي نسبة إلى كومية إحدى قبائل البربر،  ونشأ فيها طالب علم، وأبوه صانع فخار، وحج والتقى بمحمد بن عبد الله بن تومرت، فتصادقا وانتهى الأمر بأن ولي ابن تومرت ملك المغرب الأقصى، وادعى أنه المهدي المنتظر، وتلقب بالمهدي القائم بأمر الله، وجعل لعبد المؤمن قيادة جيشه، واختصه بثقته، ولما توفي المهدي سنة 524 اتفق أصحابه على خلافة عبد المؤمن، فنهض للغزو والفتوح وقاتل الملثمين بنى تاشفين فاستأصلهم، وقتل آخرهم إبراهيم ابن تاشفين ودخل مراكش سنة 541.

 

وعبر عبد المؤمن من سبتة إلى الأندلس في سنة 538 ونزل بجبل طارق وأسماه جبل الفتح، وفيه بايعه وجوه أهل الأندلس، وكان عبد المؤمن سري الهمة، نزيه النفس، شديد الملوكية كأنه كان ورثها كابراً عن كابر، لا يرضى إلا بمعالي الأمور، عاقلا حازما شجاعا موفقا، كثير البذل للأموال، شديد العقاب على الجرم الصغير، عظيم الاهتمام بشؤون الدين، محبا للغزو والفتوح، أنشأ الأساطيل، وأخضع المغربين الأقصى والأوسط، واستولى على إشبيلية وقرطبة وغرناطة والجزائر، وطرد الفرنج الصقليين من سواحل تونس وطرابلس الغرب، فلم يعد لهم بها مطمع، وضرب الخراج على قبائل المغرب، وتوفي في رباط سلا، في طريقه إلى الأندلس مجاهدا، ونقل إلى تِينمَلَّل فدفن فيها إلى جانب قبر ابن تومرت.

 

وكان عبد المؤمن قد عهد بالأمر لابنه الأكبر؛ محمد، وبايعه الناس وكتب ببيعته إلى البلاد، ولكن لم يتم له الأمر بعد وفاة والده، فقد كان يشرب الخمر، مختل الرأي جباناً كثير الطيش، فاضطرب أمره واختلف الناس عليه فخلعه بعد 45 يوماً أخواه يوسف وعمر، وكانا من النجباء ذوي الرأي، ثم سلم عمرٌ الأمر إلى أخيه يوسف، حمله على ذلك فرط عقله وإيثار دينه وحب المصلحة للمسلمين، فبايعه الناس واتفقت عليه الكلمة.

 

أما أبوه يوسف، أبو يعقوب، فكان فقيهاً حافظاً متقناً، لأن أباه عبد المؤمن هذبه وقرن به وبإخوته أكمل رجال الحرب والمعارف، فنشأوا في ظهور الخيل بين أبطال الفرسان، وفي قراءة العلم بين أفاضل العلماء، وولاه أبوه في حياته إمارة أشبيلية، وكان يوسف يميل إلى الحكمة والفلسفة أكثر من ميله إلى الأدب وبقية العلوم، وكان جمّاعاً مناعاً ضابطاً لخراج مملكته، وضرب دنانير يقال لها اليوسفية منسوبة إليه، عارفاً بسياسة رعيته، وكان ربما يحضر حتى لا يكاد يغيب، ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نواب وخلفاء وحكام قد فوض الأمور إليهم لِـما علم من صلاحهم لذلك.

 

وشرع يوسف في استرجاع بلاد المسلمين في الأندلس من أيدي الفرنج، واستنفر قبائل العرب من هلال بن عامر فأتوه من القيروان وما حولها فأسكنهم نواحي أشبيلية وقرطبة، فاتسعت مملكته بالأندلس، وصارت سراياه تصل مغيرة إلى ضواحي طليطلة عاصمة مملكة ليون وقشتالة وأعظم مدنهم آنذاك، وحاصرها في سنة 568 فتنادى الفرنج لصده واجتمعوا عليه، واشتد الغلاء في عسكره، فرجع عنها وعاد إلى مراكش.

 

وفي سنة 575 وسع يوسف دولته شرقاً فوصل تونس وفتح مدينة قفصة، وفي سنة 580 دخل الأندلس في جيش كبير، فيه ابنه يعقوب، واتجه غرباً حتى وصل شنترين Santarem، على بعد 65 كيلاً من لشبونة، عاصمة البرتغال اليوم، فحاصرها شهراً ثم أصابته طعنة رمح مات منها في رجب سنة 580، وحمل في تابوت إلى إشبيلية ثم إلى تيمنلل حيث دفن مع أبيه عبد المؤمن وابن تومرت.

 

كان يعقوب في السادسة والعشرين عندما خلف أباه في سنة 580، فواجه تردداً من بعض إخوته وعمومته الذين استصغروه أو لم يرونه أهلاً للإمارة لما كانوا يعرفون من نزوات صباه، فتلكؤوا في بيعته وهو في الأندلس، فلما استوسق أمره عبر البحر بعساكره وسار حتى نزل مدينة سلا، وبايع بها أهل المغرب، فجاءه  وبايعه من كان تلكأ من أعمامه من ولد عبد المؤمن بعد ما ملأ أيديهم أموالاً وأقطعهم الأقطاع الواسعة.

 

وكان والده قد شرع في تخطيط مدينة قبالة سلا، تليق بعاصمة الخلافة، أسماها رباط الفتح، واختطها ورسم حدودها وابتدأ في بنيانها، ثم عاقه الموت المحتوم عن إتمامها، فشرع يعقوب في بنيانها إلى أن أتم سورها، وبنى فيها مسجداً عظيماً كبير المساحة واسع الفناء جداً، ذا صومعة كبيرة، هي اليوم صومعة برج حسان، واستمر العمل في المسجد طوال ولايته ثم توقف بعد موته فلم يكتمل.

 

وبعد شهر من توليه واجه يعقوب تحدياً خارجياً من أمير من آل ابن غانية، نسبة لجدتهم لأبيهم، فقد صار عليٌّ بن إسحاق بن محمد ابن غانية، أميراً على جزيرة ميورقة وما حولها في شرقي الأندلس، وذلك بعد وفاة أبيه سنة 579 بعهد منه، وظن عليٌ أن الأمر سيضطرب على يعقوب وأن الخلاف سينشأ بينه وبين أسرته، واهتبلها فرصة فخرج في سنة 580 بأسطول من 20 سفينة إلى العدوة ونزل بساحل بجاية في الجزائر، فقاتله بعض أهلها، فاستولى عليها، والتف حوله من لم يخضعوا لبني عبد المؤمن من عرب وغز، وتلقب علي بأمير المسلمين، وهو لقب المرابطين وقد زالت دولتهم، وجعل الدعاء على منابر بجاية لبني العباس، وتقدم إلى أن حاصر قسنطينة أشهراً فلم يفلح في أخذها.

 

وأدرك يعقوب خطر هذا التحدي الذي سيجعله مطمع كل طامع إن هو فشل في التصدي له، فأعد جيشاً كبيراً واستعاد بجاية، ونشبت وقائع بينه وبين علي دارت فيها الهزيمة على جيش يعقوب في تونس، فأتاها يعقوب بنفسه وهزم علياً  في سنة 583 ومات هارباً بعد إصابته بسهم.

 

وانتقض أهل قفصة في هذه المدة، ودعوا لبني غانية، فنزل عليها الملك يعقوب ، فحاصرها أشد الحصار، وافتتحها عنوة، وقتل أهلها قتالً ذريعاً. فقيل إنه ذبح أكثرهم صبرأً، وهدم أسوارها، ورجع إلى المغرب.

 

وكان وجود يعقوب في تونس يقاتل أعداءه إغراءً لأقاربه الذين ما زالوا يتنقصوه ويعتبرونه غير مستحق للخلافة، فخرج عليه عمه سليمان بن عبد المؤمن في مرسية في شرق الأندلس، وأخوه عمر في بلاد صنهاجة، وبلغته أخبارهما وهو في بجاية، فاستحثته على العودة دون إبطاء، فقطع من بجاية إلى فاس سبع عشرة مرحلة، فلما سمعا بقدومه خرجا يلتقيانه فأمر بالقبض عليهما وتقييدهما في سلا ثم بلغ مراكش فكتب إلى القائم عليهما بقتلهما وتكفينهما والصلاة عليهما ودفنهما، ففعل ذلك وكتب إليه: بنيت قبريهما بالرخام وجعل يذكر حسنهما، فكتب إليه يعقوب: ما لنا ولدفن الجبابرة؟! إنما هما رجلان من المسلمين، فادفنهما كيف يدفن عامة المسلمين.

 

وبعد قتل يعقوب لعمه وأخيه هابه بقية القرابة، وأُشربت قلوبهم خوفه، بعد أن كانوا متهاونين بأمره، محتقرين له لما ظهر منه في صباه، وتغير هو كذلك فتزهد وتقشف واخشوشن في ملبسه ومأكله، واستدعى الصالحين من البلاد وكتب إليهم يسألهم الدعاء ويصل من يقبل صلته منهم بالصلات الجزيلة، فانتشر في أيامه الصالحون والمتبتلون وقامت لهم سوق وعظمت مكانتهم منه ومن الناس.

 

وفي رجب من سنة 585 خرجت من أيدي المسلمين شِلْب، وهي اليوم  Silves في أقصى جنوب البرتغال، فقد انتهز الملك البرتغالي سانشو الأول، ويسميه المؤرخون العرب بطرو ابن الرنق أو الرنك، مرور أسطول للصليبيين الإنكليز يقصد فلسطين، ووعدهم إن أعانوه بالسفن أن يمنحهم ما تقع عليه أيديهم من الأسرى، فشن حملة برية بحرية نجحت في الاستيلاء على المنطقة وسبت أهلها وملك سانشو البلد.

 

ووقع هذه الخبر على مسامع يعقوب كالصاعقة، فجهز جيشاً كبيراً من الموحدين عبر به إلى الأندلس في المحرم من سنة 586، فنزل قرطبة ثم سار منها إلى شلب، وفي طريقه استولى على 4 حصون للفرنج، وضرب عليها الحصار في منتصف سنة 587،  فلم تطق الفرنج دفاعه وخرجوا عنها وعما كانوا قد ملكوه من أعمالها، ورجع إلى مراكش.

 

وكانت مملكة قشتالة وعاصمتها طليطلة تحت حكم ألفونسو الثامن ابن سانشو الثالث، المولود سنة 550 والمتوفى سنة 610، والذي تولى الحكم طفلاً سنة 553، فأهمه أمر هذه الحملة التي جاءته على حين غرة، فدخل في مباحثات للصلح مع المنصور تمخضت عن هدنة مدتها 5 سنين.

 

ومرض يعقوب بعد عودته ظافراً إلى المغرب مرضاً شديداً أشفى فيه على الموت، وكان بعد عودته قد ولى أخاه أبا يحيى الأندلس فجعل يتلكأ في الخروج إليها تربصاً به وطمعاً في وفاته، وكلما أفاق يعقوب سأل هل عبر أبو يحيى أم لا؟  فلما بلغ أبا يحيى استحثاثه إياه أسرع إلى العبور وهو لا يشك أن أول ما يرد عليه خبر وفاته، وبدأ في  استمالة وجهاء الأندلس ودعاهم إلى نفسه، فتهربوا من ذلك وجعل واحدهم يحيله على الثاني، وكتبوا بذلك رسائل للخليفة في مراكش خوفاً على أنفسهم.

 

وأفاق يعقوب من مرضه، وبلغه أمر أبي يحيى من عيونه، وجاءته كتب أهل الأندلس التي كتبوها، وسمع أبو يحيى بإبلاله فعبر البحر إلى المغرب معتذراً إليه، فلقيه بمدينة سلا فلما وقعت عينه عليه قال لمن عنده: هذا الشقي قد جاء! وأمر به فقُيد، ووجه إلى بعض الوجهاء فحضروا وأدَّوا شهاداتهم، وأمر به فأُحِضر وقال: إنما أقتلك بقوله صلى الله عليه وسلم: إذا بويع خليفتان بأرض فاقتلوا الآخر منهما. وأمر به فضرب عنقه أخوه لأبيه عبد الرحمن بن يوسف، وذلك بمحضر من الناس، وأمر به فكفن ودفن، وأقبل على قرابته فنال منهم بلسانه، وأخذ منهم أخذاً شديداً، وأمر بإخراجهم على أسوأ حال، حفاة عراة الرؤوس، فخرجوا وكل واحد منهم لا يشك أنه مقتول!

 

وفي سنوات 585- 588 أرسل السلطان صلاح الدين الأيوبي من مصر ثلاثة رسائل إلى المنصور يعقوب في المغرب يستجيشه على الفرنج، ويطلب منه فيها أن يبعث بأسطول المغرب ليحاصر صقلية التي كانت قاعدة انطلاق كبرى للصليبيين، فقد كان صلاح الدين بعد تحريره القدس يعاني من ضعف أسطوله البحري مقارنة بما لدى الصليبيين الذين حاصروا عكا مستفيدين كثيراً من قوتهم البحرية، وحمل الرسائل شمس الدولة عبد الرحمن بن محمد بن مرشد، ابن أخي الأمير أسامة بن منقذ الشيزري، وهذا جانب من إحدى رسائل صلاح الدين بشيء من التصرف:

 

... كان من أوائل عزمنا وفواتح رأينا عند ورودنا الديار المصرية مفاتحة دولة سيدنا، وأن نتيمن بمكاتبتها، ونتزين بمخاطبتها، وننهض إليها أماثل الأصحاب، ونستسقي معرفتها استسقاء السحاب، وننتجعها بالخواطر ونجعل الكتب رسلها، وأيدي الرسل سبلها، ونمسك طرفاً من حبل الجهاد يكون بيد حضرة سيدنا العالية طرفه ... ونتجاذب أعداء الله من الجانبين، لا سيما بعد أن نبنا عنه نيابتين في نوبتين؛ فالأولى تطهير الأرضين المصرية واليمنية من ضلالةٍ أغضت عيون الأيام على قذاها ... ونيابةً ثانية في تطهير بيت المقدس... فهنالك غُلِب الشركُ وانقلب صاغراً، واستجاش كافرٌ من أهله كافراً ... وتظاهروا علينا - وإن الله مولانا - وطاروا إلينا زرافاتٍ ووحدانا، فلم يبق طاغيةٌ من طواغيهم، ولا أثفية من أثافيهم، إلا ألجم وأسرج، وأجلب وأرهج، وخرج وأخرج، وجاد بنفسه أو بولده، وبعَدده وبعُدده، وبذات صدره وبذات يده، وبكتائبه براً، وبمراكبه بحراً، وبالأقوات للخيل والرجال، والأسلحة والجُنن لليمين والشمال، وبالنقدين على اختلاف صنفيهما في الجمع، وائتلاف وصفيهما في النفع، وأنهض أبطال الباطل، من فارسٍ وراجلٍ، ورامح ونابل، وحافٍ وناعل، ومواقف ومقاتل، كلٌ خرج متطوعاً، وأهطع مسرعاً، وأتى متبرعاً، ودعا نفسه قبل أن يُستدعى، وسعى إلى حتفها قبل أن يستسعى، حتى ظننا أن في البحر طريقاً يبساً، وحتى تيقنَّا أن ما وراء البحر قد خلا - وعسى! ... وكلما يجن القتل من عددهم مئة أوصلها البحر ممن يصل وراءه بألف، وكلما قلُّوا في أعيننا في زحف، قد كثروا فيما يليه من الزحف، ولو أن دُربة عساكرنا في البحر كدربتها في البر، لعجل الله منهم الانتصاف واستقل واحدنا بالعشرة ومئاتنا بالآلاف.

 

وقد اشتهر خروج ملوك الكفار في الجمع الجم ... ووصولهم على جهة القسطنطينية يسر الله فتحها على عزم الائتمام إلى الشام في منسلخ الشتاء ومستهل الصيف، والعساكر الإسلامية لهم تستقبل، وإلى حربهم تنتقل، فلا يؤمن على ثغور المسلمين أن يتطرق العدو إليهم وإليها، ويفرغ لها ويتسلط عليها، والله من ورائهم محيط. وإذا قسمت القوة على تلقي القادم وتوقي المقيم، فربما أضر بالإسلام انقسامها، وثلمه والعياذ بالله انثلامها.

 

ولما ... أعطى الرأي حقيقة ما عنده، لم نر لمكاثرة البحر إلا بحراً من أساطيله المنصورة، فإن عددها وافٍ، وشطرها كافٍ، ويمكنه - أدام الله تمكينه - أن يمد الشام منه بعدد كثيف، وحد رهيف، ويعهد إلى واليه أن يقيم إلى أن يرتبع ويصيف، ويمكنه أن يكف شطراً لأسطول طاغية صقلية، ليقص جناح قلوعه أن تطير، ويعقل عباب بحره أن يغير، ويعتقله في جزيرته، ويجري إليه قبل جريرته، فيذهب سيدنا وعقبه بشرف ذكرٍ لا ترد به المحامد على عقبها، ويقيم على الكفر قيامةً يطلع بها شمس النصر من مغربها...

 

وما رأينا أهلاً لهذه العزمة إلا حضرة سيدنا أدام الله صدق محبة الخير فيه، إذا كان منحه عادة في الرضى به، وقدرةً على الإجابة، ورغبةً في الإنابة، ولاية لأمر المسلمين، ورياسة للدنيا والدين، وقياماً لسلطان التوحيد القائم بالموحدين، وغضباً لله ولدينه ...

 

وقد طلب صلاح الدين من المنصور ذلك، لأن قائد أسطول دولة صقلية المسيحية كان مسلماً اسمه أحمد الصقلي، ثم انشق عن صقلية بعد وفاة ملكها ساخطاً على الملك الجديد، ولجأ إلى يوسف بن عبد المؤمن ، الذي تلقاه بالإكرام، وقلده أمر أساطيله، فأحسن إدارتها وكثّر عددها، حتى صارت أقوى من أساطيل الدول النصرانية، ولكن لم يستجب المنصور لطلب صلاح الدين، رحم الله الاثنين.

 

ويزعم بعض المؤرخين أن المنصور لم ينجد صلاح الدين بأسطوله سخطاً منه إذ لم يخاطبه بأمير المؤمنين، ولكن هناك أمراً سياسياً يجعل مساعدة المنصور بعيدة المنال، فقد كان المنصور يعاني من بعض مماليك الدولة الصلاحية الذين تأمروا في تونس وطرابلس الغرب وتحالفوا مع بني غانية عندما نزلوا بسواحلها، ولذلك قصة نرويها باختصار، وهي أن صلاح الدين أرسل مجموعة من أمرائه في سنة 568 لتقوم بتوسيع دولته غرباً في سواحل شمال أفريقيا، ويسميهم المؤرخون الغُزّ أو الأتراك، فقام شرف الدين قراقوش مملوك أبن أخي صلاح الدين بالتحالف مع أحد أعيان طرابلس الغرب المتمردين على الموحدين، واستولى على طرابلس الغرب وأسكن أهله بقصرها، وملك كثيراً من بليدات تونس، ولما استولى الموحدون على تلك البلاد أكرموا الأتراك وأقطعوهم الإقطاعات، ولكن قراقوش طمع في أن يصبح مالكها لبعد ابن عبد المؤمن عنه وانشغاله بجهاد الفرنج، ولما جاء ابن غانية لينتزع البلاد من الموحدين تحالف معه الأتراك، وجاء بعضهم في الجيش الذي أرسله يعقوب لاسترداد سواحل أفريقية، ولكنهم خانوه وانضموا لابن غانية، وكان الملك يعقوب مسامحاً حصيفاً لأنه لما هزم بني غانية واستسلم الأتراك له، صفح عنهم وأرسلهم إلى الثغور لينكوا في عدو الإسلام لما رأى من شجاعتهم وفروسيتهم.

 

ومع ما سبق فإنني استبعد ذلك على ضوء أمرين؛ ديانة المنصور وطموحه، فالجهاد يدعوه للاستجابة لطلب صلاح الدين، وهو المجاهد المغوار، والطموح يدعوه ليكون له موطئ قدم في المشرق العربي، وهو الذي يرى نفسه ودولته أحق بإمارة المؤمنين من صلاح الدين، وقد ذكر المؤرخون أنه لم يخف نيته في فتح البلاد المصرية وضمها إلى دولته، وكان يذكر ما فيها من المنكرات والبدع ويقول: نحن إن شاء الله مطهروها. وبقي على هذا العزم حتى مات، ولعل السبب الأول في عدم استجابته أنه كان كما رأينا في شغل شاغل مع العدو الخارجي والداخلي وبنو غانية ما بينهما، فكان كما قال المتنبي:

 

وسوى الروم خلف ظهرك روم ... فعلى أي جانبيك تميلُ

 

وما كادت الهدنة التي عقدها يعقوب مع الفرنج في الأندلس تنقضي في سنة 590، حتى هجم ألفونسو ملك قشتالة على إشبيلية وعاث في البلاد الفساد، فتجهز يعقوب من مراكش، وتصدق بأربعين ألف دينار، ثم عبر البحر بجيش كبير، قوامه قبائل البربر زناتة وهناتة وبنو مرين، ونزل مدينة إشبيلية فلم يقم بها إلا يسيراً ريثما عرض الجند وقسم الأموال، وخرج يقصد بلاد العدو.

 

وكان الفرنج على استعداد للمعركة الوشيكة، وتحالف ألفونسو الثامن مع سانشو ملك نافارا وألفونسو التاسع ملك ليون، وبادروا في شعبان سنة 591 بشن هجوم مباغت على المسلمين شمال قرطبة قرب حصن الأراك، وكان ألفونسو قد أعد قوة تتألف من 8000 فارس مدججين بالدروع، لتقوم بالهجمة الرئيسة على قلب قوات المسلمين وتدحرهم فلا تقوم لهم قائمة، وفعلاً نجحت هذه القوة الهائلة في زحزحة قلب الجيش، ثم استدارت لتقضي على ميسرة الجيش، ولكن ميمنة جيش الموحدين تماسكت واستعادت المبادرة ودارت على الخيالة حتى أحاطت بهم، ثم هجم يعقوب بنفسه في مقدمة الجند، فألحق بفرسان الفرنج هزيمة منكرة، ودفع ألفونسو ببقية قواته إلى المعركة، فكان كمن يرمي بها في الأتون، وانجلت المعركة عن نصر مبين للمسلمين، ومقتل ألوف مؤلفة من جيش العدو منهم عشرات من كبار رجالات قشتالة وحلفائها، وغنم الموحدون غنائم لم تخطر لهم على بال، قيل إن الذي دخل بيت المال من دروع الفرنج ستون ألفاً، وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصر لها عدد.

 

وهرب ألفونسو إلى طليطلة وبقيت مرارة الهزيمة في فمه، ورغم تشجيع ملك أراجون له، لم يهاجم ألفونسو الموحدين بعد هذه المعركة رغم إغاراتهم على أراضيه واستيلائهم على عدد من حصونه، ذلك إن يعقوب لم يستثمر هذا الانتصار الذي فتح أمامه طريق طليطلة ومدريد، واكتفى ببعض المكاسب المحدودة، ولعل عذره أن أغلب جنده من المغرب وكانوا يتوقون للعودة إلى الأهل والبلاد في أقرب وقت.

 

وتلقب يعقوب بعد انتصاره في الأراك بلقب المنصور بالله، وجلس للوفود في قبة مشرفة على نهر إشبيلية، فدخلوا عليه على طبقاتهم ومراتبهم، وأنشده شاعر من أهل مرسية اسمه علي بن حزمون قصيدة من بحر الخبب الذي اقترحه المنصور بالله على الشعراء، نورد بعضها:

 

حيتك معطرةُ النَفَس ... نفحاتُ الفتح بأندلس

 

فذرِ الكفارَ ومأتَمهم ... إن الإسلام لفي عرس

أإمامَ الحق وناصره ... طهرَّتَ الأرضَ من الدَنَس!

وصدعت رداء الكفر كما ... صدع الديجورَ سنا قبس

لاقيت جموعهمو فغدوا ... فرصاً في قبضة مفترس

جاؤوك تضيق الأرض بهم ... عدداً لم يُحصَ ولم يُقس

خرجوا بطراً ورئاء الناس ليختلسوا مع مختلس

فأولئك حزب الكفر ألا ... إن الكفار لفي نكس

إن كان نجا أدفنشهمو ... فإلى عيش نكد تعس

نظرَ الملِكَ الأعلى فرأى ... مَلَكاً ما بين قنا وقسي

كالصبح توشح رونقه ... كالطور بنور الله كسي

فمضى لم يلو على أحد ... ورمى بالدرع وبالترس

لِصليل الهند بمفرقه ... لا يسمع صلصلة الجرس

إن الأيام قد ازدهرت ... كالروض يروق لمغترس

وتناسقت الآمال لنا ... كالثغر تنظم في لعس

أجزيرة أندلس اعتصمي ... بإمام الأمة واحترسي

 

وأمر المنصور بعرض الجند في هذا اليوم في السلاح التام، فلما انتشروا بين يديه وأعجبه ما رأى من حسن هيئتهم، قام فصلى ركعتين شكراً لله عز وجل، واتفق أثر فراغه أن جاءت سحابة فأمطرت مطراً غزيراً حتى ابتل الناس، فقال في ذلك كاتب اسمه محمد بن عبد ربه، وهو حفيد صاحب العقد الفريد:

 

بادي الكرامة بل بادي الكرامات ... قد شفَّع الله آيات بآيات

 

قل كيف لا يفتح الله البلاد وقد ... تفتحت لك أبواب السماوات؟

 

أقام  المنصور بإشبيلية بقية سنة 591، وفي السنة الثانية أراد الغزو فكتب قبل خروجه إلى جميع البلاد بالبحث عن الصالحين والمنتمين إلى الخير وحملِهم إليه، فاجتمعت له منهم جماعة كبيرة كان يجعلهم كلما سار بين يديه، فإذا نظر إليهم قال لمن عنده: هؤلاء الجند لا هؤلاء! ونزل المنصور على مدينة طليطلة بعساكره فقطع أشجارها وانتسف معايشها وغوَّر مياهها وأنكى في الروم أشد نكاية، ثم عاد في السنة الثالثة أيضاً وتوغل بلاد الفرنج، ووصل إلى مواضع لم يصل إليها ملك من ملوك المسلمين قط، ورجع إلى مدينة إشبيلية، وأرسل ألفونسو يسأله المهادنة، فهادنه عشر سنين، وذلك لأن عبد الله بن إسحاق ابن غانية الميورقي استغل فرصة انشغال المنصور في الأندلس، فسار على سنن أخيه علي في التمرد،، وأعاد الدعوة لبني العباس، وتوجه للاستيلاء على ثغور شمال أفريقيا التي كان المنصور قد استرجعها من أخيه المقتول.

 

وعاد المنصور في سنة 594 من الأندلس إلى مراكش، بعد أن أصلح أمور الأندلس ورتب فيها من يقوم بحمايتها، وأدركته منيته بمراكش في سنة 595، على اختلاف في تاريخ وفاته، ثم نقل إلى إلى تِينمَلَّل ليدفن بجانب والده.

 

وتورد بعض كتب التاريخ ما شاع من أن الملك المنصور تخلى عن المُلك وساح في الأرض حتى وصل إلى الشام ودفن بالبقاع! وهو قول لا أصل له ولو لم ينقله ابن خلكان لما التفت إليه أحد، وقد قال الشريف الغرناطي، محمد بن أحمد المولود سنة 697 والمتوفى سنة 760، ببطلان ذلك، وقال: إن ذلك من هذيان العامة، لولوعهم بالسلطان المنصور بأمر الله.

 

كان المنصور في جميع أيامه وسيره مؤثراً للعدل متحرياً له بحسب طاقته، وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها، وكان في أول أمره أراد السير على سنن الخلفاء الأول، فمن ذلك أنه كان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس لم يزل على ذلك مستمراً أشهراً ، وكان يقعد للناس عامة لا يحجب عنه أحد من صغير ولا كبير حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم فقضى بينهما، ثم حمله ذلك على تعيين حكام للقضاء في مثل ذلك، والقعود في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة لا ينفذها غيره، وهو أول من كتب علامة الكتب السلطانية بيده من ملوك الموحدين، وتابعه من بعده عليها، وكانت: الحمد لله وحده.

 

وكان المنصور قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر مرتين يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم، وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم فإذا أثنوا خيراً قال: أعلموا أنكم مسؤولون عن هذه الشهادة يوم القيامة فلا يقولن امرؤ منكم إلا حقاً.

 

كان المنصور يحب البناء والتشييد، عمَّر كثيراً من الحصون، وزاد في مدينة مراكش زيادة كبيرة، وبنى مسجدها الكبير وقصره بجانبه، وبنى له معمار مقصورة في المسجد على حركات هندسية ترفع بها لخروجه وتخفض لدخوله، فقال فيها أبو بكر ابن مجبر، يحيى بن عبد الجليل، المتوفى سنة 588، قصيدة منها:

 

طوراً تكون بمن حوته محيطةً ... فكأنّها سورٌ من الأسوار

 

وتكون حيناً عنهم مخبوءةً ... فكأنّها سرٌّ من الأسرار

 

فكأنّها علمت مقادير الورى ... فتصرفت لهم على مقدار

 

فإذا أحسّت بالإمام يزورها ... في قومه قامت إلى الزوّار

 

يبدو فتبدو ثمّ تخفى بعده ... كتكوّن الهالات للأقمار

 

وبنى المنصور في مراكش مستشفاً على أحسن الوجوه من النقوش البديعة والزخارف المحكمة، وأمر أن يغرس فيه مع ذلك من جميع الأشجار المشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت، وأجرى له ثلاثين ديناراً في كل يوم برسم الطعام، وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعد فيه للمرضى ثياب ليل ونهار للنوم من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض فإن كان فقيراً أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقل، وإن كان غنياً دفع إليه ماله، ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كل من مرض بمراكش حمل إليه وعولج إلى أن يستريح أو يموت، وكان في كل جمعة بعد صلاته يركب ويدخله يعود المرضى، ويسألهم عن حالهم وكيف القائمين عليهم، لم يزل مستمراً على هذا إلى أن مات رحمه الله.

 

وأمر المنصور بتقسيم مدينة مراكش إلى أحياء وجعل في كل حي أمناء معهم أموال يتحرون بها المساتير وأرباب البيوتات، وكان كلما دخلت السنة يأمر أن يكتب له الأيتام المنقطعون، فيجمعون إلى موضع قريب من قصره فيختنون، ويأمر لكل صبي منهم بمثقال وثوب وطعام.

 

كان المنصور ملكاً فقيهاً له فتاوى مجموعة، وله كتاب الترغيب جمع فيه متون الأحاديث الصحاح التي تتعلق بالعبادات، وكان له حزب جمعه هو من الأدعية والأذكار، وبدا  للمنصور القضاء على المذاهب، وهذا في المغرب يعني المذهب المالكي، وأن يجمع الناس على المذهب الظاهري، وكان المنصور يحفظ كتاب المُحلى لابن حزم الظاهري، فأمر بإحراق كتب الفقه كمدونة سحنون ونوادر ابن أبي زيد وأمثالها، وأمر الناس بترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه، وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة، وأمر جماعة ممن كان عنده من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة؛ الصحيحين، والترمذي، والموطأ، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن البزار، ومسند ابن أبي شيبة، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي، في الصلاة وما يتعلق بها على نحو الأحاديث التي جمعها محمد بن تومرت في الطهارة، فأجابوه إلى ذلك، وجمعوا ما أمرهم بجمعه، فكان يمليه بنفسه على الناس، ويأخذهم بحفظه، وانتشر هذا المجموع في جميع المغرب، وحفظه الناس من العوام والخاصة، فكان يجعل لمن حفظه الجَعل السَّني من الكِسا والأموال، ونال عنده طلبة علم الحديث المنتهى من العز والرفعة، وعظم أمرهم وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم.

 

ومن بلغ هذه المرتبة في الفقه فلا بد أن يبتعد عن قبول ما ادعاه محمد بن تومرت من أنه المهدي المنتظر، فقد روى أحد المقربين إليه وهو أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المري، قال: قال لي أمير المؤمنين أبو يوسف: يا أبا العباس اشهد لي بين يدي الله عز وجل، أني لا أقول بالعصمة. يعني عصمة ابن تومرت.

 

وقد جاءه من المشرق شيخ الشيوخ تاج الدين عبد السلام بن عمر بن حمويه، المولود في دمشق سنة 547 والمتوفى بها سنة 642، فأثنى على ديانته وعلمه، قال: ولقد كانت الدولة بسيادته مجَمَّلة، والمحاسن والفضائل في أيامه مكملة، يقصده العلماء لفضله، والأغنياء لعدله، والفقراء لبذله، والغزاة لكثرة جهاده، والصلحاء والعامة لتكثير سواده وزيادة إمداده، والزهاد لإرادته وحسن اعتقاده ... وكانت أكثر مجالسه المرتبة بحضور العلماء والفضلاء، يفتتح في ذلك بقراءة القرآن، ثم يقرأ بين يديه قدر ورقتين أو ثلاث من الأحاديث النبوية. وربما وقع البحث في معانيها، ثم يختم المجلس بالدعاء، فيدعو هو... والذي أعلمه من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن، وكان يحفظ متون الأحاديث، ويتكلم في الفقه والأحكام كلاماً بليغاً، ويناظر ويباحث، وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى والمشكلات وله فتاو مجموعة، وكانوا ينسبونه إلى مذهب الظاهر والحكم بالنصوص.

 

كان أبو الوليد ابن رشد، محمد بن أحمد الحفيد، المولود سنة 520 والمتوفى سنة 595، مقرباً من يوسف والد المنصور الذي كان له اهتمام بالفلسفة، وقربه المنصور كذلك لما كان في الأندلس، وفي السنين الأخيرة من حياته أصدر المنصور أوامره بوضع ابن رشد تحت الإقامة الجبرية هو ومجموعة من العلماء الذين يتعاطون علوم المنطق والفلسفة، وصدرت كتبه إلى البلاد تأمر الناس بترك هذه العلوم، وبإحراق كتب الفلسفة كلها إلا ما كان في الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة أوقات الليل والنهار وأخذ سمت القبلة. ويعزو بعض المؤرخين ذلك إلى هنات ينسبونها إلى ابن رشد واستغلها حاسدوه فأوغروا عليه صدر المنصور، والأرجح أن ما دفع المنصور إلى ذلك هو رغبته في العودة إلى مصادر الشريعة الصافية دون أن تكدرها علوم المنطق والفلسفة التي لم تكن معروفة في عهود الرسول والخلفاء الراشدين.

 

ومع فقه المنصور فإنه سار في أهل الذمة من اليهود والنصارى سيرة تتعارض مع تعاليم الشرع وسنة الخلفاء الراشدين، وهو في ذلك بانٍ على ما أسسه المهدي ابن تومرت، ذلك إن المهدي ما كان له في المألوف من حكم الشرع آنذاك أن يخرج على الملثمين، فلجأ إلى تمييزهم على أساس العقيدة، فقال لأصحابه: إن هؤلاء الملثمين مبتدعة ومجسمة؛ كفرة يجوز قتلهم وسبيهم، بعد أن يُعرضوا على الإيمان. وزاد على ذلك خليفته عبد المؤمن، جد المنصور يعقوب، فإنه لما فتح مراكش، أحضر اليهود والنصارى وقال: أتوافقون أوائلكم على إنكار بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس الرسول الموعود به في كتابكم، وأن الذي يأتي إنما يأتي لتأييد شريعتكم وتقرير ملتكم؟ قالوا: نعم. قال: فأين منتظركم إذاً؟ سيما وقد زعمتم أنه لا يتجاوز خمسمئة عام، وهذه خمسمئة عام قد انقضت ولم يأت منكم بشير ولا نذير، ونحن لا نقركم على كفركم، ولا لنا حاجة بجزيتكم، فإما الإسلام، وإما القتل! وضرب لهم أجلاً لبيع أملاكهم، والنزوح عن بلاده، وأظهر أكثر اليهود الإسلام تقية، فأقاموا على أموالهم، وأما النصارى فدخل معظمهم إلى الفرنج في الأندلس، وخربت الكنائس والصوامع بجميع المملكة، فلم يعد فيها غير المسلمين في الظاهر.

 

وفي آخر أيامه زاد المنصور على ما سبق بأن أمر من كانوا من أصل يهودي أن يلبسوا ثياباً كحلية ذات أكمام مفرطة في الطول والسعة، تصل إلى قريب من أقدامهم، وبدلاً من العمامة قَلَنسوة بشعة تغطي رقابهم وتبلغ إلى تحت آذانهم، وبقي هذا الزي فيهم إلى أيام ابنه الذي توسلوا إليه بكل وسيلة، فأمرهم بلبس ثياب وعمائم صفر.

 

قال عبد الواحد المراكشي، المولود سنة 581 والمتوفى سنة 647، في كتابه المعجب في تلخيص أخبار المغرب: وإنما حمل أبا يوسف على ما صنعه بهم شكه في إسلامهم، وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، ولكنني متردد في أمرهم! ثم عقَّبَ عبدُ الواحد فقال: ولم ينعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا في جميع بلاد المغرب بيعة ولا كنيسة، إنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام، ويصلون في المساجد، ويقرئون أولادهم القرآن جارين على ملتنا وسنتنا، والله أعلم بما تُكِنُّ صدورهم وتحويه بيوتهم.

 

وعقب الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: قلت: ما ينبغي أن يسمى هؤلاء يهود أبداً بل هم مسلمون.

 

كان المنصور الموحدي صافي السمرة، جميل الوجه، أعين، أفوه، أقنى أكحل، مستدير اللحية، ضخم الشكل، جهوري الصوت، جزل الألفاظ، صادق اللهجة، كثير الإصابة بالظن والفراسة، ذا خبرة بالخير والشر. ولي الوزارة لأبيه، فبحث عن الأمور، وكشف أحوال العمال والولاة، وكان سمحاً، جواداً، عادلاً، مكرماً للعلماء، متمسكاً بالشرع، أوصى عند الموت أن يدفن على قارعة الطريق ليترحم عليه.

 

عهد المنصور في حياته إلى ابنه محمد الملقب بالناصر، المولود سنة 576 والمتوفى سنة 610، فتولى الحكم بعد وفاة أبيه وهو في الثامنة عشرة من عمره، وثار عليه يحيى بن إسحاق الميورقي من ولد ابن غانية وتحرك إلى شمال أفريقيا، واستولى على طرابلس والمهدية وتونس، فقاتله الناصر واستخلصها منه وقتله سنة 602، وفى سنة 609 جمع جيشاً، قيل إنه اشتمل على ستمئة ألف مقاتل، وعبر إلى الأندلس ليواجه حملة صليبية هيأها البابا إنوسنت الثالث لقتال الموحدين، وتتكون من قشتالة وملكها ألفونسو الثامن الذي هزمه والده من قبل، ومعه مملكة أراجون والكتالان بقيادة بطرس الثاني، ومملكة نافارا بقيادة سانشو السابع، وشارك في الحملة من فرنسا أسقف ناربون.

 

وكانت نتيجة الحملة كارثة على الموحدين وعلى المسلمين في الأندلس، فقد انجلت عن هزيمة المسلمين في وقعة العقاب المشهورة التي بسببها استولى الفرنج على أكثر الأندلس بعدها، ولم ينج من جيش الموحدين غير عدد يسير، ويعزو بعض المؤرخين الهزيمة إلى سوء تدبير الناصر واغتراره بكثرة جيوشه، واستخفافه برجال الأندلس العارفين بقتال الفرنج، ولم تقم بعد هذه الهزيمة الفادحة للمسلمين قائمة في الأندلس، فقد سقطت ماردة وبطليوس سنة 628، وأبدة سنة 631،  وقرطبة سنة 633، ثم بلنسية وشاطبة ودانية سنة 636، ثم مرسية سنة 641، وأخيراً إشبيلية سنة 646.

 

ولم تمض سنوات بعد ذلك حتى ظهر بنو مرين وأطاحوا بما بقي من دولة بني عبد المؤمن في سنة 668، وبدأت بذلك الدولة المرينية في المغرب.

 

{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين