المفاضلة بين الشرحين

الحمد لله وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله.. وبعد:

فقد طالعت للسيد الحافظ أحمد بن الصديق الغماري كلمة مختصرة في تفضيل شرح الرافعي على شرح النووي الموسوم بـ (المجموع) بإطلاق غير مسلَّم، وأقول:

ليس في المطبوع من كتب أصحاب الشافعي الجامعة بين خلاف المذهب والخلاف العالي أجل من الشرحين في الجملة، أعني (شرح الـمُهذَّب) للنووي و(شرح الوجيز) للرافعي وهو الكبير المطبوع.

وللرافعي على (وجيز) حجة الإسلام أربعة تعاليق، كبير وهو هذا، وأكبر وهو المسمى بــ(المحمود) ولم يتم، وقد كتب منه مجلدات إلى أثناء الصلاة، وأشار إليه في مسألة المتحيرة من الكبير، وشرح مختصر وهو الذي يقال له عند أصحاب الشافعي (الشرح الصغير) وأصغر وهو المسمى بــ(التذنيب) وهو كالنُّكت في مشكلات (الوجيز) ودقائقه وعُضل مسائله.

والكبير مهذّب جداً، حلو العبارة، مليح الألفاظ، متين النظر، يشتمل على مسائل لا تقع لغيره ممن تقدّمه من الأصحاب إلا إشارة، كمسألة الأُرجوحة وبيع النمل واجتماع الكسوفين وغير ذلك.

وفيه من مناصيص الأصحاب والنقل عن كتبهم بـما وراء النهر ما لا ذكر له إلا فيه، ولا حتى في (المجموع) كنقله عن (جمع الجوامع) للقاضي الروياني، و(نوادر الأحكام) لأبي العباس الروياني و(العُدة) للقاضي أبي المكارم ابن أخت الروياني، ونقله عن أبي عبد الله الشالوسي، وابن حسان القزويني من متقدمي الأصحاب، وأبي بكر بن بدران الحلواني وغيرهم.

كما أن في (المجموع) النقل عن طائفة من غرباء الأصحاب ممن لم يقع ذكرهم في (الرافعي) ولا تكاد توجد لهم ترجمة، كالعلامة التُّرْبُجي نقل عنه قوله بوجوب الصلاة على الآل في التشهد من (الجامع) لأبي علي البندنيجي وغيره.

والشرح في التقسيم والترتيب والتفصيل أجود من (المجموع) ولذا فإن حفظ المسألة منه أسهل، وتصورها في الذهن أدق، فإنه لا يخرج عن الفقه والنظر، إلا أنه لا يذكر غالباً غير خلاف الأربعة، ويقع له نادراً الإشارة إلى قول أهل الظاهر وشيء من مذاهب السلف، وليس فيه من وجوه الترجيح ما يتعلق بعلل الحديث إلا نادراً مع إمامة مصنفه فيه.!

وأما (المجموع) فإنه أجود في تحرير الخلاف وتخليص الفروع، وأدق في تصوير المسائل وتحرير الدلائل، ولا سيما في نقل المذهب، وهو أغزر علماً وأكثر فوائد من (الشرح) وإن عوّل عليه واستمدّ منه، لكثرة النقل فيه عن حذاق أهل الحديث واللغة والأدب والطب والفراسة والهيئة وغيرها مما يُحتاج إليه في الفقه والنظر.

وفيه من ذكر مذاهب السلف والخلاف العالي ما لا تجده في (الشرح) فضلاً عن دقة نظر النووي في الحديث وتعقبه على من تقدّمه، وإن كان الرافعي أحفظ منه على رسم القدماء.

لكن في ترتيب (المجموع) وعورة على الناظر فإنه متشعب جداً، يبتدأ بغريب (المهذب) وترجمة أعلامه وتقرير أحكامه، ثم يُخرّج أحاديثه ويستدرك عليه، ويأخذ في تحرير المذهب والخلاف فيه، ثم يذكر فروع المسائل، ثم يحرر الخلاف العالي في المسألة تارة بدلائله وتارة بالاقتصار على قائله.

فكأنك تطالع أكثر من كتاب بحيث يصلح أن يُجرّد منه كتاب في لغة المهذب وكتاب في تخريج أحاديثه، وآخر في تحرير المذهب مجرداً، وكتاب في الخلاف العالي، وكتاب في رجال المهذب وغير ذلك.

وأما (الشرح) فإنه كالعمراني يُرتّب الخلاف على قولي المذهب ووجوهه وطرقه، كطريقة (المغني) للموفق في ترتيب الخلاف العالي على مجموع الروايات عن أحمد، ولذا سهل جداً استيعاب المسائل وحفظها منهما، لأنـهما أقرب من (المجموع) وأكثر تلخيصاً وتخليصاً للمسائل والدلائل.

لكن في (الشرح) قصور من جهة ذكر دلائل الخصم كالعمراني في (بيان ما أشكل من المهذّب) فإنـهما يذكران الخلاف العالي دون ذكر دليل الخصم، عكس (المجموع) الذي يستوعب الدلائل وما يتطرق إليها من الموانع والاعتراضات، والجواب عن ذلك بغاية التفصيل غالباً، وإلا ففيه مسائل من الخلاف العالي لا ذكر فيها للدليل ولا للتعليل.!

بل إنك تجد في (المجموع) النقل عن نوادر الكتب في الخلاف العالي فضلا عن خلاف المذهب، كنقله عن خلافيات إبراهيم بن جابر الذي كان شافعيا فلما طالع (إبطال الاستحسان) تحول ظاهريا.

وكنقله عن العلامة أبي الحسن العبدري الذي كان ظاهريا، فلما حل العراق واجتمع بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي تحول شافعيا، وصنف كتابا جليلا في الخلاف العالي، وقد غلط فيه بعض الفضلاء كالدكتور ماهر الفحل وغيره، فخلطوا بينه وبين الحافظ أبي عامر العبدري الظاهري.

وفي (المجموع) تلخيص لكتب تامة، بتجريد فوائدها وتخليص عوائدها، كتلخيص كتاب البسملة للخطيب، والرد عليه للقاضي أبي يعلى، عند البحث في مسألة الجهر بالبسملة، وفي الجملة فالمجموع أعود بالفائدة، وأقرب للأثر، لكن الشرح أكثر تـهذيبا للمسائل وألصق بالفقه والنظر.

وفي المذهب كتب جامعة للخلافين كـ(الحاوي) على جودة تقسيمه واستيعابه الأقوال والدلائل واللغويات وطرائق النظر ووجوه الأقيسة، لولا أنه فاته لتقدّم زمان مصنِّفه كثير من وجوه المذهب وأقوال أئمته، وهو من موارد الموفق في (المغني) فمنه يستمد.

وأجود منه (بحر المذهب) لأبي المحاسن الروياني لأنه بناه على (الحاوي) فلخّص فوائده وزاد عليه من الوجوه والطرق في نقل المذهب وسياق طرق العراقيين والخراسانيين ما ليس في أصله، فهو أجود كتاب مطبوع في خلاف المذهب والخلاف العالي لولا أن نسخته غير تامة، والمطبوع منه قطعة ملفّقة من الموجود مع تتميم الناقص منه من (الحاوي) وهو عبث.

وعليه فليس يوجد اليوم على وجه البسيطة كتاب للشافعية، تام مطبوع، جامع للخلاف العالي والنازل، مع تخليص الأقوال وتلخيص الدلائل، أجود وأوعب من (الحاوي) للماوردي.!

ومن أجود شروح المنهاج المطبوعة شرح العلامة الدميري الموسوم بــ (النجم الوهاج) وفيه من الفوائد والغرائب ما يطرب الأسماع ويطرف القلوب ويشنف الآذان، غير أنه يعوزه الاعتناء بنقل الخلاف العالي فإنه فيه قليل، وإذا حرره لا يذكر غالبا دلائله، ولو تم له ذلك لقطعنا بأنه أجود كتب المذهب على الإطلاق، أعني المطبوع منها اليوم مما يعتني بالخلاف العالي، وبالله التوفيق.

 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين