المعية في حياة سيد البرية

مال السماء تلألأت=بنجومها وتزينت 

والشهب أفراح طغت=وظلام ليل بددت

والبدر أقبل باسماً=أنواره قد أشرقت 

والصبح أبلج ضاحكاً=والأرض بالعطر انتشت 

والطير يشدو والبلا=بل فوق مكة غردت 

وخمائل أصغت لها=فتمايلت وتراقصت

ماذا جري؟! ولد الهدي شمس النبوة أشرقت.

جزء من قصيدة كتبتها في ذكري مولده صلي الله عليه وسلم ، وان كان الابتهاج لمولده لا يرتبط عند المؤمن بيوم محدد ولا بشهر محدد ، بل يرتبط بكل نفس من أنفاسه ما استقام قلبه علي التوحيد ، حمدا لله وثناءا عليه ان بعث للناس رسولا من أنفسهم، حريص عليهم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم ، جاهد في الله حق جهاده حتي بلغ الرسالة، وأدي الأمانة ، ونصح للأمة ، فلم يترك باب خير إلا وأرشدها إليه ، ولا باب شر إلا وحذرها منه ، كان لله بكليته فكان الله له بكامل معيته .

وما أحوج السائرين علي دربه ، الحاملين لواءه ، المبشرين بدعوته ان يهتدوا بهديه لينعموا بمعية الله كما نعم بها إمامهم وقدوتهم محمد صلي الله عليه وسلم وخاصة وهم في أجواء هذه المحنة التي تمر بها الأمة في أحلك أيامها حيث تداعت عليها الأمم كما تتداعي الأكلة الي قصعتها ، وأسقط كل منافق قناعه ، وتمايز الفريقان واختصموا في ربهم ، فمن كان الله معه فمن يخاف ؟!! ومن كان عليه فمن يرجو؟!!

وما أحوج المؤمن ان يستشعر المعية بمعنييها :- المعني الأول معية المراقبة، فيوقن دائما وأبدا ان الله مطلع عليه ، وان الله ناظر إليه ، وان الله رقيب عليه ، والتي يفهمها المؤمن من قوله تعالي :" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) فيعلم ان قدرة الله تطاله حيثما كان ، وعلم الله يشمله مهما أسر وأخفي ، فيستقيم كما أمره الله ، ويجتهد في القيام برسالته التي من أجلها خلق ، موقنا انه الي الله راجع ، ومسؤول ومحاسب ، ولقد كان قدوته صلي الله عليه وسلم خير من عاش هذه المعية ، فكان صمته فكرا ، ونطقه ذكرا ، ونظره عبرة ، وكانت حياته كلها جهادا في سبيل الله لإبلاغ رسالته ، وما ان قال له ربه :" قم فأنذر " حتي وصل الليل بالنهار ، وجاب الأمصار مبلغا دعوة ربه ، وشعاره:" مضي عهد النوم يا خديجه"!!!

- والمعني الثاني وهو المأمول والمرتجي " معية التأييد والنصرة" وهي معية تخص من استقاموا كما أمرهم الله ، نفهمها من قوله صلي الله عليه وسلم راويا عن رب العزة:" من عادي لي وليا فقد آذنته بالحرب" وقوله عز من قائل"إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128) 

و يا لسعادة من عاش في معية الله !!! وما أعظم عطايا الله لمن نعم بمعيته، 

-فمن نعم بمعية الله نصره الله وأيده، وهل بين بني البشر من يستحق معية الله أكثر من محمد صلي الله عليه وسلم وصحبه خير من استقاموا علي منهج الله ؟ نري هذا التأييد في هجرته من أول مكرهم به، وإحاطتهم ببيته ، واستعدادهم لقتله " وإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)

فنصره الله عليهم ونجاه منهم وخرج من بينهم وهو يردد قوله تعالي :" وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون"....ونراه وهو في الغار بعد ان كان الكافرون قاب قوسين أو أدني من الوصول إليه ، ولكن الله معه ، وهو عاصمه منهم ، فمن يخاف من كان الله معه " إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)...ونري هذا التأييد في غزوة بدر الكبري ، حيث كان ميزان المعركة بمقاييس البشر في صالح الكافرين ، فهم الأكثر عددا والأقوي عدة ، ولكن هل يترك الله أولياءه؟!!! لقد كانت رسالة من الله لنبيه والمؤمنين ان النصر من عند الله وليس من صناعة البشر ، فلا تنسيهم الأسباب مسبب الأسباب ، ورسالة للعالمين ان الغلبة لأوليائه ، وان العزة لله ولرسوله وللمؤمنين "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)... ونري هذا التأييد في غزوة الخندق ، ذلكم اليوم الذي تحزب فيه الأحزاب ليستأصلوا شأفة المسلمين وليضربوهم عن قوس واحدة ، فنصر الله عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، ليس بأسباب البشر ، بل بتدبير رب البشر " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) ... ونري هذا التأييد يوم حنين ، يوم ان أنست الأسباب المسلمين مسبب الأسباب ، فأعجبتهم كثرتهم ، فوكلهم الله الي أنفسهم ، فهزموا من عدوهم ، وانفضوا عن الميدان ، فناداهم رسول الله صلي الله عليه وسلم ليذكرهم بربهم وبرسولهم وبرسالتهم : أيها الناس ، أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب ، عندئذ يثوبون الي رشدهم ، ويرجعون الي الميدان بقلوبهم التي يرتضيها الله لهم ، فتنقلب الهزيمة نصرا بعد إحاطة معية الله بهم :" لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)

- ومن نعم بمعية الله دافع عنه ونجاه .. فكم من مرة يمكر اليهود بالنبي صلي الله عليه وسلم ليقتلوه وينجيه الله ، مرة يحاول بنو النضير ان يلقوا عليه صخرة من فوق حائط يجلس تحته النبي صلي الله عليه وسلم ،وكان قد ذهب إليهم ليكلمهم في دية لمعاهدين قتلهما عمرو بن أمية الضمري علي سبيل الخطأ ، فينهضه الوحي قبل ان ينفذوا جريمتهم ، والأخري تدس فيها زينب بنت الحارث اليهودية له السم في الشاة بعد فتح خيبر وتخبره الشاة أنها مسمومة!!!! 

- ومن نعم بمعية الله أدبه الله ورباه.... فهو الذي يهدي لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو ، ويصرف عن وليه سيئها لا يصرف عنه سيئها إلا هو ، وهل اكتملت أخلاق أحد كما اكتملت أخلاق رسول الله ؟ وهل رباه وأدبه غير الله ؟ وهو الذي يقول عن نفسه :" أدبني ربي فأحسن تأديبي " ولعلنا نلحظ هذه العناية به صلي الله عليه وسلم من قبل بعثته إذ يحكي عن نفسه يوم ان نازعته ليسمر كما يسمر الشباب ، فتهديه خطواته لان يصل الي مكان قريب من مكة يسمع منه عزفا لعرس فيضرب الله علي أذنه فينام حتي تطلع الشمس ، ويكرر الأمر فيكرر الله صنيعه معه ، وهذه هي عناية الله بوليه ، يفتح له أبواب الخير ، ويغلق دونه أبواب الشر ، فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها الا أنت ..

- ومن نعم بمعية الله أحياه حياة طيبة وآواه .... وهل كان النبي صلي الله عليه وسلم يملك شيئا غير أخلاقه حتي تطلبه خديجة ليعمل بمالها ؟ ثم تطلبه للزواج منها وهي الشريفة الغنية ذات الجمال التي يتنافس عليها مريدوها ، وهل كان يملك شيئا غير معية ربه حتي ينصره وأصحابه ويجعل بين أيديهم ما يغنمونه من عدوهم ويخصه صلي الله عليه وسلم بخمس الغنيمه ، انه وعد الله لعباده المؤمنين"مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* 

والآن ، فما هو السبيل لنحظي بمعية الله ؟ يجيبنا الله عن ذلك فيقول:" ۞ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيل"هذا هو الطريق ، معية لا تفارف من دفع الثمن ، يحظي بها بالتأييد والنصرة، والعيشة الهنية ، والميتة السوية ، والمغفرة والرضوان ، والنجاة من النيران ، والفوز بالجنان ، وعلي قدر الإستقامة تكون المعية ، فمن كان لله بكليته ، كان الله له بكامل معيته .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين