المعاصي نوعان

المعاصي نوعان

 

للعلامة الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري

قسم الله تعالى المعاصي إلى كبائر، وسيئات أو لمم. فقال تعالى: ﴿ إِن تَجتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَونَ عَنهُ نُكَفِّر عَنكُم سَيِّ‍ئاتِكُم وَنُدخِلكُم مُّدخَلا كَرِيم ﴾ [النساء: ٣١].

وقال جل شأنه: ﴿ ٱلَّذِينَ يَجتَنِبُونَ كَبَٰٓئِرَ ٱلإِثمِ وَٱلفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَ ﴾  [النجم: ٣٢].

والسيئات أو اللمم هي الصغائر وتغفر باجتناب الكبائر كما سبق، أو بفعل الحسنات، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114].

ثبت في الصَّحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أصاب رجل -هو أبو اليَسَر- من امرأة قبلة، فأتى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فأخبره، وأنزل الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفا مِّنَ ٱلَّيلِ إِنَّ ٱلحَسَنَٰتِ يُذهِبنَ ٱلسَّيِّ‍ئاتِ﴾ [هود: 114] فقال الرجل: ألي هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم».

أما الفواحش فهي من الكبائر، لكن القرآن يطلقها في الغالب على الكبائر المتعلقة بالفروج، إيذانًا بشدة قبحها، كنكاح امرأة الأب، والزِّنا، واللواط.

وذهب بعض العلماء منهم تقي الدين السبكي إلى أن المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغائر بالنسبة لما هو أكبر منها. وصنيع القرآن يرد عليهم. وأيضًا فإننا ندرك بالضرورة أن القبلة لا توازي الزِّنا، وأن سرقة قرش لا توازي سرقة مائة، وأن قولك لشخص: يا بخيل، أو يا لئيم. لا يوازي قولك له: يا زاني أو يا لائط.

ثم إن أكبر الكبائر بعد الكفر: القتل، للآية: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ﴾ الآية.

ولحديث: «كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو يقتل مسلمًا متعمدًا».

ولحديث: «لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرام».

يليه الزِّنا، سماه الله فاحشة: ﴿ وَلَا تَقرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَة وَسَآءَ سَبِيل ﴾ [الإسراء: ٣٢] ولأن فيه مفسدة هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، وغير ذلك.

وجاء في حديث: «ما مِن ذَنْبٍ بعد الشِّرْكِ أعظم عند الله مِن نُطْفَةٍ وَضَعَها رَجُلٌ في رَحِمٍ لا يحلُّ له». وذكر النطفة خرج مخرج الغالب، لا مفهوم له، فالعزل أو استعمال حائل يمنع نزول المني في الفرج، لا يخفف الإثم لأن هتك العرض حاصل به على كل حال، وهو أنواع، أقبحها: الزِّنا بإحدى المحارم. فقد سماه القرآن فاحشة ومقتًا، قال تعالى: ولا ﴿ وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَد سَلَفَ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَة وَمَقتا وَسَآءَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: ٢٢].

ثم الزِّنا بامرأة الجار، لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «لأن يزني أحدكم بعشرة نسوة أهون من أن يزني بحليلة جاره» وفي معناه الزِّنا بامرأة من بينك وبينه صلة أو صداقة أو معاملة.

ثم اللواط؛ سماه الله تعالى فاحشة أيضًا، وعذب أهله بعذاب لم يعذب به أمة مثلهم.

وفي الحديث: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط».

ولأنه شذوذ في الطبيعة، وانحط في الخلق، ولذا ثبت في الحديث: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به».

وللحافظ السيوطي في تصحيح هذا الحديث رسالة "بلوغ المأمول من خدمة الرسول" وهي من جملة رسائل الحاوي للفتاوى. وبهذا الحديث أخذ المالكية.

ثم الرِّبا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: ٢٧٨ – ٢٧٩].

ولحديث: «ما ظهر الزِّنا والرِّبا في قرية إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله».

ونرى أن ما هو حاصل اليوم من الحروب والتهديد بها، وإصابة المزروعات بالجوائح، وذهاب البركة من المال والقوت والوقت، سببه انتشار الرِّبا بين الدول والأفراد، حتى أصبح التعامل به من ضروريات الحياة. وانتشر معه جمود العين، وقسوة القلب، وعدم إجابة الدعاء، والزِّنا في هذا دخل أيضًا، لكنه لم يأخذ طابع الدولية مثل الربا، كما هو ظاهر.

ثم الخمر؛ قرنها الله تعالى بالأصنام في وجوب الاجتناب: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ «الأصنام » وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90].

لما نزلت هذه الآية مشى الصَّحابة بعضهم إلى بعض، وقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك. وقال أبو موسى الأشعري: ما أبالي شربت الخمر أو عبدت هذه السارية من دون الله. يعني أن القرآن جعلهما سواءً. وفي الحديث: «مدمن الخمر كعابد وثن». وفي الحديث أيضًا: «من زنى أو شرب الخمر نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه».

وسمى النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم الخمر أم الخبائث، لأن الشخص إذا سكر وفقد عقله، استسهل الكفر والزِّنا وكل معصية.

والميسر -وهو القمار- تفيد الآية أنه في درجة الخمر؛ لأنها جمعتهما في سياق واحد، وهو حقيق بذلك، لأنه يضيع على المقامر ماله، ووقته، ودينه، وعمله، وقد يتسبب في فراق زوجه، وخراب بيته. وربما يموت حسرة. أو انتحارًا على خسارته.

والقمار يشمل سباق الخيل -وهو غير المسابقة الشرعية- والنرد (الطاولة) والدومينو. والضامة والسيكة. وكل ما يلعب في مقابل شيء ولو مليمًا فهو قمار.

أخرج الإمامان مالك وأحمد عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «من لعب بنرد أو نرد شير فقد عصى الله ورسوله».

وفي حديث آخر: «اللاعب بالنرد قمارًا كآكل لحم الخنزير واللاعب به بغير قمار كالمدهن بشحمه». وشحم الخنزير نجس، والمدهن بالنجاسة آثم.

ثم تأتي بقية الكبائر على حسب ما فيها من مفاسد ومضار، كآكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وقذف المحصنة العفيفة، وغير ذلك.

والكبيرة: كل معصية توعد الله أو رسوله عليها بالعذاب، أو اللعنة، أو الغضب، أو كانت تؤذن بتهاون مرتكبها بالدين.

والصغيرة ما دون ذلك كالقبلة والنظرة واللمسة، وسرقة ما دون النصاب، وكشرب الدخان، والشيشة والجولاك؛ وهو نوع من الشيشة يشربه أهل الحجاز، والقات يمضغه أهل اليمن.

فكل هذه محرمة لثبوت ضررها على الصحة والمال، والمداومة على الصغيرة يصيرها كبيرة، كذا قال الجمهور واستدلوا بحديث: «لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع الاستغفار». لكنه حديث ضعيف.

وقد ناقش الشوكاني في "إرشاد الفحول" ما ذهب إليه الجمهور، واختار أن الإصرار على الصغيرة لا يخرجها عن حقيقتها.

قلت: ومع ذلك فالإصرار عليها حرام يضاف إلى حرمتها، فيكون فيه إثمان: إثم الصغيرة، وإثم الإصرار عليها.

وقد حضَّ القرآن على الإقلاع عنها، قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً «كبيرة كالزِّنا» أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ «بما دونها كالقبلة» ذَكَرُوا اللَّهَ «أي عقابه» فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا «من الفاحشة وما دونه» وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135] أن ما فعلوه حرام.

هذا وقد ألف في عدد الكبائر جماعة من العلماء منهم ابن القيم والذهبي، ثم جاء الفقيه ابن حجرٍ الهيتميُّ المكي الشَّافعيُّ، فعمد إلى قسم الترهيب من كتاب "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري، فجرده في كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" وضم إليه بحوثا فقهية، فجاء كتابًا حافلًا في موضوعه إلا أنه توسع فأدخل فيها ما لا يسلم له، وفي عزمي أن ألخصه تلخيصًا جيِّدًا، بحيث أحذف منه ما لا يساعد عليه الدَّليل، أو كان دليله ضعيفًا أو غير ظاهر الدلالة، وفق الله إلى ذلك وأعان عليه، إنَّه الموفق المعين.

من كتاب:" خواطر دينية"

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين