المشروع الحضاري الإسلامي ضرورة ملحة اليوم

 

لم يَعُد هناك مَفرٌّ من أن يتقدَّم كُتَّاب ومفكرو الأمَّة الإسلامية بتصوراتهم عن المشروع الحضاري الإسلامي الذي أصبح ضرورة مُلِحَّة بعد أن مرَّ المسلمون والعرب خلال السنوات الأخيرة بهذه التحديات الخطيرة التي واجهتهم، والأخطار التي حاصرتهم مما يتطلب وضع (تصور أصيل) مُستمدٍّ من مفهوم الإسلام الجامع ليكون نبراساً للخطوات المتصلة على طريق الأصالة والعودة إلى المنابع، وإقامة (مُعاصرة) في دائرة (الأصالة) تكون دعامتها (البناء على الأساس) وليكون هذا المشروع الحضاري الإسلامي بديلاً للمشروع الحضاري الوافد الذي حاول السيطرة على مُقدَّرات المسلمين والعرب خلال قرن ونصف قرن من الزمان، بعد أن ثبت فشله وعجزه عن العطاء، وفشله في تحقيق الأمن النفسي والمجتمع الربَّاني.

ولقد أقامَ الإسلامُ منهجَه الأصيل على أساس (وحدة الفكر الجامع) التي توسع دائرة الالتقاء والتعارف وتطبيق دائرة الخلافات حتى تصل الإنسانية إلى عصر التراحم والوفاء، من خلال المنهج الرباني الذي رسمه الحق تبارك وتعالى بديلاً للمنهج البشري القائم على الصراع والقتال وإثارة الأحقاد والخصومات والمطامع على النحو الذي نراه اليوم.

والذي يتطلَّع رعاته إلى شَقِّ القُوى المجتمعة، وتدمير الروابط والتي تستهدف أساساً تحويل الكيان الإسلامي الكبير إلى كيانات وكانتونات مُتصارعة وذلك بإيقاظ الخلافات المذهبيَّة والتفرقة العرقيَّة.

والواقع أنَّه لا سبيل لأي مشروع حضاري علماني أو قومي أو بشري أن يمكن لقيام الأمَّة القادرة على حمل رسالة الحقِّ تبارك وتعالى للعالمين إلا إذا استمدَّ مفاهيمه من الأصل الأصيل الخالد: النص الموثق الذي لا يَأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي جمع مختلف القيم الربانيَّة العُليا التي وهبها للبشريَّة القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة.

ومن هنا فلابدَّ أن يكون المنطلق الحقيقي من القرآن والسنة على النحو الذي بدأت به النهضة الأولى إيماناً بأنَّ القرآن كتاب البشريَّة الخالد الصالح لكل زمان ومكان.

والذي هو الينبوع الذي تنطلق منه المناهج والخبرات التي تمكِّن المسلمين خاصَّة والبشريَّة عامَّة من جني الثمار من خلال مخاطبة العقل والقلب والوجدان، ومن هذا المنطلق تأصيل كل المنظمات القائمة وردُّها إلى منابعها.

منظمة الانتماء، ومنظمة المجتمع، ومنظمة التعامل الخارجي مع الغير، وتكامل المجتمع الداخلي، وتصحيح الاقتصاد، ورفض النظام الربوي، ووضع المرأة في مكانها الطبيعي عماداً للأسرة والمجتمع، وبناء التعليم على أساس التربية الإسلامية، وتوجيه أدوات الترفيه والتسلية نحو الوجهة السليمة التي تحقق هدف الترويج دون الدخول إلى دائرة الانحراف والتبذُّل، وحماية الوجود الاجتماعي كله من الانحراف الأخلاقي ومن الفساد والفحشاء والإثم كله.

ولما كان الإسلام يمتلكُ رائعةً لا يمتلكها أي مجتمع بشري أو أيديولوجية أخرى تلك هي (الوسطية) وسطية التوازن والتكامل، والمواجهة بين القيم، بحيث لا يوجد من خلال ذلك أي صراع طبقي، أو خصومة بين الأجيال، أو تضارب بين الآباء والأبناء.

هذا التكامل الجامع في الإسلام إنما يُمثِّل ظاهرة حيَّة نَابضة بالقوَّة تُمثِّل تَكامل الفكر والوجدانيَّة وتكامل العقل والروح، وتكامل الأصالةَ والمعاصرة، وتكامل النظريَّة والتطبيق، وتكامل الثوابت والمتغيرات.

هذا التكامل يَفرِض مسؤولية خطيرة على الفكر الإسلامي وهي أن يقف موقف المراجعة الواسعة للفكر المادي الغربي، والفكر الروحي الشرقي باعتبار أنَّ كلاً منهما يمثل (انشطارية) لا يحقق سلامة النظرة حيث النظريات موقف التجربة بينما يتميَّز الإسلام - والإسلام وحدَه - على جميع النظريات والأيديولوجيات والمذاهب في الشرق والغرب وفي القديم والجديد بكماليَّة النظرة والتوجه.

ويجب أن يكون واضحاً أمام الأمَّة الإسلاميَّة أنَّ التجربة الغربيَّة بشطريها قد انتهت إلى الفشل وأنَّ المسلمين لا يأخذون خُطط الآخرين ولكنهم يَستفيدون من الأنظمة والوسائل فيصهرونها في بَوْتقة فِكرهم ويحولونها إلى مواد خام يَنتفعون بها دون أن تحاصرهم أو يَنْصهروا فيها.

إنَّ المشروع الحضاري الإسلامي يقوم على أساس الوحدة الثقافية بين كل العناصر التي تستظلُّ بلواء الأمَّة الإسلاميَّة انطلاقاً من رسالات السماء التي جاءت بالإسلام خاتماً لها، فأسَّس ثقافته وقيمه ومعالمه التي هي بالنسبة للمسلمين دين وعقيدة، وبالنسبة لغير المسلمين ثقافة وفكر؛ لأنَّها تقوم على أساس التوجيه الخالص والإخاء الإنساني، والالتزام الأخلاقي، والمسؤولية الفرديَّة، ذلك أنَّ رسالة الإسلام منذ جاء قد صهرت كلَّ قيم الأديان وأخلاقياتها في منظور جامع واحد قوامه اللغة العربية. وقد جمع القرآن الكريم أصول رسالات السماء كلها من صحف إبراهيم، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى - صلوات الله عليهم -.

والواقع أنَّ عوامل الوحدة موجودة وقائمة وتمثِّل الثقافة الإسلامية الآن ثقافة المنطقة العربية الإسلامية كلها، فقد جاء الإسلام لإقامة وحدة جامعة قوامها تكريم العناصر غير الإسلامية وإعطاؤها حريتها الدينيَّة، واشتراكها في مجريات النهضة والحضارة والعلم، كما حدث في العصور الأولى، والعمل على رفض ومقاومة مُؤتمرات الغزو الفكري التي تَهدف إلى إثارة الفتن والوقيعة والصراع بين عناصر المجتمع المتكامل. وقد كانت الشريعة الإسلامية عنصراً حامياً ومؤكداً لحقوق العناصر المختلفة التي صهرها المجتمع الكبير في بَوْتقته.

إنَّ النظام الإسلامي هو المنطلق الحقيقي لبناء المشروع الحضاري الإسلامي بقاعدته العريضة من خلال فروعه الثلاثة: 

أولاً: الشورى.

ثانياً: العدل الاجتماعي

ثالثاً: الحدود والضوابط.

وهذه القيم الأساسيَّة هي وحدَها تُمكِّن المجتمعَ الإسلامي من التماثل المفضي إلى الوحدة الإسلاميَّة الجامعة حيث تتسع دائرة التشابه بمفهوم التعارف الإسلامي، بحيث تلتقي كل العناصر والأقطار والقوميَّات والنِّحَل حيث تصوِّر الوطن الإسلامي وحدةً كاملة في مجال الاقتصاد، والثروة، والقوى العاملة، والأراضي الزراعية، ومُعطيات الركاز مما تكشف عنه الأرض كالبترول والمنجنيز والكوبلت.

ليس هناك طريق آخر لبناء المشروع الحضاري الإسلامي غير آفاق هذا التصور السياسي والاقتصادي على أساس مَنهج الإسلام نفسه، وليس على واقع المجتمعات القائمة الآن والذي تشكل خلاله السنوات الفائتة من خيوط واحدة مُغايرة لمعدنه الأصيل، ومنهجه الصحيح، مع ملاحظة أنَّ الديمقراطية الغربية لم تستطعْ أن تُحقِّق الشورى في مجتمعها الذي جاءت منه، فبالأولى أنَّها لا تستطيع أن تكون قاعدة نظام يعتمد على المنهج الرباني. 

والحقيقة أنَّ المسلمين عَرَباً وفُرساً وتُرْكاً وهنوداً مسلمين تجمعهم مِظَلَّة (لا إله إلا الله) ويلتقون على مَساحةٍ وَاسعة من التكامل النفسي والاجتماعي، ولا يَلتقون إلا في مساحة قليلة من عوامل البيئة أو ظروف العصر.

فالربانية هي القاعدة الأساسيَّة لقيام المشروع الحضاري الإسلامي التي تجعل الوجهة خالصةً لله تبارك وتعالى، تتحرَّك في دائرة ما أحلَّه الله تعالى، وتبعد عن دائرة ما حرَّمه، فإذا أردنا أن نتصوَّر المنظومة الإسلامية وجدناها تتمثَّل في الوسطيَّة الجامعة بين الروح والمادَّة والعقل والقلب والمنهج والتطبيق والوحي والعقل، تقيم الشورى مُنطلقاً للحكم، وتقيم الزكاة منطلقاً لحماية المجتمع، وترسم الاقتصاد وفقَ حماية الأمَّة تأخذ من غنيها لفقيرها، وتقيم حياتها كلها على أساس ضوابط الأخلاق.

الأخلاق التي هي وعاء المجتمع والحضارة والفرد أيضاً، والتي تبني الفرد المسلم أساساً على المسؤولية الفرديَّة والالتزام الأخلاقي، وتجعله مُنطلقاً لبناء الأسرة المسلمة، فللجماعة المسلمة في الحكومة المسلمة رعاية كاملة لكل عناصر المجتمع وحماية يقظة لا تغفل للحدود والثغور على إسلام مفهوم الجهاد الإسلامي: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ] {الأنفال:60}. 

وهو ما يسمى في العصر الحديث: القُدرة على الرَّدْع وحماية أسرار الأمَّة وكيانها، كذلك حَذَّر القرآن من البطانة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] {آل عمران:118}.

وقد أكَّدت الأحداث أنَّ لكل أمة منهجاً خاصاً، وقد أكَّدت الأحداث في السنوات الأخيرة أنَّ الفكر الماركسي هُزم في بلاده بعد ستين سنة من التطبيق؛ حيث انهارت قواعد النظام الماركسي، وسقطت تماثيل ماركس ولينين وستالين في مختلف عواصم الغرب.

وكذلك كشفت الأحداث الأخيرة عن عجز الفكر الوافد كلِّه عن العطاء، وانهارت تلك الدعوات.

وبالجملة: فإنَّ الصورة الواضحة عن عالمية الإسلام وقدرته على تشكيل كومنولث إسلامي، أو جامعة إسلامية تقوم الآن أساساً على:

أولاً: أسلمة المناهج والعلوم والمعرفة، وتقديم البدائل الأصليَّة مكان المفاهيم الوافدة في مختلف المجالات.

ثانياً: بناء قاعدة صَلبة للتربية الإسلامية الخالصة التي تحتفظ بعناصر الأمَّة وقدرتها على الإيمان بحق الله تبارك وتعالى على المسلم في دائرة الاستخلاف والعمران، والسعي والتحرُّر من الضعف والرخاوة والترف الوهمي، وكل علامات الهزيمة التي تَبُثُّها أدوات التدمير، وكل علامات الهزيمة التي تَبُثُّها أدوات الترفيه الوهمي.

ولابد أن تخرج الأمَّة الإسلاميَّة من طابع الضعف، وتدخل مرحلة الصمود والعزيمة وذلك حتى تستطيع أن تحقق وجودها الحقيقي، وتقيم مجتمعها الأصيل الذي يحمل طابع ذاتيتها الخالصة المتحرِّر من التبعية، وذلك حتى يستطيع أن يُقَدَّم الإسلامُ للبشريَّة كلِّها ليحرِّرَها من عوامل القلق الهائل الذي أصاب النفوس والأرواح نتيجة عبادة المادَّة وتزلزل قِيَم الأخلاق.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة السادسة و الخمسون، ربيع الأول 1418 - العدد 3).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين