المشروع الثقافي الكبير

بعد منشوري السابق (حسن حنفي والإسلام الشيوعي) سُئل بعض المتفلسفين الذين كنّا نحسبهم على خير في معرض تعليق على منشور له يمجّد ويعظم فيه حسن حنفي.. سُئل عن رأيه في مقالي ذاك فقال: إنني اجتزأت الكلام الذي نقلتُه عن حنفي من سياقه وإنني لم أفهم كلامه وإن الرجل [صاحب مشروع ثقافي كبير] لا يمكن أن يفهمه أمثالي من الدراويش بل لا يفهمه كثير من علماء الإسلام..

ولا أدري ما الذي اجتزأتُه من الكلام والعبارات التي أوردتُها أوضح من الشمس في رابعة النهار في دلالتها على فساد عقيدة أستاذ الفلسفة، وقد عزوتُ النقول إلى مصادرها باسم الكتاب والصفحة، وكتب الرجل منشورة متوفرة على الشبكة العنكبوتية يمكن لمن أراد أن ينزلها ويتحقق من صدق النقل بكل يسر وسهولة، فهلا أورد ذلكم الناقد لكلامي العبارات الأصلية وبيّن مواضع الاجتزاء والتحريف.. وصدقاً لم أكن أتمنى لذاكم الذي كنت أحسبه على خير أن يرتقي هذا المرتقى الصعب ثم يخرّ منه فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكانٍ سحيق.

وقد دلني أحد الإخوة على رسالة لطيفة في بضع وعشرين صفحة عنوانها (حين ينتقد الحداثيُّون صحيح البخاري - حسن حنفي نموذجاً) للباحث إبراهيم بن محمد صديق عرض فيها نقد المفكر الإسلامي اليساري لصحيح البخاري وهي متوفرة على الشبكة العنكبوتية أنصح لمن يرغب في معرفة حقيقة [صاحب المشروع الثقافي الكبير] أن يقرأها..

وقد اخترت بعض الطرائف من مضحكاتها المبكيات ليقف القارئ على فكر أستاذ الفلسفة ويطلع على مدى فهْمِه، ويتبين مبلغَ علْمِه.

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لأول زمرة يدخلون الجنّة وهو الحديث رقم ٣٢٤٥ وممّا جاء في ذلكم الوصف قوله عليه الصلاة والسلام: (ورَشْحُهُمُ المِسك) والرَّشْح هنا يعني ما يرشح منهم من العَرَق أي إن عرقهم كالمسك في طيب رائحته.

فانظر كيف فهم [صاحب المشروع الثقافي الكبير] هذه العبارة من الحديث إذ قال في كتابه (من النقل إلى العقل) الجزء الثاني الصفحة ٣٩٤ (رشحهم المسك مع أن الرشح عيب وعلامة على البرد) فالرشح فهمه أستاذ الفلسفة أنه الزكام.. وعلى هذا الفهم فإن الحديث باطل لأنه لا يمكن لمن في الجنة أن يمرضوا ومن ثمّ فالبخاري يفتري الكذب؟؟؟!!!!

وأخرج البخاري في صحيحه الحديث رقم ٧١٠٩ عن أَبي بَكْرَةَ، قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، جَاءَ الحَسَنُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ)

وهذا الحديث من معجزاته عليه الصلاة والسلام إذ تحقق ما أنبأ به عندما تنازل الحسن لمعاوية رضي الله عنهما عن الخلافة حقناً لدماء المسلمين فسمي ذلك العام عام الجماعة.

لكنّ [صاحب المشروع الثقافي الكبير] لم يفرق بين الحسن والحسين فقال ناقداً الحديث في كتابه المذكور الجزء الثاني الصفحة ٤٢٧: (قال الرسول للحسين بن علي: إنه سيد ولعل الله يصلح به فئتين من المسلمين. إذ يتنبّأ الرسول بالخلاف السياسي في الأمة وبالمصالحة بينهما، وقد حدث العكس أن استُشهد الحُسين بعد أن وقعت الحرب، فما تمنَّاه الرسول لم يحدث، وقراءته للتاريخ لم تقَع، وتنبُّؤه للمستقبل مثل باقي الأنبياءِ لم يتمّ).

فاختلطت الأمور على [صاحب المشروع الثقافي الكبير] فلم يفرق بين السبطين ، ولم يدر الحسن من الحسين.

وأخرج البخاري في صحيحه الحديث رقم ٥٦٩٣ عن أم قيس قالت: (ودخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم بابنٍ لي لم يأكل الطعام، فبال عليه، فدعا بماء فرشّ عليه).. أي إن الطفل بال على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم فاكتفى برش الماء عليه دون غسله وقولها لم يأكل الطعام أي إنه ما زال في طور الرضاعة وأخذ الفقهاء من هذا الحديث أن بول الصبي الذي لا غذاء له إلا الرضاعة ليس نجساً.

لكن [صاحب المشروع الثقافي الكبير] له فهم آخر للحديث إذ يقول في كتابه المذكور الجزء الثاني الصفحة ٤٤٨: (بالَ الرسول على الطعام!! ورشّ بماء ودعا عليه، حتى يأكل الطفل المريض الطعام!! فكيف يصحّ المريض بالبول حتى ولو كان بول نبيّ؟! البول بول، والدواء دواء، والنفس تَعاف الطعام المرشوش بالبول) فالطفل على فهم الأستاذ لم يأكل الطعام لأنه مريض فبال النبي صلى الله عليه وسلم على الطعام؟؟؟؟؟!!!!!! ورشّه بالماء ودعا عليه (وهو تفسير قوله: فدعا بماء) فقد اختلطت الضمائر وعائداتها في ذهن أستاذ الفلسفة لأنه مشغول [بمشروعه الثقافي الكبير] ثم لم يعلم أن تعبير (فدعا بماء) معناه في العربية طلَبَ أن يؤتى بماء ففسره بالدعاء على الماء؟؟؟!!!

طرفة أخيرة: أخرج البخاري في صحيحه الحديث رقم ٥٧٨٦ عن أبي جحيفة: قَالَ: فَرَأَيْتُ بِلاَلًا جَاءَ بِعَنَزَةٍ فَرَكَزَهَا، ثُمَّ أَقَامَ الصَّلاَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « خَرَجَ فِي حُلَّةٍ مُشَمِّرًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى العَنَزَةِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ العَنَزَةِ) والعَنَزة بفتح النون عصاً أو نحوها بقدر نصف الرمح أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الرجل إذا صلى ولم يكن بينه وبين القبلة ساتر فيشرع له أن يغرسها بينه وبين القبلة فتكون ساتراً له من مرور الناس والدوابّ من أمامه.

لكن [صاحب المشروع الثقافي الكبير] قرأها عنْزة بسكون النون التي هي أنثى المعز فقال في كتابه المذكور الجزء الثاني الصفحة ٤٤٩ في نقد الحديث: (وتشعر الحيوانات بمعجزة الرسول فبعد أن ركز بلال عنْزة ليقيم الصّلاة، صلى الرسول ركعتين إلى العنزة والدواب يمرون بين يديه من وراء العنزة - وهو إخراجٌ مسرحي جميل - فبلال يرى أن مرور العنْزة بين يدي الرسول أثناء الصلاة لا يجوز مستعملًا بعض العنف بركزها، وصلى الرسول والحيوانات تسير أمامها بقيادة العنْزة، ففي تاريخ الأديان تألف الحيوانات الرسول قبل أن يألفها الإنسان) بغض النظر عن الأسلوب الركيك واللغة السقيمة كقوله (الدواب يمرون) وتنزيل الدواب منزلة العقلاء.. لا بدّ أنك استغرقت في الضحك مثلي عندما قرأت هذا الكلام وتخيلت بلالاً رضي الله عنه وهو يصارع العنزة ليثبت قوائمها في الأرض.

وكتابات صاحب المشروع الثقافي الكبير كلها على هذا المنوال الذي يُضحك الثكالى.. ولأمرٍ ما يروّج له المروّجون..

تبقى كلمة لمن كنّا نظنه على خير: إذا كان مدحك لحنفي وترويجك له عن جهل وهذا أهون الشرّين فتعلمْ يذهبْ جهلك، أما إن كان ذلك عن علم واقتناع بعقيدته ومنهجه فهي الطامة الكبرى التي لا أتمناها لك فتدارك نفسك بالتوبة قبل فوات الأوان.

وكلمة أخرى لمن يفتنون بمثل هؤلاء [التنويريين]: هل وجدتم مثل هذا الجاهل المتنطع بعقله السخيف وأسلوبه العقيم يصلح ليكون ناقداً لجبل شامخ من جبال العلم كالإمام البخاري؟؟:

ما ضرّ تغلبَ وائلٍ أهجوتَها * أم بُلْتَ حيث تَناطحَ البَحرانِ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين