المشروع الإسلامي والتلويث الفكري

تتعرض الأمة الإسلامية منذ سنوات تحديات عظيمة، لم تشهد مثلها خلال تاريخها الطويل، وقد شعرت الأمة بالخلاص من هذه التحديات مع ظهور "الصحوة الإسلامية" خلال النصف الثاني من القرن الماضي، غير أن الأعداء كالعادة سارعوا إلى محاربة الصحوة بوسائل شتى كان آخرها إطلاق زمرة من أدعياء "التجديد والتنوير" الذين راحوا ينشرون سمومهم وشبهاتهم حول الإسلام بهدف تشكيك الأمة بالصحوة ومشروعها الواعد، وإثارة الشبهات لتلويث كل ما هو إسلامي !

التحديات الإسلام بين اليوم والأمس :

ومن المعلوم تاريخياً أن التحديات ليست أمراً طارئاً على الإسلام والمسلمين، فقد تعرضت الأمة عبر تاريخها الطويل إلى الكثير من التحديات الداخلية العظيمة (الفتنة الكبرى) وتحديات خارجية أعظم (غزو التتار والمغول، والحملات الصليبية ..) إلا أن الإسلام بالرغم من كل هذه التحديات ظل راسخاً عميقاً في نفوس أبنائه، وظلت الأمة تؤمن بأن القضايا الكلية في الإسلام مسلمات وثوابت لا خلاف فيها ولا نقاش؛ بما فيها قضايا السياسة؛ وعلى رأسها قضية "الحكم بما أنزل الله" فقد ظلت هذه القضايا ثوابت راسخة عند عامة المسلمين؛ ولم تؤثر الهزائم في إيمانهم، ولم يتسلل الشك إلى نفوسهم، ولم يتطلعوا إلى شيء مما عند أعدائهم من عقائد أو فلسفات أو مبادئ، بل لم يشعر المسلمون يوماً أنهم أدنى من أعدائهم؛ وظلوا يرون أعداءهم فجرة معتدين يجب دفع شرورهم عن الإسلام بأي ثمن، متمثلين قول الحق تبارك وتعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) سورة آل عمران 139.

وإذا كان الصراع في الماضي قد اعتمد القوة، فقد صار في عصرنا يعتمد الفكر، وقد ساعدت وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر الأفكار في العالم، فبدأ الأعداء يعدون لهذه الوسائل أدواتها، ممن أطلقوا عليهم أوصاف طنانة من قبيل "مفكرين إسلاميين" أو "دعاة جدد" ونحو ذلك من الأوصاف البراقة لكي يتولوا عملية تلبيس الإسلام على أهله، والتشغيب على الصحوة الإسلامية ومشروعها الواعد !

ومن هنا كان اهتمامنا في سلسلة المقالات السابقة التحذير من هذا التلويث الفكري الذي راح يشنه على الإسلام والمسلمين أدعياء (التجديد، التنوير، التحديث، التطور، المعاصرة ..) !

ومن خلال رصد هذه الظاهرة رصداً قريباً ظهر لنا بوضوح أن هؤلاء المفكرين أشخاص مدسوسون على الإسلام، قد صُنعوا في محاضن مشبوهة هدفها تشويه الإسلام والشغب على المشروع الاسلامي، وإشغال أبناء الصحوة بقضايا فكرية جانبية تنسيهم المشروع !

وللدلالة على ما نقول نعرض في ما يأتي نماذج من هؤلاء المفكرين الذين تتباين نكهاتهم الفكرية بحسب المحاضن التي تربوا :

1 - مفكرون بخلفيات اشتراكية : يعملون جهدهم لتفسير الإسلام تفسيراً ماركسياً يصادم المشروع الإسلامي على طول الخط، من أمثال السوري "محمد شحرور" الذي أحل كل المحرمات في الإسلام، وحرم الحلال، ومنهم كذلك المصري "حسن حنفي" الذي جعل همه قلب ثوابت الإسلام رأساً على عقب .

2 - مفكرون بخلفيات قومية : صاروا مفكرين إسلاميين ليس عن قناعة بالإسلام ومشروعه، بل رداً على فشل المشروع القومي بعد "نكسة 1967" ، منهم مثلاً المصري "أحمد كمال أبو المجد" والمغربي "محمد عابد الجابري" والمصري "فهمي هويدي" وعلى الرغم من أن هؤلاء المفكرين يأتون من خلفية لا تتعارض ظاهرياً مع الإسلام، إلا أنهم يحملون يعض الأفكار المشوهة عن الإسلام .

3 - مفكرون بخلفية علمانية : فهذا النوع من المفكرين يحملون خلفية مناقضة تماماً للمشروع الإسلامي، بل معادية له، ومن أمثال هؤلاء المصري "أحمد محمد خلف الله" والجزائري "محمد أركون" وقد حاول هؤلاء عبثاً الوصول إلى الجمع بين النظرية العلمانية والمشروع الإسلامي؛ لكنهم لم يصلوا إلا إلى جملة من العناوين الغريبة التي تحمل كل التناقضات مثل (إسلام ليبرالي، إسلام علماني، إسلام حداثي، إسلام تنويري، إسلام عصراني .... إلخ) وتكمن خطورة هؤلاء المفكرين في محاولتهم خلخة المشروع الإسلامي من الداخل، وللأسف تأثر بعض قادة العمل الإسلامي بفكرهم، بل تكونت أحزاب سياسية إسلامية تحاول تأصيل هذا الفكر، الذي ينبغي التحذير منه بشدة، لما فيه من بريق، مع ما ينطوي عليه من عداء شديد للدين !

4 - مفكرون إسلاميون مخضرمون : والمفكر المخضرم هو الذي عاش أكثر من تجربة إسلامية مع أحزاب أو جماعات تخلت عن مشروعها لسبب أو لآخر، فهذا النوع من المفكرين يظل أسير تجربته السابقة، ويظل يحمل كل العقد التي اكتسبها من تجربته الماضية، فتراه يحاول التشكيك بالمشروع، من خلال تقديمه فكراً مأزوماً يثقل المشروع بدل أن يرفده ! من أمثال هؤلاء المصري "عبد الوهاب المسيري" الذي بدأ حياته منتمياً إلى جماعة الإخوان المسلمين، ثم انتمى إلى اليسار المصري فالتحق بالحزب الشيوعي، ثم عاد إلى الحضن الإسلامي فانتسب إلى حزب الوسط الإسلامي.

5 - مفكرون فقهاء : والإشكالية التي يثيرها هذا النوع من المفكرين هي خلطهم بين وظيفة الفقيه ووظيفة المفكر، والمثال عليهم السوري "محمد حبش" الذي يتبنى الدعوة إلى تعدد الأديان وهي دعوة تستهدف صهر الأديان كلها في دين عالمي واحد يخلط بينها كلها، لإخراج شوربة دينية، تضيع في مرقها حقيقة "الوحدانية" التي جاءت بها كل الرسالات السماوية، ومنهم كذلك الفلسطيني "عدنان إبراهيم" الذي اشتهر بنشر الكثير من المغالطات التاريخية عن الإسلام، ونيله من الصحابة رضوان الله عليهم، وتشكيكه بكتب السنة النبوية، وهذا النوع من المفكرين يشكل خطورة خاصة على المشروع الإسلامي، بل على الإسلام نفسه، لأن المفكر من هذا النوع يظهر بمظهر عالم الدين الفقيه، مما يجعل عامة المسلمين يقبلون طروحاته دون مناقشة !

المحاصرة الأمنية للمشروع :

ولا تنتهي تحديات المشروع الإسلامي عند محاولات تلويثه من قبل المفكرين المصنوعين على عين العدو، بل يضاف إليها تحديات أخرى كثيرة، أخطرها التضييق الأمني والفكري على حاملي المشروع، وعزلهم عن المجتمع بوسائل عنيفة تبدأ بالتخويف والاعتقال والتعذيب وتنتهي بالإعدام .

هذه جملة من التحديات الكبيرة التي يواجهها المشروع الإسلامي اليوم، ويزداد تأثير هذه التحديات لأسباب عديدة، أهمها :

1 – عدم وجود مراكز البحوث المتخصصة، التي تدعم المشروع بالدراسات الميدانية وتعينه باتخاذ القرارات .

2 - إدارة المشروع اعتماداً على الولاء الديني، دون النظر إلى الخبرة الإدارية والسياسية اللازمة لمثل هذه المشاريع ذات البعد السياسي، أكثر بعدها الدعوي .

3 – تزايد عدد أدعياء التجديد والتنوير يوماً بعد يوم، وفتح المساحات الواسعة لهم في الإعلام، ودعمهم مادياً دعماً غير محدود، وتزويدهم بالزاد الفكري المفخخ من قبل مراكز بحث غربية متخصصة .

إن التقاعس عن معالجة هذه الأسباب يجعل المشروع في مهب الريح، ويجعل الأمة على موعد مع مستقبل مجهول !

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين