المستريح والمستراحٌ منه!

المستريح والمستراحٌ منه!

 

د. أسامة جمعة الأشقر

1. ترى بعضهم يتشفّى في راحلٍ خاصَمَه، فيطعن فيه ويقدح ويَذمّ حتى يظنّ الناس أن الراحل فاجر حاقدٌ أو كافر معانِد، لكنك ترى في المقابل أن هذا الراحل تضجّ الأسافير بذكره والثناء عليه والإشادة بفضله والتنويه بعلو منزلته من عامّة الناس وخاصتهم، وحتى إن كانوا مخالفين له فإن أكثرهم اعترفوا بمقامه وسموّ قدره وحضور جَنابه.

2. وترى هؤلاء المرضى يحتالون على الناس بحديث في الصحيحين عن الصحابي الفارس أبي قتادة بن ِربعيّ إذ روى حديثاً كان الغاية في ذوق السرد وأخلاق نقل الوقائع ومراعاة عواطف الناس على خلاف ما استخدمه هؤلاء المحتالون المُجافون: فقد حكى أبو قتادة أنه كان يُحدَّث أنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مُرَّ عليه بجنازة، فقال: "مستريح ومستراح منه"، قالوا: يا رسول اللَّه! ما المستريح، وما المستراح منه؟ قال: "العبد المؤمن يستريح من نَصَب الدنيا وأذاها إلى رحمة اللَّه، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب".

3. ومواضع الذوق في هذا الحديث عديدة مثل أن هذا الميت مجهول لم يتمكّن أحد من معرفة هويته لأنّ له سبباً في مقالة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وربما كان هذا الإعلان مما يؤذي نفراً من المسلمين، ومنها التنبيه إلى أنّ المراد هو الفعل وليس الفاعل، والأثر وليس المؤثّر، والعمل وليس العامل، فقد قيل على صيغة البناء للمفعول المجهول "مُرَّ عليه بجنازة" وفي رواية أخرى "إذ طَلَعت جنازة".

4. ومن مواضع الذوق التسوية في الحديث حتى لا يعرف الناس المقصود المباشر فقال: "مستريح ومستراح منه" فلا يتحقق المراد بوقوع وصفٍ بعينه على الميت: هل هو المستريح أم المستراح منه.

5. ومن مواضع الذوق عدم معرفة السائلين: فهل كانوا فرداً أو جماعة، وهل كان منهم أبو قتادة !، والألطف في سؤالهم أنهم لم يسألوا عن الأشخاص فلم يقولوا: مَن المستريح ومن المستراح منه؟ وإنما سألوا عن المعاني والحقائق لأنّ الموت تجاوز هؤلاء الأشخاص فقالوا في سؤالهم: ما المستريح وما المستراح منه؟

6. ومن مواضع الذوق حذف المبتدأ من قوله "مستريح ومستراح منه" فقد يحتمل أن يكون المبتدأ المحذوف هو "هذا" الميت بعينه، ولهذا لم يرِدْ في الحديث أن رسول الله قد صلّى عليه ربما لكونه منافقاً لأن رسول الله كان يتجنّب الصلاة عليهم دون إعلان عن ذلك؛ وربما كان المبتدأ المحذوف هو لفظ عام مثل "الناس مستريح ومستراح منه" أو "كل ميت مستريح ومستراح منه".

7. ومن مواضع الذوق لمزيد من التعمية استخدام الواو في الجمع بين هذه الفضيلة "مستريح" وهذه النقيصة "مستراح منه"، وقد فهم الناس من هذا الجمع معنى التقسيم والتنويع بسبب التناقض المعنويّ المقصود بعملية الجمع والاقتران باستخدام الواو، وأنها هنا ينبغي أن تتجه لمعنى التخيير والتنويع كأنها "أو" لكنها تتضمن معنى الجمع أيضاً بمسّ خفيف كما سيأتي.

8. والشاهد هنا أن قيمة هذا الحديث الراقي هو في دلالته الحاسمة وليس إسقاطاته وتنزيلاته التي يوزّعها بعض المتحكّمين في مخالفيهم، فإذا قامت قيامة الإنسان بهذا الموت فإن الناس إزاء موته ينقسمون عادة بين مادحٍ له وذامّ، وبين شاكر له وناكر، وبين معترف له ومنتقِص.

9. الحقيقة التي يدلّ عليها رسول الله أن هذا الميت قد استراح من هذه الدنيا على أيّ وجه كان، فقد استراح المؤمن من بلائها وغمومها ونكدها وتكاليفها، وربما استراح الكافر في النتيجة أيضاً من نكدها وتكاليفها وزيادة آثامه بطول المكث فيها، ولكن هذا المدلول بعيد.

10. وإنما تتحقق الراحة بعد إعياء وتعب، فراحة المؤمن إذا استكنّت نفسه واطمأنّ قلبه بإدراك حسن الخاتمة التي سعى لها سعيها، بعكس الفاجر الجريء الذي أراد إرهاق الناس وإفسادهم والتسلّط عليهم بأذاه وتجاوُزه وطغيانه حتى تعدّى ضرره إلى عموم الحياة من بشر وحيوان ونبات كما نرى في نفر من الحاكمين المتسلّطين أو المتنفّذين في دوائر القرار المحرّضين الداعين إلى الفتن الحمراء والصفراء.

11. ولهذا فإن التركيز هنا في دلالة المستراح منه كان على نمط من المفسدين الذين أثّروا في العقول والسلوك الجمْعيّ للناس بسلبيّة وخروج عن منهج الاعتدال القويم والسواء في الأداء والسلوك والأثر؛ ولهذا فإن الراحة النفسيّة بالخلاص منه تكون عامّة ظاهرة لأنّ الضرر قد مسّ الجميع منه مع عدم القدرة عليه والعجز عن الإنكار والمواجهة فإن منعوه آذاهم وعاداهم، وإن سكتوا عنه أضر بدينهم ودنياهم والبلاد من العمارات والفلوات والشجر.

12. ونذكّر أهل الأهواء من هؤلاء بحديث رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه في الصحيح: (ما مِن رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إِلا شَفَّعَهم اللهُ فيه) فانظروا إلى الملايين التي ذكرتْه، وأثنت عليه، وأعلنت حبّه، ورضيت عنه، وصلّت عليه في كل مكان؛ وأمّا المنبتّون عن متين الدين، المبتدعون في فجّه العظيم، الراكنون إلى الظُلّام فإنهم في غيّهم سادرون، لا تدركهم نصيحة، ولا تنفعهم ذكرى، ولعل الله يُريح منهم العباد والبلاد والشجر والدوابّ فنرتاح من الانشغال بمهاتراتهم، ويرتاحون من إلحاق مزيد من الآثام الكبيرة بظهورهم المنحنية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين