المرض العضال (الغيبة)

الحمد لله الذي يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله جاءنا بالهدى من عند ربه وفصل الخطاب ، وهدى العالم إلى طريق الحق ومحجة الصواب ، صلوات الله وسلامه على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:

فيقول الله تعالى في كتابه المكنون :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:12} .

عباد الله إن الله تعالى خلق الخلق وأنعم عليهم بنعمه الوفيرة وطيباته الغزيرة :[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا] {النحل:18} .

أكرم الإنسان وميزه بالعقل عن سائر الحيوان :[أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] {البلد:10} . وأصبح قرير العين بتلك النعم، جذلاناً سعيدا لحياة بهذا الكرم ولكن الإنسان لم يقم بشكر تلك النعم الإلهية فأطلق لسانه الذي خلقه الله لذكره في نهش أعراض الحرائر الأطهار وأرخى العنان له في مالا يعنيه من سب زيد ولعن عمرو ، وفلان طلق وفلان زوج، ولم يسمع قول ربه العزيز الحميد :[إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] {ق:18} .

ألم يصل سمعه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ! ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته) (أخرجه أحمد، وأبوداود من حديث أبي برزة الأسلمي)

 إن الغيبة بضاعة المفلس ودلو الجبان ومطيِّة الحقير المهان.

إذا سنحت لك الفرصة فزرت بعض المصالح الحكومية تجد العجيب العجاب ترى الموظف يسلق أخاه وزميله بألسنة حداد أشحة على الخير ، وكذلك الرئيس لا يرضى عن مرؤوسيه إلا إذا هتك ستر زميله وسرد له معايبه ونقائصه ، إن كان صدقاً أو كذباً ترى كذلك في أندية القرويين هذا الداء والمنظر المخزي الدنئ والخلق الفاحش البذيء.

يتفكه به المتفكهون ويتندر به الساخرون فتقوم المنازعات أو المشاجرات وتنتهي بسفك الدماء وضياع الثروات وقطع الصلات والقضاء على الأفراد والجماعات كل ذلك إنما سببه (الغيبة) ونتيجة ذلك كله إنما هو (الحسد).

اصبر على كيد الحسود      فإن صبرك قاتله

النار تأكل نفسها       إن لم تجد ما تأكله

ألم تشرب أيها المغتاب دواء طبيبك الناجع وتدهن ببلسم نبيك النافع حيث يقول لسليمان بن جابر وقد أتاه ليعلمه خيراً ينتفع به فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا تحقرن من المعروف شيئاً وأن تلقى أخاك ببشر حسن وإن أدبر فلا تغتبه) (أخرجه أحمد في المسند وابن أبي الدنيا في الصمت واللفظ له ولم يقل فيه أحمد " وإذا أدبر فلا تغتابه ").

ويقول كذلك صلوات الله وسلامه عليه : (مررت ليلة أسري بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم ، فقلت يا جبريل : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم) (أخرجه أحمد وغيره من حديث أنس بن مالك).

والغيبة ليست باللسان وفقط بل باللمز والغمز ، وخروج اللسان وبإشارة الجوارح ازدراء ورسولك صلى الله عليه وسلم يقول : (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره) (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة) أي سواء ذكرته بنقصان بدنه ، أو نسبه ، أو فعله ، أو قوله ، أو دينه ، أو دنياه حتى في ثوبه وردائه ، ودابته حتى ذكر بعض المتقدمين أنك لو قلت أن فلاناً ثوبه طويل أو قصير يكون ذلك غيبة فكيف ما يكره من نفسه .

وروي أن امرأة قصيرة  دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض حاجاتها فلما خرجت : قالت عائشة رضي الله عنها : ما أقصرها! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إغتبتيها يا عائشة) وفي رواية: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لغيرته) (رواه الترمذي)

وحكي عن عمرو بن دينار أنه قال كان رجل من أهل المدينة له أخت في ناحية المدينة فاشتكت فكان يأتيها يعودها ، ثم ماتت وجهزها وحملها إلى القبر فلما دفنت رجع إلى أهله ، ثم ذكر أن له كيساً كان معه فضيعه في القبر ، فاستعان برجل من أصحابه فأتيا القبر فنبشاه فوجدا الكيس ، فقال للرجل  تنح عني حتى أنظر على أي حال هي، فرفع بعض ما على اللحد فإذا القبر يشتعل ناراً فرجع إلى أمه، فقال : أخبريني علام كانت أختي فقالت : كانت أختك تأتي أبواب الجيران فتلقي أذنها إلى أبوابهم حتى  تستمع الحديث لكي تمشي بالنميمة بين الناس فعلم أن هذا سبب عذاب القبر فليحترز من الغيبة والنميمة .

وقال أبو حفص الكبير : لو لم أصم رمضان أحب إلي من أن أغتاب إنساناً ، ثم قال : من اغتاب فقيهاً جاء يوم القيامة مكتوباً على وجهه هذا آيس من رحمة الله.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه) (أخرجه مسلم)

 

فإلى هؤلاء المغتابين أصحاب المقاريض النهاشين ليعلم أن ما يتقولونه على إخوانهم إنما هو نار مدمرة ومهلكة لحسناتهم ولا يضرون إلا أنفسهم ، بل هي في الواقع خير عظيم لمن اغتابوهم؛ فإن حسنات المغتابين إن كان لهم حسنات يتمتع بها هؤلاء المظلومون.

وليعلم هؤلاء المحرومون أن الغيبة دين وسلم فمن المحال أن تخدش كرامة أخيك وتحط من شأنه وتترك سدى ، بل لابدَّ عليك من القيل و القال وستندم حينما تعلم مغبة تصرفك ولات ساعة مندم.

فلنكن قوماً شرفاء كراماً أطهاراً أعزاء ونخلع ربقة الذلة والضعف والاستكانة والخور وبذلك يعلو شأننا وتحقق آمالنا. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

بقلم الشيخ: صلاح عبد المطلب (بتصرف يسير)

المصدر : مجلة كنوز الفرقان ، جمادى الأولى 1369العدد 15.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين