المرأة المربية الداعية

المرأة الداعية المربية لا تكون كذلك إلا إذا تسلَّحَت بالإيمان والتقوى.

1ـ فعزفَتْ عن الحياة الدنيا وبهرجها، وعلمت أن الدنيا فانية، فلم تعمل لها إلا بما يبلغها منازل الآخرة تلك الدار الباقية.. قال الشاعر:

قارف الدنيا بثوب=ومن العيـش بقوت

واتخذ بيتـاً خفيفــاً=مثل بيت العنكبوت

قالت عائشة رضي الله عنها:قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من سفر،وقد سترت سهوة 1 لي بقرام 2 فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هتكه، وتلوّن وجهه وقال: ((يا عائشة: أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)) 3.

فماذا نقول نحن الآن وقد امتلأت بيوتنا بالتماثيل والرسوم على الجدران والطنافس، وأصبح اقتناء مثل هذه الأمور أمراً دالاً على الحضارة والتقدم!!؟

2ـ وقامت الليل فصلَّت وسألت الله عزَّ وجلَّ الهداية والعفو والغفران، وسألته من خيره وفضله وكانت خير شريك وصاحب لزوجها تامره بالمعروف وتنهاه عن المنكر.

قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلّت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) 4.

فكم من أمثال هؤلاء يفعل ذلك اليومَ، وكم نسبتُهم إلى من يقوم الليل على القنوات الفضائية يتابعون الأفلام الخليعة، والتمثيليات الهابطة، والرقصات الماجنة، والأغاني الصفيقة، والسهرات التافهة، فإذا ما آذن الصبح بانبلاج غطُّوا في سبات عميق لا يعرفون صلاة فرض ولا قيام نفل... وكان صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا أيقظ الرجل اهله من الليل، فصليا.. أو صلى ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين والذاكرات)) 5.

3ـ وآتـَتْ زكاة مالها وتصدَّقت على الفقراء والمساكين، وساعدت زوجها بمالها إن كان فقيراً، فهو أبو أولادها، والمعروفُ مع الأقربين أولى.. هذا ما فعلته زينب زوجة عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما حين سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ((تصدَّقن يا معشر النساء، ولو من حُليِّكُن)) فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقالت: إنك رجل خفيف ذات اليد 6 وإنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمرنا بالصدقة، فأتِه، فاسألْهُ إن كانت صدقتي إليك وإلى أولادك تجزئ عني 7 وإلا صرفتها إلى غيركم. قال عبدالله: بل ائتيه أنت، فانطلقَتْ، فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاجتُها كحاجة زينب، وكانت مهابةُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تملأ القلوب، فخرج عليهما بلال فقالتا له: ايتِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما8؟ ولا تخبره من نحن. فدخل بلال على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((من هما؟)) قال بلال: امرأة من الأنصار وزينب. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((أي الزيانب هي؟)) قال: امرأة عبدالله، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة)) 9.

فماذا تقول باللواتي يسرفن، ويكثرن الطلب، ويُحَمِّلن أزواجهن ما لهم به طاقة، وما ليس لهم به طاقة.

ماذا تقول باللواتي يشتكين من قلة أثوابهن وخزائنُهن ملأى بالجديد الغالي، ولا يعبأن أيأتيهن ما يطلبن من حلال أو حرام، ويكثرن التزاور مفتخرات بما يلبسن ويتحلّين، فإذا نبّهتهُنَّ إلى ذلك قلن: هكذا تفعل النساء ولا قدرة لنا على مخالفة ما يفعلن.. نسأل الله العافية.

4ـ وصامَت تبتغي الأجر من الله وتعوّد نفسها تحمُّلَ المشاق، والصبر على الجوع والعطش، فتتذكر الفقراء المحرومين، والأسر البائسة، وتشعر بشعورهم، فتعمل ما وسعها العمل على التخفيف عنهم، ومساعدتهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

زار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم عُمارة الأنصارية رضي الله نها، فقدّمت إليه طعاماً، فقال: ((كُلي)) فقالت: إني صائمة، فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إنَّ الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أُكل عنده حتى يفرُغوا))، وربما قال: ((حتى يشبعوا)) 10 وما أجمل دعاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين زار سعد بن عبادة، فجاء بخبز وزيت، ولم يكن لديه اللحم مرصوصاً فوق الأرز، ولا أنواع الحلوى التي يشبع لرؤيتها الناظرون قبل أن يأكلوا، أكل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه ولم يأنفوا من خبز وزيت. ودعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأهل البيت قائلاً: ((أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة)) 11.

5ـ وَوَصَلَتْ رحمها، وتقرَّبت إليهم، وأكرمتهم إن استطاعت، فمَن أكرم أقاربه كان أقدر على إكرام الآخرين، ومن أحسن إلى أرحامه سهَّل الله له إكرام مَن دونهم، والنبع يروي ما حوله ثم يصل إلى ما بَعُد.

فعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة 12 ولم تستأذن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلما كان يومُها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعَرْت يا رسول الله أني أعتقتُ وليدتي؟ قال: ((أوَ فَعَلْتِ؟)) قالت: نعم. قال: ((أما إنّك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك)) 13.

فعلى الرغم أن العتق من أفضل القربات كانت صلة الرحم، والإحسانُ إليهم أعلى فضلاً وأجزل مثوبة.

وقد مرَّ بنا قبل صفحات برُّ أسماء ذات النطاقين بأمها المشركة.

6ـ وصَدَقَتْ في قولها وفي فعلها، فلم تدَّعِ ما لم يكن، ولم تفخر بما لا ينبغي، ولم تسئ إلى مشاعر الآخرين وإن سابقتهم ورغبت أن تكون خيراً منهم، إن المنافسة سمة من سمات الإنسان، ولكن يجب أن تكون في الحق وبالحق، وإلا كانت خداعاً ومكراً لا يليق بالمسلم أن يتصف بهما، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) 14 و (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) 15.

كذلك روت أسماء رضي الله عنها أنّ امرأة قالت: يا رسول الله إنَّ لي ضَرّة 16 فهل عليَّ إن تشَبَّعْتُ 17 من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((المتشبّع بما لم يُعط كلابس ثوبَيْ زور)) 18.

فهي تريد أن تظهر أمام ضرَّتها أن زوجها يفضلها عليها، ويميل إليها، فيعطيها ما لا يعطي الأخرى، لتكيدها وتؤذي مشاعرها، فبماذا شبهها النبي ُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن فعلت ذلك؟ إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ صوَّر هذه الفعلة الشائنة بمن يتزيَّا بزيّ أهل الزهد أو العلم أو الثروة ليغتر به الناس، وهو غير ذلك.

7ـ وتوكَّلَتْ على الله ولجأت إليه في العسر واليسر ووصلت حبلها بحبله فكانت أهلاً للأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، فاستنَّ الناس بسنَّتها، واقتدوا بسيرتها.

وقد حدثنا النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصة هاجر أم إسماعيل عليه السلام، فقد جاء إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأم إسماعيل وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت الحرام، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعها هناك، ووضع عندها جِراباً فيه تمر، وسقاءٌ فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيئ؟ فقالت ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آللهُ أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيّعنا، ثم رجعت.

جواب رائع، رائع، يدلُّ على عظيم الإيمان بالله سبحانه، وجميل التوكل عليه، والرضا بقضائه، فهو سبحانه خيرٌ حافظاً، وهو أرحم الراحمين.

وقال الملك الذي حفر بجناحه زمزم: ((لا تخافوا الضيعة فإن ههنا بيتاً يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنّ الله لا يضيّع أهله)) 19. نعم إن الله لا يضيّع أهله.

فإن فعلت تلك التي تندرج تحت سمة التقوى كانت امرأة صالحة مصلحة، ودرجت في مرابع الإيمان، وكانت حَرِيّة أن تبني جيلاً عظيماً وأمّةً ثابتة الأركان ورجالاً يبنون بسواعدهم المؤمنة وعقولهم الراجحة مجد أمتهم. نسأل الله ذلك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين