المرء مع من أحب

 

روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله ؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددتُ من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: المرء مع من أحب.

المعنى: كان الأعراب إذا قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة متى الساعة؟ وقد تكرر هذا السؤال عن الساعة في عدة آيات منها ما جاء في سورة الأعراف:[يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ] {الأعراف:187}.

وفي سورة النازعات:[يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا] {النَّازعات:43}.

وقال تعالى: [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً] {الأنعام:31}.

والساعة في أصل اللغة: الزمن القصير المعين بعمل يقع فيه. وأطلق في كتب الدين على الوقت الذي ينقضي به أجل هذه الحياة ويخرب هذا العالم وإنما يكون ذلك في زمن قصير، ويطلق أيضاً على ما يلي ذلك من البعث والحساب وهو يوم القيامة.

وقد ورد في الكتاب والسنة أن الله تعالى أخفى علمها عن كل أحد من الرسل والملائكة.

وقال تعالى:[إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى] {طه:15}.

أي: أريد إخفاءها لكي نجزي كل نفس بما تسعى لأنه تعالى إذا ستر عنا وقت الساعة كانت دواعينا إلى فعل الحسن والقبيح مترددة وإذا عرفنا وقتها بعينه كنا ملجئين إلى التوبة بعد مقارفة الذنوب ونقض ذلك الغرض بالتكليف واستحقاق الثواب به فصار ما أريد به من المجازاة للمكلفين بسعيهم واتصال ثواب أعمالهم يمنع من إطلاعهم على وقت انقطاع التكليف عنهم.

قال تعالى:[قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] {التوبة:24}.

فهذه ثمانية أنواع من حق القرابة والزوجية والمنافع والمرافق التي عليها مدار معايش النسا يجب إيثار حب الله ورسوله على حبها.

لأن حب الله تعالى ـ أي حب عبده له ـ هو الذي يجب أن يكون فوق كل حب فإنه سبحانه وتعالى هو المتصف وحده بكل ما شأنه أن يحب من جمال وكمال وبر وإحسان، وكل من يحب وما يحب في الوجود فهو من صنعه وفيض جوده وإحسانه سبحانه.

أما حب المؤمن لله تعالى فعلى درجات تتفاوت بتفاوت معارفه بآيات الله في خلقه الدالة على صفات جماله وكماله.

وأما حب رسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فهو دون حبه عزَّ وجل وفوق حب تلك الأصناف الثمانية وغيرها ممن يحب تلك الأصناف الثمانية وغيرها ممن يحب من الخلق كالعلماء العاملين والمرشدين المربين والفنانين المتقين والزعماء السياسيين والأغنياء المحسنين، فإنه صلى الله عليه وسلم كان المثل البشري الأعلى والأسوة الحسنة المثلى في أخلاقه وآدابه وفضائله وفواضله وسياسته ورياسته وسائر هديه قد خصه الله بجعله خاتم النبيين وإرساله رحمة للعالمين.

ومن الأحاديث في حب الله ورسوله ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس: ثلاثة من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار.

وما رواه الشيخان من حديث أنس أيضاً: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين.

وما رواه البخاري من حديث عبد الله ابن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر.

وقد حملوا هذه الأحاديث على الإيمان الكامل بناء على أن المراد حب الطبع الذي لا يملكه الإنسان إذ من المعلوم بالضرورة أن حب الإيمان والعبادة والإجلال شرط أو شطر من الإيمان بالله وبرسالته صلوات الله وسلامه عليه.

والطريق إلى هذا الحب هو كثرة الذكر والفكر وتدبر القرآن مع التزام سائر أحكام الشرع. وإنما الذكر ذكر القلب مع حسن النية، وصحة القصد وتأمل سننه وآياته في الخلق بأن تذكر عند رؤية كل حسن وجمال وكمال في الكون أنه من الله عزَّ وجل وأن نذكره عند سماع كل صوت من ناطق مفهوم وصامت معلوم كخرير المياه وهزيز الرياح، وحفيف الأشجار.

ومن أقام فرائض الله تعالى كما أمره وترك معاصيه كما نهى ودام على التقرب إليه بالنوافل كما ندب وأكثر من ذكره كما أحب فإنه يصل بفضل الله إلى المقام الذي أشار إليه الحديث القدسي: وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها. قال الله تعالى:[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {آل عمران:31} .

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد السابع من السنة الثالثة عشر ربيع الأول1379هـ=سبتمبر1959م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين