المد والجزر في تاريخ الإسلام -2-

 

تغير حال العرب بالإسلام

ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال، وانقلبت الحقائق، وبطلت التجارب السابقة، وتاه العقل، إذ خرج هؤلاء الأعراب من صحرائهم، يفتحون، ويقهرون، ويغلبون، ويخضعون. تدفق هذا السيل من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عاصمة العرب الإسلامية، لإحدى عشرة سنة للهجرة النبوية، واثنين وثلاثين وستمائة لميلاد المسيح، فغلب كل شيء اعترضه في الطريق، وطما (10) على السهل والجبل، ولم تكن جيوش فارس والروم ومصر وغيرها المعدودة بمئات الألوف، الشاكة السلاح (11)، الشديدة البطش، التي كانت الأرض تزلزل بها زلزالا، لم تكن هذه الجنود المجندة إلا حشائش في هذا التيار الجارف، فلم تعق سيره، ولم تغير مجراه، حتى فاض في مروج الشام، وفلسطين، وسهول العراق وفارس، وربوع مصر والمغرب الأقصى، وأودية هملايا، سال هذا السيل القوي بالمدنيات العتيقة، والحكومات المنظمة القوية، والأمم العريقة في المجد والسلطان فأصبحت خبرا بعد عين {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق} [سبأ: 19].

خرج العرب من جزيرتهم فاحتكوا بالفرس والروم، وكان العرب يكرهون وجوههم (12) ويرهبون سطوتهم في ديارهم، ولكن هانوا عليهم فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وامتلكوا ناصية أمم بعيدة الشأو في المدنية، انقلب رعاء الشاة والإبل، رعاة لأرقى طوائف البشر في العلم والمدنية والنظام، وصار هؤلاء أساتذتهم في العلوم والآداب، والأخلاق والتهذيب، وحقت كلمه الله: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} [القصص: 05].

اللغز الذي أدهش المؤرخين

هذه القوة القاهرة بعد ذلك الضعف المخزي، وهذا النشاط الغريب بعد ذلك الخمود العجيب، وهذا الانتباه السريع بعد ذلك السبات العميق، لغز من ألغاز التاريخ، وقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن هذا الحادث أغرب ما وقع في التاريخ الإنساني، واليك بعض ما قال المؤرخون الأوربيون:

يقول المؤرخ "جبون":" بقوة واحدة ونجاح واحد، زحف العرب على خلفاء أغسطس (في الروم) واصطخر (في فارس)، وأصبحت الدولتان المتنافستان، في ساعة واحدة فريسة لعدو، لم يزل موضع الازدراء والاحتقار منهما، في عشر سنوات من أيام حكم عمر أخضع العرب لسطانه ستة وثلاثين ألفا من المدن والقلاع، خربوا أربعة آلاف كنيسة ومعبد للكفار،وأنشئوا أربعة عشر ألفا من المساجد لعبادة المسلمين، على رأس قرن من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم من مكة، امتد سلطان خلفائه من الهند إلى المحيط الاطلانطيكي، ورفرف علم الإسلام على أقطار مختلفة نائية كفارس وسورية ومصر وإفريقيا وأسبانيا (13) ".

ويقول "ستودارد الأميركي" في كتابه حاضر العالم الإسلامي: " كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دون في تاريخ الإنسان، ظهر الإسلام في أمة كانت من قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وبلاد منحطة الشأن، فلم يمض على ظهوره عشرة عقود، حتى انتشر في نصف الأرض ممزقا ممالك عالية الذرى، مترامية الأطراف، وهادما أديانا قديمة كرت عليها الحقب والأجيال، ومغيرا ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانيا عالما حديثا متراص الأركان، هو عالم الإسلام.

كلما زدنا استقصاء، باحثين في سر تقدم الإسلام وتعاليه زادنا ذلك العجب العجاب بهرا، فارتددنا عنه بأطراف حاسرة، عرفنا أن سائر الأديان العظمى إنما نشأت، ثم أنشأت تسير في سبيلها سيرا بطيئا ملاقية كل صعب، حتى كان أن قيض الله لكل دين منها ما أراده له من ملك ناصر، وسلطان قاهر انتحل ذلك الدين، ثم أخذ في تأييده والذب عنه، حتى رسخت أركانه ومنعت جوانبه، بطل النصرانية "قسطنطين" والبوذية "أسوكا" والمزدكية "قباء كسرو"، كل منهم ملك جبار، أيد دينه الذي انتحله بما استطاع من القوة والأيد، إنما ليس الأمر كذلك في الإسلام، الإسلام الذي نشأ في بلاد صحراوية، تجوب فيها شتى القبائل الرحالة التي لم تكن من قبل رفيعة المكانة والمنزلة في التاريخ، فلسرعان ما شرع يتدفق وينتشر وتتسع رقعته في الأرض مجتازا أفدح الخطوب وأصعب العقبات، دون أن يكون من الأمم الأخرى عون يذكر، ولا أزر مشدود، وعلى شدة هذه المكاره فقد نصر الإسلام نصرا مبينا عجيبا، إذ لم يكد يمضي على ظهوره أكثر من قرنين، حتى باتت راية الإسلام خفاقة من "البرانس" حتى "هملايا"، ومن صحاري أواسط آسيا حتى صحاري أواسط افريقية (14) ".

ويقول مؤرخ عصري "هـ. 1. ل. فيشر" في كتابه تاريخ أوربا: " لم يكن هنالك - في جزيرة العرب قبل الإسلام - أثر لحكومة عربية، أو جيش منتظم، أو لطموح سياسي عام، كان العرب شعراء خياليين، محاربين، وتجارا، لم يكونوا سياسيين، إنهم لم يجدوا في دينهم قوة تثبتهم أو توحدهم، إنهم كانوا على نظام منحط من الشرك، بعد مائة سنة حمل هؤلاء المتوحشون الخاملون لأنفسهم قوة عالمية عظيمة، إنهم فتحوا سورية ومصر، ودوخوا وقلبوا فارس، ملكوا تركستان الغربية، وجزءا من بنجاب، إنهم انتزعوا أفريقية من البيزنطيين والبربر، وأسبانيا من القوط، هددوا فرنسا في الغرب، والقسطنطينية في الشرق، مخرت أساطيلهم المصنوعة في الإسكندرية وموانئ سوريا، مياه البحر المتوسط، واكتسحت الجزائر اليونانية،وتحدت القوة البحرية للامبراطورية البيزنطية، لم يقاومهم الا الفرس وبربر جبال الاطلس، انهم شقوا طريقهم بسهولة حتى صعب في بداية القرن الثامن المسيحي ان يقف في وجههم واقف، ويعرقل سيرهم في الفتح والاستيلاء، لم يعد البحر المتوسط بحر الروم، بل أصبح حوضا عثمانيا لا سيطرة فيه لغير الترك، ووجدت الدول النصرانية من أقصى أوربا الى أقصاها منذرة مهددة بحضارة شرقية مبنية على دين شرقي (15) ".

ويقول مؤلف شيوعي: " إن الإنسان ليدهش إذا تأمل السرعة الغربية التي تغلب بها طوائف صغيرة من الرحالين، الذين خرجوا من صحراء العرب مشتعلين بحماسة دينية على أقوى دولتين في الزمن القديم، لم يمض خمسون سنة على بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى غرز أتباعه علم الفتح على حدود الهند في جانب، وعلى ساحل البحر الاطلانطيكي في جانب آخر، إن خلفاء دمشق الأولين حكموا على إمبراطورية، لم تكن لتقطع في أقل من خمسة أشهر على أسرع جمل، وحتى نهاية القرن الأول للهجرة كان الخلفاء أقوى ملوك العالم. كل نبي جاء بمعجزات آية لما يقول، وبرهانا على صدقه، ولكن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو أعظم الأنبياء وأجلهم، إذ كان انتشار الإسلام أكبر آيات الأنبياء وأروعها إعجابا وخرقا للعادة، إن إمبراطورية أغسطس الرومية بعدما وسعها بطلها "تراجان" نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون، ولكنها لا تساوي المملكة العربية التي أسست في أقل من قرن، إن إمبراطورية الإسكندر لم تكن في اتساعها إلا كسرا من كسور مملكة الخلفاء الواسعة، إن الإمبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة، ولكنها غلبت وسقطت أمام "سيف الله" في أقل من عشر سنوات (16) ".

نظرة تحليلية في هذا اللغز

والآن ننظر في هذا الحادث الغريب نظرا علميا تحليليا، ونبحث عن أسبابه الحقيقية، الجنود والدول في هذا العالم المادي تغلب الجنود والدول في الغالب لوفرة عددها أو بزيادة عدتها وعتادها، ولأنها أحسن في الشكة والسلاح، وفي التنظيمات العسكرية، وفائقة في النظام الحربي، فنتناول جميع هذه العلل المادية التي يرجع إليها الفضل في انتصار الجيوش، والدول عامة، ونبحث فيها علة علة:

مسألة العدد

أما العدد فمعلوم أنه كانت النسبة بعيدة بين المقاتلين في جميع المواقف الحاسمة والمعارك الفاصلة في كفاح الاسلام والنصرانية والمجوسية، وكان الروم والفرس أضعاف عدد المسلمين في أكثر الوقائع. هذه اليرموك كان الروم الذين نفروا لقتال المسلمين يبلغ عددهم مائة ألف وثمانين ألفا، وفي رواية مائتي ألف، وفي رواية أربعين ومائتي ألف. وأقل ما روي عن عددهم عشرون ومائة ألف، وأكثر ما ذكر عن المسلمين أنهم كانوا أربعة وعشرين ألفا. كذلك كانت النسبة بعيدة في وقعة القادسية، وهي أختها في العراق والنتيجة معلومة، "وما يوم حليمة بسر" (17).

وقد اعترف بقلة المسلمين ووفرة جنود الروم والفرس المؤرخون جميعا، ولم يعللوا الفتح الإسلامي الغريب في التاريخ بكثرة عدد مقاتلة المسلمين، جاء في الفصل الرابع للأستاذين "غودفروا دمونبين" و "بلانونوف":

"ان العرب الذين أفاضوا من الجزيرة لفتح الأمصار لم يكونوا عصائب لا تحصى ولا تعد، تدفقت على الشرق المتمدن، فقد أحصى مؤرخو العرب الجيش الأول للمسلمين في اليرموك بثلاثة آلاف، ثم أرسل إليهم الخليفة بنجدة أبلغتهم 7500 مقاتل، وأخيرا تتام عددهم 34 ألفا، وأما عدد الروم فقال العرب: إنه كان مائة ألف، وقيل 130 ألفا وقيل 200 ألف مقاتل، ولم يزده مؤرخو بيزنطية على 40 ألفا وعلى كل حال كان العدد الأكبر لأعداء العرب، وهكذا في حروب فارس (18) ".

ومعلوم أن جزيرة العرب قليلة العمران بالنسبة إلى مساحتها واتساع رقعتها، معظمها صحراء، ورمال وعثاء، وأرض قاحلة جرداء، أما البلاد التي زحف عليها المسلمون ورموا فيها بأنفسهم، فهي من أخصب بلاد الله مستبحرة العمران، مكتظة بالسكان، وكانت خليتها تعسل حينا بعد حين، وتقطع بعوثا إثر بعوث، وتتدفق سيول من الجيوش والمقاتلة، وتأتيهم الميرة من كل مكان لا تكاد تنتهي، وكان العرب الغرباء كنقطة مغمورة في بحار من الأعداء، نازحين عن بلادهم، منقطعين عن مركزهم، ولا يصلهم المدد إلا بشق الأنفس وبعد شهور، ولا يجدون من الميرة إلا ما يتغلبون عليه وينتزعون من أيدي أعدائهم انتزاعا ، فلو تطوعت جزيرة العرب كلها لقتال الروم والفرس، ونفر جميع أهاليها للجهاد في سبيل الله على أن ذلك من المستحيل - لما وقعوا من العالم النصراني والمجوسي - وهما أكثر من نصف الأرض المعمورة - بمكان، فكيف والذين تطوعوا للجهاد ما كانوا نصف عشر عمران الجزيرة؟!.

الحلقة السابقة هــــنا

الهوامش :

10 ـ يوم حليمة: هو يوم من أشهر أيام العرب في الجاهلية، وهذا المثل يضرب في كل أمر متعالم مشهور.

11 ـ حاضر العالم الإسلامي حواشي الأمير شكيب أرسلان (ج 1 ص 39).

12 ـ البداية والنهاية (ج 7 ص 40). ... ...

13 ـ أيضا (ج 7 ص 41).

14 ـ حاضر العالم الإسلامي حواشي الأمير شكيب أرسلان (ج 1 ص 39).

15 ـ تفسير ابن جرير (ج 4 ص 33)، ومعكوفين: مشدودين.

16 ـ علا وغطى.

17 ـ الشاكة السلاح: التامة السلاح أو الحادة السلاح.

18 ـ قال الطبري: عندما أراد عمر فتح فارس تخوفوا من الفرس وعجبوا كيف يستطيعون أن يحاربوهم؟ وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم، وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وشوكتهم، وعزهم وقهرهم الأمم. (تاريخ الطبري ج 4 ص 61).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين