المدرسة البادرائية ـ بدمشق

مجلة الزهراء رمضان ـ شوال 1346هـ

في يوم من أيام عام 655هـ، نزل على دمشق بغدادي جليل القدر واسع العلم، وهو الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد البادرائي، مدرِّس المدرسة النظامية في بغداد، وكان مع علمه وأدبه حكيماً سياسياً مُتواضعاً وقوراً واسع الصدر يملأ قلب من يجتمع به، وكان لنوافر هذه الصفات فيه ـ رسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الأمور المهمة، وإصلاح الأحوال المدلهمة.
 
وكان مدة وجوده في دمشق موضع حفاوة علمائها وأعيانها، بما عهد في أهل هذه المدينة ـ منذ القِدم ـ من دماثة الأخلاق، والرقَّة واللطف، مُتمثِّلة فيهم حضارة أقدم مدينة باقية على وجه الأرض، ولم يكن يومئذ في أقطار الشرق الأدنى ما يوجد فيها الآن من نزعات التفرُّق باسم الأوطان فكان المسلمون جميعاً إخوة، وكان الاشتراك في اللغة والأدب والثقافة لا يُخطر بالبال شيئاً من الفروق التافهة التي ترجع إلى مناطق الأوطان الصغيرة.
 
وكان من آثار ما لقيه النجم البادرائي من حفاوة الدمشقيين به أنه عزم على أن يترك في مدينتهم أثراً له يُذكر به في الدنيا وتخلَّد له به المثوبة في الآخرة، فكان أول ما خطر بباله أن يكون هذا الأثر بشكل مدرسة يقيمها في نقطة متوسطة بين ثلاثة أحياء كبرى من أحياء مدينة دمشق فأنشأ (المدرسة البادرائية) بين حيِّ العمارة، وحي باب السلام، وحي القيمرية، وكانت لهذه الأحياء يومئذ مكانة وسيادة بما لسكانها من شأن وفخامة.
 
واختار مدرس المدرسة النظامية أن تكون مدرسته في دمشق في مكان دار الأمير سامة التي كانت قبل ذلك في موضع هذه المدرسة، وسرعان ما قام بنيانها، وبدت محاسنها، وأقيم لافتتاحها احتفال عظيم اشترك فيه السلطان الناصر وفحول العلماء وكبار الأمراء والأعيان وأهل الثروات الطائلة، وتُلي في يوم الاحتفال كتاب الوقف الذي وَقَفَه الضيف البغدادي على المدرسة الدمشقية وفيه أسماء قرى وبساتين وعقار رُصدت كلها على نفقة هذه المدرسة والمنقطعين فيها لطلب العلم.
 
ومما اشترطه أن يكون طلبة هذه المدرسة غير مُتزوجين وأن لا يدخلها امرأة، ليضمن انقطاع القوم للعلم ما داموا فيها، فلا يصرفون أوقاتهم إلا في تحصيله.
 
وقد تولى التدريس في هذه المدرسة العلامة شيخ الشافعية في وقته بالشام برهان الدين أبو إسحاق، ثم ولده كما الدين من بعده، وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد، ثم صار النظر إلى ذريته فاستمرَّ فيهم عدة قرون.
 
ومن محاسن المدرسة البادرائية أنه كان فيها خزانة كتب في زمن الواقف، ولابد أنها ازدادت واتسعت بعد ذلك إلى أن جاءت عصور الجهل الأخيرة فامتدَّت إليها الأيدي وزالت من الوجود.
 
وقد كافأ الله ضيف الشام البغدادي في الدنيا والآخرة على ما خدم به العلم من إقامة هذه المدرسة، فإنه لما عاد إلى بغداد ليستمر على التدريس في النظامية عُرض عليه أن يكون قاضي القضاة، وكان ذلك أعلى منصب إسلامي يومئذ بعد الخلافة، مكافأة له على ما بلغه من منزلة، وكان النجم البادرائي يكره أن يتقلد هذا المنصب في شيخوخته ويود أن يستمر في حياة الهدوء مقتصراً على التدريس، فحمله الخليفة على قبول هذا المنصب كرهاً، ثم قبضه الله إليه في مستهل شهر ذي القعدة من تلك السنة ـ رحمه الله تعالى ـ.
 
أما المدرسة البادرائية الآن فَمِثْلُ سَائرِ مدارسِ دمشق، ليس فيها شيءٌ من سمة العلم ولا مظهر من مظاهره، ولعل التهاون بأمر هذه المدارس في القرون الأخيرة من الأسباب التي جعلت الجو خالياً لانتشار الدعايات الضارَّة في الأوطان الإسلامية.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين