المحبة وأنواعها -2-

 

ذكرنا لكم شيئًا في المقال السابق عن المحبة وآثارها وفوائدها وما جاء فيها واليوم نذكر لكم أنواع المحبة ونتغلغل بك في حديثها -وأي حديث ألذ من حديث المحبة؟!

ولسنا نقول ما يقول ذلك القائل الذي يؤلمه أنه لا يجد من يطارحه حديث المحبة:

ما بالديار أخو شوق نطارحه=حديث نجد ولا خل نصافيه 

ولنعد إلى الموضوع فنقول:

من أنواع المحبة محبة الوالد لولده. وهي تكاد تكون لا لغرض ولا علة، لأنها من قبيل محبة الشخص لنفسه، فإن في بقاء ابنه نوع بقاء له. وقد ينضم إلى ذلك توهم المنفعة من الولد، فهي طبيعية لا يشذ عنها إلا من خرج عن مقتضيات الطبيعة.

ومنها محبة الولد لوالده. وهي تكاد تكون من قبيل محبة العلل والأغراض، حتى إن من الأولاد من يفرح عند موت أبيه أو لا يتألم لما ترك وراءه من ثروة طائلة. ولعل ابن الفقير يحزن على أبيه أكثر من ابن الغني. وأما ما تجده من احترام الأبناء للآباء والقيام بواجبهم فمرجعه في الغالب إلى مزيد أدب، أو حسن تربية،أو دفع معرة وانتقاد، أو توهم منفعة وحصول غاية، لا إلى مودة ومحبة. ولهذا ترى القرآن الشريف قد اعتنى بوصية الأبناء على الآباء شدة الاعتناء، وترك الآباء ينساقون نحو الأبناء بسائق المحبة الطبيعية.

فيجب على الأولاد أن يقووا في نفوسهم محبة آبائهم، وأن يتفكروا فيما كان لهم من إحسان لا يسمح به غيرهم، فيقابلوا المحبة بالمحبة والإحسان بالإحسان، وأن يكرروا على مسامعهم ما جاءت به الآيات والأحاديث، وما رسمته الأخلاق والآداب في ذلك.

ويلزمنا أن نكتفي منهم بهذا الحب التكلفي، حيث لم نظفر منهم بالحب الطبيعي، وهو كافل للراحة وكاف في الصفاء.

ولنذكر هنا ما ذكره كثير من المفسرين عند تفسير قوله تعالى:[وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا] {الإسراء:24} ، فنقول: روى ابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الله تعالى في رضا الوالدين، وسخط الله تعالى في سخط الوالدين».

وقد صح أن رجلا جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد معه، فقال: «أحيٌ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد». وما أحسن ما قال بعضهم:

غذوتك مولودًا وَمُنْتك يافعًا=تعل بما أجني عليك وتنهلُ 

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت=لسقمك إلا ساهرًا أتململُ  

كأني أنا المطروق دونك بالذي=طرقت به دوني فعيني تهملُ 

تخاف الردى نفسي عليها وإنها=لتعلم أن الموت وقت مؤجلُ 

فلما بلغت السن والغاية التي=إليها مدى ما كانت فيها أؤمِّلُ 

جعلت جزائي غلظة وفظاظة=كأنك أنت المنعم المتفضلُ 

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي=فعلت كما الجار المجاور يفعلُ 

تراه محبا للخلاف كأنه=برد على أهل الصواب موكلُ 

وكان ذلك فيما يروى بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: للولد: «أنت ومالك لأبيك». كذا رواه البيهقي في الدلائل، والطبراني في الأوسط والصغير في قصة طويلة. وروى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» في قصة جرت له مع أعرابي كان أبوه يود عمر بن الخطاب.

محبة الأصدقاء:

ومنها محبة الأصدقاء ولا بد للإنسان من صديق يأنس به، ويلقي عليه بعض همومه، وقد خلق الإنسان ضعيفًا، حتى إنه لا يستطيع أن يكتم ما في صدره من فرح أو ترح، وهو على نفسه أشق من الأثقال الحسية، فإن هذه على جسمه وتلك على قلبه:

ولا بد من شكوى إلى ذي صداقة=يسليك أو ينسيك أو يتوجع 

وقد قيل لبعض الحكماء: أخوك أحب إليك أم صديقك؟ فقال: إني لا أحب أخي إلا لكونه صديقي.

وكثيرًا ما تسمعهم يقولون: إن الصديق محال الوجود. حتى إذا أردت أن تبالغ في أمر قلت: هو من رابع المستحيلات، وأما الثلاثة فهي مقررة معروفة لا نزاع فيها:

أيقنت أن المستحيل ثلاثة=الغول والعنقاء والخل الوفي 

ويقول غيره: 

سمعنا بالصديق ولا نراه=على التحقيق يوجد في الأنام 

وأحسبه محالا نمقوه=على وجه المجاز من الكلام 

وهاك شيئًا مما قالوه في هذا الموضوع، نورده لك تفكهة أو تبصرة: 

تغير إخوان هذا الزمان=فكل خليل عراه الخلل 

وكانوا قديمًا على صحة=وقد داخلتهم صروف العلل 

قضيت التعجب من أمرهم=فصرت أطالع باب البدل 

 

خذ من دنا وتجاف من بعدا=لا تكرهن على الهوى أحدا 

قد أكثرت حواء ما ولدت=فإذا جفا ولد فخذ ولدا 

 

وزهّدني في الناس معرفتي بهم=وطول اختباري صاحبا بعد صاحب 

فلم تُرِنِي الأيام خِلاًّ تسرني=مباديه إلا ساءني في العواقب 

إني لأفتح عيني حين أفتحها=على كثير ولكن لا أرى أحدا 

 

إذا ما ضاع منك اليوم خِل=فلا تحزن عليه الدهر وافرح 

فإن الخل عبء أي عبء=فمهما اسطعت أن تلقيه فاطرح 

 

إذا قيل في الدنيا خليل فقل نعم=خليل اسم شخص لا خليل وفاء 

وإن قيل في الدنيا جواد فقل نعم=جواد ركوب لا جواد عطاء 

إلى غير ذلك وهو كثير. وسر ذلك أن الإنسان يطلب صديقًا لا يتغير بحال، ولا يتصف بعيب، يقدمك على نفسه، ويتحملك في كل ما تأتي به، كما قال قائلهم:

إن أخا الإنسان من كان معه=ومن يضر نفسه لينفعه 

ومن إذا ريب الزمان صدعه=شتَّت فيه شمله ليجمعه 

ومن الغريب أنه يوجب ذلك على صديقه له ولا يوجبه على نفسه لصديقه. ولكن إذا كانت الصداقة مبنية على تشاكل في الأرواح، وصادفت مع هذا استعدادًا حسنًا، كانت الأمنية المطلوبة، والبغية المرغوبة. وإذا تكمل إيمان المرء وجدت فيه كل ما تحب من صفات الخير وسجايا الفضل، حتى يقدمك على نفسه كما تحب، فإنه إذا وصل إلى درجة الكمال كان من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

ولا شيء يعلي الهمة ويعظم المروءة ويورث الرحمة ويغرس في القلوب المحبة مثل الإيمان الكامل. فإذا اشتاقت نفسك إلى ذلك الصديق فاطلبه بين المؤمنين، فعسى أن تجده فيهم، فهم مظان وجوده.

على أنه يلزمك أن تكتفي من صديقك بفضيلة من الفضائل، وتغتفر له في جانب ذلك ما يكون منه، فإن الحسنات يذهبن السيئات:

ولستَ بمستبْق أخا لا تلمه=على شعَثٍ أيُّ الرجال المهذَّب 

ولا تطلب أن يكون جامعًا لكل فضل، مبرأً من كل نقص (وإذا كان مَن هذه صفاته ممن يدخل في عالم الوجود فاجتهد أن تكون أنت ذلك الإنسان).

فالخلاصة: أنه يلزمك أن تعرف الطبائع البشرية ومقتضياتها، ولا تطلب ما ليس في طبع الإنسان، وأن تكتفي ممن يكون صديقك بجهة من جهات الخير، ثم تقبله بعد ذلك على ما فيه من عيب، وتتحرز منه في الجهة الأخرى (جهة الشر الذي فيه). فإذا ظفرت بمن يغلب خيره على شره، فقد ظفرت بالخير كله.

محبة الوطن:

حب الوطن يكاد يكون ألصق شيء بالنفوس، حتى إنه ليلتحق بغرائزها المجبولة عليها. وقد قرن الله الخروج من الأوطان بالقتل فقال: [وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ] {النساء:66}. فلولا أن حب الوطن متأصل في النفوس ما جعل الخروج من الأوطان قرين القتل. وقال في آية أخرى حكاية عن بني إسرائيل: [وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا] {البقرة:246}. ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه حنينًا إلى وطنه الذي نشأ فيه، وشوقًا إلى تلك المعاهد التي ربي فيها، وميلا طبيعيًّا إلى ذلك الصفاء الذي أخذ من قلبه محلا لا تعفيه الدهور:

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو=عهودًا مضت فيها فحنوا لذلكا

ومحبة بلادك التي غمرتك بخيراتها، ومحبة أمتك التي تسعد بسعادتها وتشقى بشقائها ليست في الحقيقة إلا محبة لنفسك.

وإن الأمة لا تكون أمة تتمتع بحقوق الأمم الحية، وتأمن على نفسها من الانحلال والفناء في الأمم الأخرى، إلا إذا رسخت فيها محبة الوطن.

وقد ندبك الدين الحنيف إلى محبة الناس كلهم والرحمة بهم، ولكن على درجات مخصوصة وحدود محدودة. والإنسان الكامل هو من لا تختلط عليه الأمور ولا تشتبه لديه الخيرات بالشرور، فيعرف مراتب المخلوقات ونسبتها إليه، ومقدار قربها وبعدها من خالقها، فيعطي كل مرتبة حقها، وكل درجة قسطها، ملاحظًا معاملة الله لهم ورحمته بهم، وأنهم مخلوقاته، فلا يجهل نسبتهم، ولا يظلم رتبتهم، ومن أحب الصانع واعتقد كماله، أحب الصنعة لا محالة.

وللأشياء جهات وحيثيات يجب أن تراعى كلها في نظر الحكيم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «تخلقوا بأخلاق الله» فمن شاركك في الإنسانية كان له عليك حق واحد وهو حق الإنسانية، ومن شاركك في الإيمان أيضًا فله عليك حق الإنسانية وحق الإيمان. فإن كان مع هذا أحد من ينتمي إليك بالقرابة، كان له عليك حق القرابة أيضًا. فإن انضم إلى ذلك كونه جارًا لك انضم إلى تلك الحقوق حق رابع ، وهكذا.

وأهل تلك الدرجات متفاوتون أيضًا، فمن كان أقرب إليك كان أعظم حقًّا عليك، ومن كان ألصق بك من جيرانك كان أوجب مراعاة من غيره، ومن صنع معك خيرًا من أولئك الأقارب أو الجيران كان حقه عليك آكد ممن سواه: « من صنع معكم معروفًا فكافئوه [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ] {الرَّحمن:60}. فإذًا أهل وطنك لهم عليك حقوق كثيرة، وواجبات عديدة، على حسب ما شرحنا. ولعلك من أوسع الناس علمًا بهذا الموضوع (موضوع محبة الوطن) فلنقتصر منه على هذا.

ولكن لا بأس بعد ما تقدم أن نسوق إليك فائدة أخرى: وهي أن الإنسان إذا لم يكن بين من يميل إليهم من أشكاله فهو غريب وإن كان في وطنه، فإن معاشرة من ليس بينك وبينه مناسبة أثقل على الأرواح من كل شيء، وقد قالوا: إن حُمَّى الروح مجالسة الثقيل الذي يباينك وتباينه، وأنشدوا في ذلك:

وما غُرْبة الإنسان في البعد والنوى=ولكنها في قرب من ليس من شكلي 

وإني غريب بين بست (1) وأهلها=وإن كان فيها موطني وبها أهلي 

محبة الله عز وجل:

قد سبق لك أسباب المحبة، وأن كل سبب منها يوجب المحبة على انفراده، وإن كان بعضها أقوى من بعض. فإذا أمكن أن تجتمع هذه الأسباب كلها في شيء واحد، وجب أن تكون محبته أتم أنواع المحبة وآكدها وأشدها، ولا يتصور ذلك على الحقيقة إلا في الله تعالى، كما ستعلم: [وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ] {البقرة:165}. فإذا نظرت بعين التحقيق وصادفك نور التوفيق، وجدت كل سبب من الأسباب المتقدمة يقضي عليك بحب الله تعالى، بل إذا دققت النظر وأمعنت الفكر، ورقَّت كثافة حجابك وعلوت عن أرض طبيعتك، وترقيت عن درجة المحسوسات التي يشاركك فيها جميع الحيوانات، إلى أفق قلبك، وأشرقت عليك شمس بصيرتك، وجدت المستحق للمحبة على الحقيقة إنما هو الله تعالى دون غيره.

فإذا كان الإحسان يقتضي محبة المحسن، فلا إحسان كإحسانه تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا] {إبراهيم:34}. فإحسانه عليك في إفاضة وجودك، وإعطائك ضرورياتك وحاجياتك وكمالياتك: من عقلك، وسمعك، وبصرك، وذوقك، وجميع حواسك، وصفاتك الظاهرة والباطنة، وأنواع النعم الخارجة عن ذاتك، مما تندفع به ضرورتك، أو تزول حاجتك، أو تتم به لذتك - هذه الإحسانات الفائضة، والمنن المتواترة، لا تكاد تحصى أصنافها فضلا عن جزئياتها. ولو نظرت إلى نعمه المودعة في الهواء أو الماء، أو نور الشمس والقمر، وخلق الليل والنهار، لانقطعت أثناء سيرك ولم تفز إلا بقدر يسير منها، بل لا إحسان في الحقيقة إلا له تعالى، فإن من أنعم عليك من الخلق بشيء فإنما يقصد نفع نفسه بارتفاع الصيت وجميل الثناء أو حسن الجزاء، فهو في الحقيقة بائع أخرج من يده شيئًا ليعتاض عنه ما هو أعز منه عنده عاجلا أو آجلا.

ولا يتصور الإحسان الحقيقي الذي لا يقصد به عوض إلا من الله تعالى. على أنه هو الذي سخر لك قلب ذلك المحسن، وأودع فيه محبتك، أو الشفقة عليك، أو رجاء الخير من الله، أو من الناس بمساعدته إياك. ولو شاء لعكس كل ذلك وصرف قلبه عنك، وألقى في روعه ما ينفره منك (والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن).

فإن كنت تحب أحدًا لأجل إحسانه فاعرف المحسن الحقيقي، ولا يكن نظرك كنظر الحيوان يحب سائسه الذي يقدم له العلف، ولا يحب مالكه الذي أمر السائس وأعطاه على ذلك أجرًا.

وإن كنت تحب وجود نفسك وبقاءها وكمالها، فأحب من أعطاك ذلك كله من غير أن تسأله. بل كان في تدبيرك من قبل وجودك، وقد أعطاك من كمال الخلقة الظاهرية والباطنية ما لا يمكنك أن تهتدي إليه حتى تطلبه منه.

وإن كنت تحب أحدًا من أجل صفاته الجليلة ونعوته الجميلة كما تحب الملوك العاملين أو الفضلاء الكاملين وإن لم ترج خيرهم والانتفاع بهم، فأحب خالق الكمال والجمال الذي تنزه عن كل نقص، واتصف بكل صفات الكمال، والتي لا يصل إليها العلم، ولا يحيط بها العقل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

وإن كل من تحبه لهذا السبب فإنما تحبه لصفات معدودة وكمالات محدودة. فلتكن واسع النظر، نافذ البصيرة، عالي الهمة، عظيم العلم، كبير الفهم، حتى تحب من لا تعد صفاته، ولا تنتهي كمالاته. ولا تكن كالصبيان لا يمكنهم أن يحبوا من طبقات الناس إلا أسفلها وأدناها، دون أشرفها وأعلاها. وأنت مستعد لإدراك الجمال المعنوي والكمال الإلهي، وهي خاصتك التي امتزت بها عن سائر الحيوان. وعلى قدر ذلك تلتحق بالملائكة ويتحقق فيك روح الإنسانية.

وكل من بطلت فيه خاصة نوعه فليس في الحقيقة من ذلك النوع، لأن النوع لا يوجد بدون خاصته على الحقيقة، فهيج من نفسك الشوق إلى تلك المعارف التي هو ألذ من كُلِّ شيء، ولا تُمت تلك الحاسة الباطنية التي هي أعلى حواسك وأشرف مزاياك.

فلذة العلم عند ذويها فوق اللذائذ كلها، لأنها لا توجد إلا في سماء الإنسانية دون أرض الحيوانية. واللذائذ مرتبة على حسب درجات العوالم، ولذة العلم بعد ذلك على قدر ما تدرك من شرف المعلوم. فليس علمك بأسرار الملِك وشؤونه في مملكته كعلمك بأحوال رجل من السوقة. فإذًا يكون العلم بأشرف المعلومات ألذ العلوم، وليس هناك أجل من الله تعالى الذي لا يثني عليه حق ثنائه غيره، ولا يحيط بكماله سواه.

فطهر قلبك من أدناس الرذائل كلها، وهيئه لغرس تلك المحبة التي هي أتم اللذات وأكبر السعادات، وهي مطلب قلبك لو كان باقياً على صحته، ومأرب روحك لو لم تتشعب بها الطرق وتظلها الأهواء:[ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا] {الإسراء:85}  . وإلا فأنت المخاطب بقول القائل:

لديك جمال الجمادات فهِمْ بها=إذا كنت ميالا إلى الصور الخرس 

هذا ويجمل بك ها هنا أن تعرف أن المحبة أنجع وسيلة إلى تهذيب الأخلاق وتكميل النفوس، بل إن شئت فقل إنها تقلب الطباع وتغير الحقائق: فتجعل الشحيح من أسخى الأسخياء، والجبان من أشجع الشجعان. فإذا اتفق لك أنك وصلت إلى حد الكمال في محبة الله تعالى ومحبة رسوله ومحبة الكاملين من أمته، سارعتْ إليك الكمالات، وترادفت عليك الخيرات، وانطبعت في مرآة قلبك صفاتهم، فتبدلت منك الرذائل بالفضائل. وعلى قدر المحبة يكون انطباع صفات المحبوب في نفس المحب. وقد عرَّفوا المحبة بأنها استهلاك الصفات في الصفات، وفناء الإرادات في الإرادات:

فلم تهوني ما لم تكن فيَّ فانيا=ولم تفن ما لم تجتلِ فيك صورتي 

وقد عُرِّفت أيضًا بأنها نار تحرق من قلب المحب الميل إلى ما سوى المحبوب:

وحَّدَ القلبُ حبه فالتفاني=لك شرك ولا أرى الإشراكا 

وناهيك بمن وصل إلى تلك الدرجة من محبة الله تعالى ومحبة رسوله: كيف تترادف عليه البركات، وتغمره الفيوضات، فيستحق من الكرامة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

واذكر هنا قوله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب». واعرف شرف تلك المعية وما لذويها من الدرجة العلية. فالحب أكبر وسيلة من وسائل الخير والكمال.

كما أنه أعظم ذرائع الفساد إن تعلق بغير ذلك. فهو ترياق نافع، وسم ناقع، على حسب ما يتعلق به من المحبوبات. ويكفيك هذا التلميح. والله يتولى هداك.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة الأزهر المجلد 6 محرم 1354 هـ الجزء /6/ بتصرف يسير

( )   بست بالفتح : واد بأرض أربل ، وبالضم : بلد بسجستان كذا في القاموس

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين