المحاسبة والمراقبة والتوبة (لحبس المطر) - المحاسبة والمراقبة والتوبة
المحاسبةُ والمراقبةُ والتوبةُ  
(( لحبس المطر )) 

الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسانَ ويعلمُ ما كسبَ ، أحمدُه سبحانَه وتعالى وأشكرُه ، جعلَ التقوى أفضلَ نسبٍ وأقوى سببٍ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ ، داعي العبادِ إلى مولاهم ، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ ، وتابعيهم ومنْ تبعَهم على سبيلِ هداهم .

وبعدُ أيُّها المسلمونَ ! اتقُوا اللهَ الذي يعلمُ الجهرَ وما يخفى ، وإليهِ ينتهي ما كسبتُم في الليلِ وما جرحْتم في النهارِ ، ولينظرْ كلُّ إنسانٍ فيما قدَّمَت يداهُ ، وما تحركَ بهِ لسانُه ، وما وقعَ عليهِ طرفُه ، وليعلمْ أنَّه مسؤولٌ عنْ القليلِ والكثيرِ ، وأنَّه محاسبٌ حساباً لا هوادةَ فيهِ ، ولا إغفالَ ولا إهمالَ ،
فليأخذْ العاقلُ منْ دنياهُ لآخرتِه ، وليهيئْ لنفسِه المقامَ الذي يريدُ يومَ القيامةِ ، وليملكْ زمامَ نفسِه فلا تسيءُ ، ونزغاتِ قلبِه فلا يميلُ ، فإنَّ النفسَ أمارةٌ بالسوءِ ، ما لمْ يرضْها بالتقوى ، والقلبُ نزاعٌ إلى الشهواتِ ما لم يلذ لِّلْهُ باليقينِ ، والمرءُ أقربُ إلى الهوى ، وأحرصُ على الشهواتِ ، فرحمَ اللهُ عبداً نأى عنْ مزالقِ الشرِّ والضلالةِ ، وسلكَ سبلَ الخيرِ والهدايةِ ، ونظرَ فيما قدمَ فحاسبَ النفسَ  عليهِ قبلَ أنْ يحاسبَ ، وشددَ عليها في السؤالِ قبلَ أنْ يشددَ عليهِ ، وعددَ لها ما بدرَ منْه ، فسألهَا عنْ إصباحِه فيمَ انقضى ؟ وعنْ إمسائِه فيمَ انتهى إليهِ ؟ وعما أودعَه بياضُ نهارِه منْ قولٍ أو عملٍ ، وما تضمنَه سوادُ ليلِه ، منْ صمتٍ أو تفكيرٍ أو أملٍ ، واستغفرَ اللهَ منْ ذنبِه ، وتابَ إلى ربِه ، وعاهدَه أنْ يصلحَ منْ ذاتِ نفسِه ، وأنْ يحملَها إلى ما يحبُّه ويرضاهُ .

أما واللهِ لتجدنَّ ما قدمتُم بينَ أيديكم منْ عملٍ ، فليخترْ كلُّ امرئٍ ما يصحبُه يومَ القيامةِ ، ألا وإنَّ دنيانا هذِه سوقٌ يجدُ فيها الناسُ الحلوَ والمرَّ ، والخيرَ والشرَّ ، فطوبى لمنْ تزودَ منْها أحسنَ زادٍ ، وحملَ منْها النورَ الذي يضيءُ له السبيلَ ، والخيبةُ لمنْ ألقى الحبلَ على الغاربِ ، فلمْ يحاسبْ النفسَ ، ولمْ يملكْ منْ زمامِ الشهواتِ ، فحاسبوا النفوسَ عبادَ اللهِ وراقبوا اللهَ تعالى فيما جلَّ وقلَّ ، فما راقبَ اللهَ امرؤٌ إلا صلحَتْ حالُه ، وكانَ إلى السعادةِ مآلُه .

واعلموا أنَّ ما يصيبُ الأمةَ منْ البلاءِ والمحنِ ، وانحباسِ الأمطارِ ، وغلاءِ الأسعارِ ، إنَّما بشؤمِ المخالفاتِ ، وفشوِّ المعاصي والمنكراتِ ، ولولا رحمةُ اللهِ بالشيوخِ الركعِ ، والأطفالِ الرضعِ ، والبهائمِ الرتعِ ، لصبَّ علينا العذابُ صباً ، إنَّ أمطارَ السماءِ ، وبركاتِ الأرضِ رزقٌ منْ اللهِ ، يمنحُه اللهُ تعالى منْ يشاءُ ، ويمنعُه منْ يشاءُ ، يعطيهِ الكافرَ والعاصي استدراجاً ، ويمنعُه المؤمنَ تذكيراً بالتوبةِ والاستغفارِ ، وسوقاً على حلِّ عقدةِ الإصرارِ ، فارجعوا إلى اللهِ بصحيحِ الإنابةِ ، و [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12) ]. {نوح}.
إنَّ خيراتِ السماءِ وبركاتِ الأرضِ ، رزقٌ منْ عندِ اللهِ ، وإنَّ اللهَ لا ينالُ ما عندَه بمعصيتِه ، فاطلبوا ما عندَه بطاعتِه ، [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {الأعراف:96}

إنَّ خيراتِ السماءِ وثمراتِ الأرضِ نعمةٌ عودَها اللهُ عبادَه ، وهوَ البرُّ الرحيمُ ، والجوادُ الكريمُ ، لا يمنعُها إياهم بخلاً ولا تقتيراً ، إنَّما يؤخرُها عنْهم تأديباً وتذكيراً . [ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الأنفال:53}

قالَ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ : لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ) .
رواه ابن ماجه في كتاب الفتن 4009 ، عن ابن عمر رضي الله عنه.

فراقبوا الله أيُّها المسلمونَ !  والجئوا إليهِ بصحيحِ الإنابةِ ، [وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {النور:31}.

واسمعوا نداءَ ربِّكم عزَّ وجلَّ : [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ] {الزُّمر:54}

الخطبةُ الثانيةُ

الحمدُ للهِ القائلِ :  [هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ] {غافر:13}
أحمدُه وأشكرُه ، وهوَ القائلُ : [مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ] {الشُّورى:20}
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ .
أما بعدُ عبادَ الله ! اتقُوا اللهَ وقفوا وِقفةَ المعتبرِ عندَ قولِه تعالى : [وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخَلْقِ غَافِلِينَ(17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ(18) ]. {المؤمنون}.
عبادَ اللهِ ! إنَّ أمطارَ السماءِ وبركاتِ الأرضِ منْ نعمِ اللهِ عزَّ وجلَّ ، وإنَّما يعطي اللهُ النعمَ ، ويدفعُ النقمَ ، إذا استحقَّ عبادُه الإنعامَ ، فأنابوا إليهِ ، وأصلحوا أعمالَهم ، واعتمدوا بقلوبِهم عليهِ ، وإنَّ منْ أعظمِ البلاءِ والنقمِ ، وسلبِ الآلاءِ والنعمِ ، هذِه المعاصي الفاشيةُ بلا نكيرٍ ، لقدْ كثرَ في المسلمينَ تركُ الصلاةِ ومنعُ الزكاةِ ، وأصبحَ الناسُ جرآءَ على اللهِ ، فأعلنوا المعاصي والمنكراتِ ، واستباحوا المآثمَ والمحرماتِ ، فأكثرُ النساءِ سافراتٌ أو متبرجاتٌ ، وحاناتُ الخمورِ ومواخيرُ الفجورِ مفتحةُ الأبوابِ ، مسهلةُ الأسبابِ ، وهذا اليانصيبُ وهوَ منْ الميسرِ المحرمِ ، ينادى عليهِ في الشوارعِ والأسواقِ ، تحتَ سمعِ المسلمينَ وبصرِهم بلا رادعٍ ولا زاجرٍ ...

وقدْ قالَ سيدُنا أبو بكرٍ الصديقُ t : أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَؤُونَ هَذِهِ الآيَةَ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] {المائدة:105}  وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : ( إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ )
أبو داود في كتاب الملاحم 3775 ، والترمذي في كتاب الفتن 2094 .

فراقبوا اللهَ عبادَ اللهِ ! واتعظوا بما وعظَكم بهِ نبيُّكم صلى الله عليه وسلم ، وأحبوهُ وأكثروا منْ الصلاةِ والسلامِ عليهِ ، قالَ اللهُ تعالى : [إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] {الأحزاب:56} 

اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ على سيدِنا محمدٍ ، وعلى آلِه وأصحابِه ، وأنصارِه ، وأتباعِه وأحبابِه ، وارضَ اللهمَّ عنْ ساداتِنا الخلفاءِ الراشدينَ ، والأئمةِ المجتهدينَ ، والعلماءِ العاملينَ ، ومنْ سارَ على نَهْجِهم ، وسلكَ سبيلَ هديِهم إلى يومِ الدينِ .

اللهمَّ أيدْ الإسلامَ والمسلمينَ ، وانصر وأعل يا مولانا كلمة الحق والدين ( دعاء الاستسقاء )
اللهمَّ منزلَ البركاتِ منْ أماكنِها ، وناشرَ الرحمةِ منْ معادنِها بالغيثِ المستغيثِ ، أنتَ المستغفَرُ منْ الإلمامِ ، فنستغفرُك للجماتِ منْ ذنوبِنا ، ونتوبُ إليكَ منْ عظيمِ خطايانا ، اللهمَّ أرسلْ السماءَ علينا مدراراً ، واكفنا معزوزاً منْ تحتِ عرشِك منْ حيثُ ينفعنا غيثاً دارعاً رائعاً ، ممرعاًَ طبقاً ، عاماً خصباً ، تسرعُ لنا بهِ النباتَ ، وتكثرُ لنا بهِ البركاتِ ، وتقبلُ بهِ الخيراتِ .

اللهمَّ اسقنا غيثاً مغيثاً ، مريئاً مريعاً واسعاً ، عاجلاً غيرَ آجلٍ ، نافعاً غيرَ ضارٍّ ، اللهمَّ سقيا رحمةٍ ، لا سقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ ولا محقٍ ، اللهمَّ اسقنا الغيثَ ولا تجعلنا منْ القانطينَ ، اللهمَّ اجعل ْهذا البلدَ آمناً الخ


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين