المجاهدون بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله تعالى

ياسر محمد حجازي
قال الله تعالى:
- ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) ) سورة التوبة
 
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال:
كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل:
ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج.
وقال آخر : ما أبالى أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام.
وقال آخر: الجهاد فى سبيل الله أفضل مما قلتم.
 
فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة , ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20))[1].
 
فالآيات الكريمة والأحاديث "والآثار المروية في أسبـاب نزولها تدل جميعاً على أمر واحد: هو أن هذه الأعمال – سقاية الحاج وعمارة المسجد - مع جلالة قدرها وعظيم أثرها ، واتصالها بالبيت العتيق والمسجد الحرام لا تساوى ولا تصل إلى فضل الإيمان بالله والجهاد فى سبيله[2]، فإن صدرت عن المشركين فلا قيمة لها بغير الإيمان ، وإن قام بها المؤمنون فلا غناءً لهم بها عن صدق الإيمان ، وتدعيم هذا الصدق بالجهاد فى سبيل الله بالنفس والمال، ومن حكم بغير هذا فقد ظلم الحق ، وظلم نفسه بهذا الظلم ، والله لا يهدى القوم الظالمين... ومن ذلك تعلم أن أفضل عمل العبد:
الإيمان بالله والجهاد فى سبيله"[3].
 
فالآيات الكريمة تبين لنا أنّ من كان موصوفاً بصفات أربعة كان أعظم درجة عند الله تعالى ممن اتصف بأي خير آخر .
 
وتلك الصفات الأربعة هي:
أولها: الإيمان
وثانيها: الهجرة
 
وثالثها: الجهاد في سبيل الله بالمال
 
 
ورابعها: الجهاد في سبيل الله بالنفس
 
 
فالموصوفون بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة , ولا شك أن النفس والمال محبوبا الإنسان ، والإنسان لا يُعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول، فلولا أنّ طلب الرضوان أتمّ عندهم من النفس والمال ، لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال , ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى , فثبت أنّ عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات الملائكة ، والله تعالى لما ترك ذكر المرجوح ، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق ، لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للإنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات
 
والله تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس أعظم درجة عنده تعالى وأنهم هم الفائزون وهذا للحصر، والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى : (عِندَ رَبّهِمْ ) وهي درجة العندية
 
 
ثم قال تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورضوان وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خالدين فِيهَا أَبَداً إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
 
فهذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف ، نازلاً إلى الأدون فالأدون
 
فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها:
كون تلك البشارة حاصلة لهم من ربهم بالرحمة والرضوان ، وهذا هو غاية التعظيم والإجلال من قبل الله تعالى .
 
ومن لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال : ( يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم ) وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة:
 
أولها : أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان .
والثاني : أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله ، فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين ، وجب أن تكون البشارة بخيرات تعجز العقول عن وصفها وتتقاصر الأفهام عن نعتها .
والثالث : أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب وهو مشتق من التربية , كأنه قال: الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة في الآخرة
والرابع : أنه تعالى قال : ( رَّبُّهُمْ ) فأضاف نفسه إليهم ، وما أضافهم إلى نفسه .
والخامس : أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسهفقال: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم)
والسادس : أن البشارة هي الإخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع، أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة.
 
فقوله : (يُبَشِّرُهُمْ( لا بد أن يكون إخباراً عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك ، وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن، والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها ألبتة . رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه.
 
وإسناد التبشير إلى اسم الجلالة بصيغة المضارع "المفيد للتجدد ، مؤذن بتعاقب الخيرات عليهم ، وتجدد إدخال السـرور بذلك لهم ، لأن تجدد التبشير يؤذن بأن المبشر به شيء لم يكن معلوما للمبشَر
وكون المسند إليه لفظ الرب ، دون غيره مما يدل على الخالق سبحانه، إيماء إلى الرحمة بهم والعناية : لأن معنى الربوبية يرجع إلى تدبير المربوب والرفق به واللطف به ، ولتحصل به الإضافة إلى ضميرهم إضافة تشريف.
 
والرُِضوان: الرضا الكامل الشديد، لأن هذه الصيغة تشعر بالمبالغة مثل الغفران والشكران والعصيان"[5].
فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله تعالى , الله تعالى بذاته يبشرهم {بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورضوان وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ }
 
ويلاحظ تنكير الكلمتين {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ} وذلك للتفخيم والتعظيم، أي برحمة ورضوان لا يوصفان.
ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النعيم بقوله صلى الله عليه وسلم :
(من يدخل الجنة يَنْعَمُ لاَ يَبْأَسُ لاَ تَبْلَى ثيابُه ولا يَفْنَى شبَابُه)[6].
و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة ؟
فيقولون: لبيك ربنا وسعديك
فيقول: هل رضيتم ؟
 
فيقولون: وما لنا لا نرضى , وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك
 
قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟
فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً )
 
وأفعل التفضيل في قوله : { أعظم درجة عند الله } ليس على وجهه، فهو لا يعني أن للآخرين درجة أقل ، إنما هو التفضيل المطلق .
 
وتلك الدرجة هي عناية الله تعالى بهم بإدخال المسرة عليهم، وتحقيق فوزهم، وتعريفهم برضوانه عليهم ، ورحمته بهم ، وبما أعدّ لهم من النعيم الدائم, ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة، الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها.
 
والآيات تشير إلى  قاعدة في فقه الأولويات وترجيح الأعمال وهي :
على قدر نفع العمل للآخرين يكون فضله وأجره عند الله تعالى, ولهذا كان جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج ، لأنّ نفع الحج لصاحبه، ونفع الجهاد للأمة
والجهاد في سبيل الله أفضل عند الله تعالى وأعظم أجراً من الانقطاع للعبادة، مرات ومرات[9].
 
قال أبو هريرة رضي الله عنه  مرّ رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينة - عين صغيرة- من ماء عذبة ، فأعجبته ، فقال : لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ؟ - أي للعبادة - ولن أفعل حتى استأذن رسول صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
(لا تفعل فإنّ مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً ألا تحبون أن يغفر الله لكم ، ويدخلكم الجنة ، اغزوا في سبيل الله ، من قاتل في سبيل الله فُوَاق ناقةٍوجبت له الجنة )[10].
وفي هذه الآيات يشهد الله تعالى "لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم  الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بالفوز وعظيم الدرجات، ويبشرهم برحمة منه ورضوان وبالنعيم المقيم في جنات النعيم
 
أفتكون هذه الشهادات وتلك البشارات لقوم علم الله أنهم سيرتدون من بعد عن دينهم ويموتون وهم كفار ؟؟!!
 
وهل يكون لنسبة الأصحاب إلى الكفر بعد ذلك من تفسير إلا التكذيب بهذه الآيات ؟؟!! أو تجهيل لله عز وجل حيث قد وعد بالجنة قوماً لم يدر بم يختم لهم ؟؟!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا"[11].
اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك وجميع خلقك أنا نحب ونتولى صحابة نبيك صلى الله عليه وسلم جميعاً , لأن حبهم دين وإيمان وبغضهم كفر وضلال وطغيان
 

[1] صحيح مسلم – كتاب الإمارة - باب فضل الشهادة فى سبيل الله تعالى
[2] - يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : "جنس الجهاد أفضل باتفاق المسلمين من جنس الحج" الفتاوى الكبرى 2/ 445
[3] - نظرات في كتاب الله للإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله ص 259
[4] - بتصرف يسير من تفسير الفخر الرازي 7 / 481
[5] - التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور10/ 149
[6]- صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - باب في دوام نعيم أهل الجنة ...).
[7] - متفق عليه: البخاري - كتاب الرقاق - باب صفة الجنة والنار
ومسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها - باب إحلال الرضوان على أهل الجنة
[8] - التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور10/ 149
[9] - انظر فقه الأولويات ص63 للعلامة الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله وأمتع به
[10] - قال في الترغيب والترهيب (2/ 184): "رواه الترمذي وقال حديث حسن والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم , ورواه أحمد من حديث أبي أمامة أطول منه إلا أنه قال: (ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة)
وفواق الناقة هو ما بين رفع يدك عن ضرعها وقت الحلب ووضعها" 
[11] - منزلة الصحابة في القرآن لصلاح الصاوي (ص 14)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين