المبايعة على الجهاد

 


إعداد ياسر محمد حجازي
 
      لقد اقترن جهاد المال بجهاد النفس في القرآن في عَشَرة مواضع ، تقدَّم فيها جهاد المال على الجهاد بالنفس في تسعة مواضع ، وهي التي كان المصطلح المستخدم فيها (الجهاد)
وتقدَّمت النفس على المال عندما استخدم القرآن مصطلح (القتال) بدل (الجهاد) وهذا بدهي وطبعي لأنّ الجهاد عندما يكون قتالاً فالنفس هي الفاعل الأكبر فيه فلها الصدارة والتقديم والله أعلم
والآية هي قوله تعالى:
) إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  ( التوبة : 111
هذه الآية أول ما نزل في القتال[1] نزلت في مكة في بيعة العقبة الثانية، وهى بيعة العقبة الكبرى , التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو t ، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله r عند العقبة فقال عبد الله بن رواحة للـنبي r : اشـترط لربك ولنفسك ما شئت.
فقال النبي r : (أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي
أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم).
قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟
قال r : (الجنة)
قالوا: ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت الآية [2] فدخل على رسول الله رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله نزلت هذه الآية {إن الله اشترى من المؤمنين ...}؟
فقال r: نعم
 فقال الأنصاري : بيع رابح لا نقيل ولا نستقيل [3]

 

 

ومرَّ أعرابي على رسول الله r وهو يقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ}
فقال: كلام مَن هذا ؟!
قال r : كلام الله
قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد[4].
وفهم الصحابة رضوان الله عليهم وكذلك التابعون أنّ هذه البيعة في عنق كل مسلم إلى يوم القيامة[5]، لأنه لمّا حمل هشام بن عامرt[6] بين الصفين أنكر عليه بعضُ الناس، فردّ عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما، وتلوا: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } 7]

 

وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى :
اسمعوا والله بيعةٌ رابحة وكفةٌ راجحة ، بايعَ اللهُ بها كلَّ مؤمن ، والله ما على الأرض مؤمنٌ إلا وقد دخل في هذه البيعة [8] 

 

{إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم}
أصل الشراء بين الخلق "أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم أو مثل ما خرج عنهم في النفع ، فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته ، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك.
وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ولا يقاس به ، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء , فمن العبد تسليم النفس والمال ، ومن الله الثواب والنوال فسمي هذا شراء" [9]

 

وفي هذا الصدد "قال أهل المعاني : لا يجوز أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة لأنّ المشتري إنما يشتري ما لا يملك ، ولهذا قال الحسن : اشترى أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها ، لكن هذا ذكره تعالى لحسن التلطف في الدعاء إلى الطاعة ، وحقيقة هذا أن المؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتل فتذهب روحه ، وينفق ماله في سبيل الله ، أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل فجعل هذا استبدالاً وشراء , والمشتري لا بد له من بائع ، وههنا البائع هو الله والمشتري هو الله ، وهذا إنما يصح في حق القيّم بأمر الطفل[10] الذي لا يمكنه رعاية المصالح في البيع والشراء، وصحة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة العظيمة ، فهذا المثل جار مجرى التنبيه على كون العبد شبيهاً بالطفل الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه ، وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه بشرط الغبطة التامة، والمقصود منه التنبيه على السهولة والمسامحة ، والعفو عن الذنوب ، والإيصال إلى درجات الخيرات ومراتب السعادات"[11] .
قال العلامة أبو السعود رحمه الله تعالى[12] :
"إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ترغيب المؤمنين في الجهاد ببيان فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه , ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه , حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية , ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم , والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة , ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال إنّ الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة , وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها إيذاناً بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم" [13]

 

فلا ترى ترغيباً في الجهاد "أحسن ولا أبلغ مما في هذه الآية لأنّه أبرز في صورة عقد عاقده رب العزة جل جلاله , وثمنه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر , ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بل كونهم قاتلين أيضاً , لإعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه سبحانه, وجعله مسجلاً في الكتب السماوية وناهيك به من صك , وجعل وعده حقاً ولا أحد أوفى من واعده فنسيئته أقوى من نقد غيره , وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية" 14]

 

وقال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى:
"يخبر الله تعالى أنّه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة ، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنّه قبل العوض عمّا يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له , ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم"[15].
ويقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
" أقام الله تعالى سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنفس واحد من أنفاسها.... ومن أراد أن يعرف قدرها – الصفقة - فلينظر إلى المشتري من هو , والى الثمن المبذول في هذه السلعة, وإلى من جرى على يديه هذا العقد , فأي فوز أعظم من هذا وأي تجارة أربح منه ثمّ أكد سبحانه معهم هذا الأمر" [16]

 

وعلق الشهيد السعيد سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية فقال:
"إنّه نص رهيب! إنّه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله؛ وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة , فمن بايع هذه البيعة ووفَّى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان, وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!
حقيقة هذه البيعة أو هذه المبايعة كما سماها الله كرماً منه وفضلاً وسماحة  أن الله - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم ؛ فلم يَعُد لهم منها شيء , لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله, لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا . . كلا . . إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشـاء ، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم ، لا يتلفت ولا يتخير ، ولا يناقش ولا يجادل ، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام والثمن : هو الجنة . . والطريق : هو الجهاد والقتل والقتال . والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد :
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } . .
من بايع على هذا , من أمضى عقد الصفقة , من ارتضى الثمن ووفّى, فهو المؤمن . . فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا . . ومن رحمة الله أن جعل للصفقة ثمناً ، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال ، وهو مالك الأنفس والأموال . ولكنّه كرّم هذا الإنسان فجعله مريداً ؛ وكرّمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها - حتى مع الله - وكرّمه فقيده بعقوده وعهوده ؛ وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة ؛ ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة . . شر البهيمة . . { {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)} [الأنفال]  كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء .
وإنها لبيعة رهيبة - بلا شك - ولكنها في عنق كل مؤمن قادر عليها لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه . ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات :
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } . .
عونك اللهم! فإنّ العقد رهيب . . . وهـؤلاء الذين يزعمون أنفـسهم
« مسلمين » في مشارق الأرض ومغاربها ، قاعدون ، لا يجاهدون لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد . ولا يَقتُلون . ولا يُقتَلون . ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال!
ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين على عهد رسول الله r فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ؛ ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم , كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها , لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة . . هكذا أدركها عبد الله بن رواحة t في بيعة العقبة الثانية , قال محمد بن كعب القرظي وغيره :
قال عبد الله بن رواحة t لرسول الله r ( يعني ليلة العقبة ) :
اشترط لربك ولنفسك ما شئت .
فقال r : « أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم »
قال : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟
قال : « الجنة »
قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل .
هكذا . . « ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل » . . لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين ؛ انتهى أمرها ، وأمضي عقدها ، ولم يعد إلى مرد من سبيل : « لا نقيل ولا نستقيل » فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ؛ والجنة : ثمن مقبوض لا موعود ! أليس الوعد من الله ؟ أليس الله هو المشتري ؟ أليس هو الذي وعد الثمن وعداً قديماً في كل كتبه :
{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } . .
{ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} .
أجل! ومن أوفى بعهده من الله تعالى ؟
إنّ الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن . . كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين الله . . إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ } { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} إنّ الحق لا بد أن ينطلق في طريقه , ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق ! . . بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق . . إنّ دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده . ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق . . بل لا بد أن يقطع عليه الطريق . . ولا بد لدين الله أن ينطلق في « الأرض » كلها لتحرير «الإنسان» كله . ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً ! . . وما دام في « الأرض » كفر . وما دام في « الأرض» باطل . وما دامت في « الأرض » عبودية لغير الله تذل كرامة «الإنسان» فالجهاد في سبيل الله ماض ، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء . وإلا فليس بالإيمان : و « من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو ، مات على شعبة من النفاق »"[17]
فما أجمل هذه الصورة البديعة "والتمثيل الرائع ، صورة العقد الذي عقده رب العزة جل جلاله بنفسه ، وجعل ثمنه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وسجل كلماته بحروف من نور في الكتب السماوية الثلاثة ، وما أشرفه من صك وتوثيق ، ووعد ألزم الله به نفسه وجعله حقا عليه مبالغة في الفضل منه والكرم وإيناسا لعباده ولطفا بهم، ولا أحد أوفى من صاحب هذا الوعد ، فوعد الرب الغائب أقوى من بضاعة كل عبيده الحاضرة.
لكن .. ماذا تساوي نفوسنا المعيبة - وإن طهرت- حتى يشتريها الله منا بكل هذا الثمن ، لذا قال الحسن البصري وقتادة: « بايعهم والله فأغلى ثمنهم» [18]

 

وفي الآية صورة حسية ترسم " هنا كل أطراف البيع والشراء ، والبائع والمشتري ، والثمن ، فالبائع هو المؤمن ، والمشتري هو الله ، والثمن الجنة ... ومن رحمة الله أن جعل الله الإنسان مالكا لنفسه وماله ، يتصرف فيهما بحرية واختيار وإرادة ، ليقبض الثمن وهو الجنة ، وإن كان الله هو المالك الحقيقي للأنفس والأموال ، ولكنّ القرآن الكريم يصوّر الإنسان مالكاً وبائعاً وقابضاً للثمن، لتكون الصورة ملائمةً للواقع المنظور في الحياة بدلا من تصوير الغيب المستور.
وتزيد الصورة في «التخييل الحسي» في قوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ } لتوحي بربح هذه البيعة إن تمّت الصفقة ، وسُلِّمت الأنفس والأموال لله ، وهي بيعة رابحة لا شك ، لأنّ الثمن غال وهو الخلود في الجنة ، بينما الأنفس والأموال إلى فناء ، فالبيع في هذه الصفقة ، هو بيع ما يفنى بما يبقى ، وهذا هو الربح الحقيقي الذي توحي به الصورة الحسية، لتحقيق الغرض الديني من التصوير"[19].
فما سر تقديم النفس على المال في هذه الآية { أَنفُسَهُمْ وأموالهم} ؟
نعتقد أن تقديم الأنفس على الأموال في هذه الآية هو المنطقي والطبعي المنسجم مع الآية وألفاظها وسياقها, وذلك لأنّ الآية لا تتحدث عن الجهاد في سبيل الله تعالى وإنما تتحدث عن القتال الذي هو أحد أنواع الجهاد , وبما أنّ الحديث عن القتال كان حق النفس أن تتقدم على المال لأنها عمود وأساس وذروة سنام القتال في سبيل الله تعالى
ومع ذلك سنتلمس أسرار هذا التقديم من خلال أقوال المفسرين 
فلعل سر تقديم النفس على المال أن المشتري هو الله سبحانه ونفوس المؤمنين عنده أغلى من أموالهم
يقول الإمام الرازي رحمه الله تعالى :
"النفس أشرف من المال ، فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد ، والبائع أخر ذكرها تنبيهاً على أن المضايقة فيها أشد ، فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب"[20] .
وقال الإمام أبو حيان رحمه الله تعالى :
"وقدم الأنفس على الأموال ابتداءً بالأشرف وبما لا عوض له إذا فقد ...
وفي لفظة [اشترى] لطيفة وهي : رغبة المشتري فيما اشتراه واغتباطه به, ولم يأت التركيب : إن المؤمنين باعوا.." 21]

 

وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" الآية في معرض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة، فقدم النفس ؛ لأنها أعزّ ما يملك الحي ، وجعل في مقابلها الجنة وهي أعزّ ما يُوهب" [22]

 

وأنشد الأصمعي للإمام جعفر الصادق رحمه الله تعالى قوله:
أُثَاِمنُ بالنفس   النفيسةِ   ربَّها       وليس لها في الخَلق كلهم  ثمن
بها تُشْتَرَى الجنَّاتُ إنْ أنَا بعتُها        بشيءٍ سواها   إنَّ ذلكم   غبن
لئنْ ذهبتْ نفسي بدُنْيَا أصبتُها      لقدْ ذهبتْ نفسي وقد ذهبَ الثمن [23]

 

أما الأستاذ عبد الكريم الخطيب[24] فقد قال:
 
" إنّ بعض السر في هذا هو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يطلب الأنفس والأموال في هذا المقام , على حين أنه في جميع المواضع التي ذكرت فيها الأنفس والأموال في القرآن الكريم كانت مبذولة من المسلمين , أو مطلوباً منهم بذلها, ولاختلاف المقام اختلف النظم , ففي شراء الله سبحانه وتعالى ما يشتري من المؤمنين يقدم الأنفس على الأموال لأنها عند الله أكرم وأعز من المال , على حين أن المال عند الناس أعز من الأنفس , إذ يتقاتلون من أجله , مخاطرين بأنفسهم, ويقتلون أنفسهم في سبيله , وفي اختلاف النظم هنا إلفات للناس إلى ما ذهلوا عنه من أمر أنفسهم إذ استرخصوها إلى جانب المال على حين أنها شيء كريم عزيز عند الله تعالى"[25]
ويقول الدكتور فاضل صالح السامرائي:
"نلحظ في الآيات القرآنية خطاً عاماً يوضح لنا سبب التقديم والتأخير في الآيات التي تتحدث عن الجهاد
إذا كان السياق في جمع الأموال وحب المال قدم ذكرَ التضحية به، وإذا كان السياق في القتال وليس في الأموال أو القعود عن الجهاد أخّر الأموال فهذا من باب التناسب بين الكلام ومناسبة المقال للمقام" [26]

 

 
ونختم الحديث على آية المبايعة والشراء بين الله وعبده بتعليق الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى على هذه الآية:
"يوم أراد الله تبارك وتعالى أن يُسعد الإنسانية ، وأن يَعم العالم برحمته، ويقدم للناس كافةً أجمع نظامٍ كاملٍ يضمن لهم سعادة الدارين بعث إليهم رسوله r ، وأنزل عليه كتابه ومنحه أستاذية الدنيا جميعا، وجعل كل مسلم معه أو بعده r حارساً على هذا الكنز، ووارثا لهذه الأستاذية الكبرى، وقائما بحق هذه المهمة العظيمة.
فليس عجيبا بعد ذلك أن يعقد الحقّ تبارك وتعالى بينه وبين هؤلاء الحرّاس من المؤمنين ذلك العقد المحكم.
فيكون هو المشتري وهم البائعين.
والسلعة : هي النفس والدم والروح.
والجزاء : الجنة.
وكيفية التسليم : جهاد فى سبيل الحق ، وفناء في أداء هذه الحراسة القدسية للكنز الثمين ، وهل تؤدى مهمة المؤمن الحق بأقل من هذا الثمن ، كتب هذا العقد المحكم على صفحات التوراة والإنجيل والقرآن ، وشهد عليه عيسى وموسى ومحمد وجبريل عليهم السلام ، وليس أحد أوفى بعهده من الله.
فما أربحها من تجارة ، وما أجزله من ثواب ، وما أقدسها من بشرى، {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
قالوا: إنّ هذه الآية حين نزلت فرح بها عامة الصحابة فرحاً شديداً، ووجد خاصّتهم فى أنفسهم شيئاً إذ قالوا:
أيشترى الله منّا ما هو ملك له ؟! وكيف يشترى المالك ملكه ؟!
أو قد غلب علينا العقوق حتى لا نسلّم لله وديعته إلا بثمن ؟! فما أعلى هذا المشهد وما أسمى هذا المقام...
أيها المسلمون اليوم:
إن نفوسكم ليست ملكاً لكم ومع هذا فقد اشتراها الله منكم.
وإن مهمتكم وإيمانكم وعزتكم لا تكمل بغير إنفاذ هذا البيع وتسليم الأمانة مهما حاولتم , وإنّ الأمانة ستسلم طوعاً أو كرهاً {أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}النساء: 78.
ولن يمنعها القعود من القتل إنْ كُتب عليها ، ولن يَحْدُوها الإقدام إليه إن منحها الله إيّاه ، ففيم القعود إذن ؟" [27]  
 
[1] - الإتقان في علوم القرآن (1/ 79) للسيوطي والبرهان في علوم القرآن (1/ 208) للزركشي وعزوه للحاكم في الإكليل
 
[2] - تفسير الطبري 14/499 وتفسير القرطبي 8/267
[3] - الدر المنثور 4/ 295
[4] - تفسير القرطبي 8 / 268
[5] - في تفسير الطبري (14/ 499) عن شمر بن عطية قال: " ما من مسلم إلا ولله في عنقه بَيْعة ، وَفّى بها أو مات عليها" وفي الدر المنثور (4/ 295) قال عياش: حدثني إسحق أن المسلمين كلهم قد دخلوا في هذه الآية من كان منهم إذا احتيج إليه نفع وأغار , ومن كان منهم لا يغير إذا احتيج إليه فقد خرج من هذه البيعة "
[6] - هشام بن عامر بن أمية الأنصاري t روى عن النبي r وحديثه عند مسلم , وروى عنه سعيد بن جبير وحميد بن هلال وآخرون , وأخرج بن المبارك في الزهد من طريق جعفر بن زيد قال: خرجنا في غزوة الى كابل وفي الجيش صلة بن أشيم فذكر قصة فيها فحمل هو وهشام بن عامر فصنعا بهم طعنا وضربا وقتلا قال فقال: العدو رجلان من العرب صنعا بنا هذا فكيف لو قاتلونا , فانهزموا, قال فقيل لأبي هريرةt : إن هشام بن عامر ألقى بيده الى التهلكة فقال أبو هريرة لا ولكنه التمس هذه الآية {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} ويقال: كان اسمه شهابا فسماه رسول الله r هشاما وكان نزل البصرة وعاش الى زمن زياد". الإصابة في تمييز الصحابة (6/ 543)
[7] - تفسير ابن كثير 1/ 565
[8] - تفسير الرازي (8/ 155)
[9] - تفسير القرطبي (8/ 267)
[10] - قّيِّمُ الطفل ووليه والوصي عليه لا يجوز له أن يبيع أو يشتري لنفسه من مال الطفل إلا إذا كانت مصلحة الطفل واضحة ظاهرة
"قال العلماء: كما اشترى الله تعالى من المؤمنين البالغين المكلفين ، كذلك اشترى من الأطفال ، فآلمهم وأسقمهم ، لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين ، لأنّ هؤلاء يكونون أكثر صلاحاً وأقـل فساداً عند ألم الأطفال، ثم يعوض اللّه عز وجل هؤلاء الأطفال عوضا حسنا". التفسير المنير للزحيلي (11/55)
[11] - تفسير الرازي 8/ 155
[12] - محمد بن محمد بن مصطفى العمادي (898 - 982 هـ ) المولى أبو السعود: مفسر شاعر, ولد بقرب القسطنطينية، ودرس ودرّس في بلاد متعددة، وتقلد القضاء في بروسة فالقسطنطينية فالروم ايلي , وأضيف إليه الافتاء سنة 952 هـ وكان حاضر الذهن سريع البديهة , وهو صاحب التفسير المعروف باسمه وقد سماه (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) وشعره جيد , وكان مهيبا حظيا عند السلطان، وهو مدفون في جوار مرقد أبى أيوب الانصاري t. الأعلام للزركلي 7 / 59
[13] - تفسير أبي السعود 4/ 104
[14] - روح المعاني للألوسي 11 / 26
[15] - تفسير ابن كثير (4/ 218)
[16] - الجواب الكافي (ص65) لابن قيم الجوزية
[17] - في ظلال القرآن 4/84 , والحديث (من مات ولم يغز ... ) أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي.
[18] - الموقع الشخصي للدكتور خالد أبو شادي على الانترنت مقالة الحياة صفقة
[19] - وظيفة الصورة الفنية في القرآن (ص112) عبد السلام أحمد الراغب
[20] - تفسير الرازي 5/349
[21] - البحر المحيط 2/105
[22] - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/ 113)