المؤمن بين الخوف والرجاء

الإنسان المسلم الواعي الفاهم لدينه، يعيش حياة الوسطية والتوازن والاعتدال في كل أموره حتى في سلوكه وعبادته وصلته بربه عز وجل، يمتلئ قلبه حبا لخالقه ورغبة فيما عنده وخوفا من غضبه وأليم عقابه، وتسلك نفسه طريقاً معتدلاً بين الخوف والرجاء، فلا يظل في خوف دائم فتبقى حياته قلقة ونفسه بائسة يائسة، ولا في رجاء أبدا فيكون منه التفريط، ولكنه بين الخوف والرجاء، بين الرغبة والرهبة وهذا في الحقيقة منهج الأنبياء جميعاً، قال الله عز وجل :(وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين)

يدعون ربهم رغبا ورهبا بين الخوف والرجاء، وهكذا تمضي وتسير حياة المسلم وليس على عينه عصابة وليس في قلبه غشاوة، إنه يمضي ويسير بهذه النفس التي تتجه لربها عزوجل الذى قال :(نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) فكما أن هناك عذابا، هناك أيضا رحمة، ولذا لا بد أن يكون الإنسان راهبا أي خائفا من العذاب راغبا أي راجيا ومؤملا في رحمة الله العزيز الوهاب.

والخوف من الله تعالى ومن عقابه والطمع في رحمته ورجاء ثوابه نوع من أنواع العبادة لأنها من الأخلاق الربانية، ذكر ذلك وبينه شيخنا القرضاوي حفظه الله في كتابه (العبادة في الإسلام).

والمسلم كما ذكرنا يجمع بين الأمرين، فلا يغلب جانب الخوف مثل الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي، ويقولون بخلود صاحبها في النار، ولا يغلب جانب الرجاء فيكون مثل المرجئة، الذين يزهدون في الأعمال ولا يقيمون لها وزنا، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية وكلاهما خرج عن جادة الصواب والحق وعن عقيدة أهل السنة والجماعة. 

الاعتماد على الخوف وحده قنوط من رحمة الله (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) (إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون).

و الاعتماد على الرجاء وحده أمن من مكر الله (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) والسنة الشريفة وضحت لنا أيضا أن المزج بين الأمرين هو سبيل النجاة ففي حديث أنس الذى رواه الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي، فقال صلى الله عليه وسلم :" لا يجتمعان في قلب عبد في  مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف" .

 وقد وصف الله المؤمنين بعمل الصالحات مع خوفهم من ربهم، فقال عزوجل :(أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) وقال أيضاً: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).

تقول عائشة رضي الله عنها: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال:(لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم) .

وقال الحسن البصري :(المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف والفاجر المنافق يعمل بالمعاصي وهو آمن).

وذكر الإمام السبكي في طبقات الشافعية الكبرى :أن الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم مأمونوا العواقب ومع ذلك هم أشد الناس  خوفا من ربهم ،والإمام البخاري رحمه الله تعالى بوب في صحيحه  (باب الرجاء مع الخوف )وقال ابن حجر في الفتح :أي استحباب ذلك فلا يقطع النظر في الرجاء عن الخوف ،ولا الخوف عن الرجاء ، لئلا يفضى إلى المكر  في الأول ،وفي الثاني إلى القنوط ، وكل منهما مذموم  والمقصود بالرجاء إن وقع منه تقصير أو ذنب فليحسن ظنه بالله ويرجو أن يمحو الله ذنبه، وكذا من فعل طاعة يرجو قبولها وأما من انهمك في المعصية راجيا عدم المؤاخذة بغير ندم ولا إقلاع، فهذا في غفلة وغرور وصدق القائل :من علامة السعادة أن تطيع وتخاف ألا تقبل، ومن علامة الشقاء أن تعصى وترجو أن تنجو ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول :لو أعلم أن الله تقبل منى سجدة لكان فرحي  بالموت أشد من فرح  الأهل بقدوم الغائب،  ذلك لقوله تعالى :(إنما يتقبل الله من المتقين) ومن تأمل أحوال الصحابة الكرام رضي الله عنهم ومن سار على نهجهم واتبع هديهم يجدهم في غاية العمل و الإجتهاد وحسن الظن بالله تعالى مع غاية الخوف منه عز وجل ونحن للأسف الشديد جمعنا بين التقصير والأمن، ولو لم يتغمدنا الله عز وجل برحمته لهلكنا، فهذا الصديق رضي الله عنه يقول يوما :(لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن )ولما قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى :(إن عذاب ربك لواقع )بكى واشتد نحيبه حتى مرض وعادوه،  وقال لابنه وهو يموت بعدما طعنه المجرم الأثيم أبو لؤلؤة المجوسي :(ويحك ضع خدي على الأرض عساه يرحمني عز وجل )، ثم قال:(ويلي وويل أمي إن لم يغفر لي  ربي) قالها ثلاثا ثم قضى وكان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء ،وقال له ابن عباس :إن الله مصر بك الأمصار، وفتح بك الفتوح وفعل بك كذا وكذا فقال رضي الله عنه :(وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر)وكان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته ويقول :(لو أنني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما أصير لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير)و أمسك رضي الله عنه  أذن غلامه يوما لتأديبه، فندم  وطلب من الغلام أن يقتص منه فأبى فأصر عثمان، فأمسك الغلام بأذن عثمان برفق فقال له:( أشدد يا غلام فقصاص الدنيا أرحم من قصاص الآخرة).

 وسلم علي رضي الله عنه من صلاة الفجر يوماً وقد علاه كآبة وهو يقلب يده ويقول:(لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا سجداً وقياماً يتلون كتاب الله تعالى يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله وتمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم، والله فكأني بالقوم باتوا غافلين) فما رؤي بعد ذلك ضاحكاً حتى ضربه ابن ملجم الخارجي. 

فهؤلاء الأفاضل الأكارم كل منهم بشر بالجنة، وبالرغم من ذلك هكذا كان خوفهم من عذاب الله عز وجل والخوف والرجاء للمؤمن كالجناحين يطير بهما في سماء التعبد، ولابد من تحقيق التكافؤ والتوازن بينهما حتى تستقيم حياته في الدنيا ويفوز بالنعيم في الآخرة 

وحد الاعتدال كما قال أهل العلم أن تغلب كل جانب عند الحاجة إليه، فالمرء عند كثرة العصيان مع شدة الخوف  يحتاج إلى تغليب الرجاء على الخوف أما العصيان مع الأمن فصاحبه بحاجة إلى تغليب الخوف على جانب الرجاء،  وقال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: السلف استحبوا أن يقوي في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء وعند الخروج من الدنيا يقوي  جناح الرجاء على جناح الخوف، وقال: هذه طريقة أبي سليمان وغيره وقال أيضا :ينبغي للقلب أن يغلب عليه الخوف فإذا غلب الرجاء فسد وقال أيضا رحمه الله : القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر المحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر،  وقال غيره: اعتدال الرجاء والخوف وغلبة المحبة فالمحبة هى المركب ،والرجاء حاد والخوف سائق ،والله الموصل بمنه وكرمه،  وقال العلامة القرضاوي حفظه الله  :(المفروض من  المسلم أن يتوازن الرجاء والخوف في قلبه أن يرجو رحمة الله وأن يخشى عذابه فالله  سبحانه وتعالى وصف نفسه بقول :نبئ عبادي  أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابي  هو العذاب الأليم وقال أيضا: (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ووصف الآخرة فقال :(وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان) ففيها العذاب وفيها المغفرة والرضوان فلابد أن يسير الخطان متعادلين متوازنيين الحذر والرجاء، الرغب والرهب، الخوف والطمع ،وهذا هو المطلوب من المسلم. 

والنفس في الحقيقة لا تستقيم ولا تعتدل إلا بخوف ورجاء، برغبة ورهبة والمؤمن حين يسأل ربه الجنة يسعى لها سعيها اللائق بها، ويرجو رحمة ربه، أما إذا كانت الأسباب غير موجودة ويسأل الجنة فهو حمق وغرور) وكان بعض السلف يقول: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق وكان الحسن يقول: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل وإن قوماً غرتهم الأماني ذهبوا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.

وكان أيضاً يقول: ادعى قوم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية :(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم).

فالأماني شيء والرجاء شيء آخر (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله).

 ومن الآيات التي تطمع العبد في سعة رحمته تعالى :(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) وهي أرجى أية في كتاب الله تعالى،  وحديث أنس عند الترمذي ، قال صلى الله عليه وسلم :قال الله تعالى :(يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم إنك لو اتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)، والحديث الذى رواه البيهقي في شعب الإيمان، عن أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى :(وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين إذا أمنني في الدنيا ،أخفته يوم القيامة ،وإذا خافني في الدنيا ،أمنته يوم القيامة).

وقد أثنى الله على أهل الخشية، فقال سبحانه :(هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون) وقال كذلك: (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه)، وجعل سبحانه الخوف شرطا في الإيمان  (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) .

ولما قيل للشعبي: يا عالم قال :انما العالم من يخشى الله (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لما قيل: له قد دبّ الشيب في رأسك فقال:(شيبتني هود  وأخواتها )

فأنبياءالله دأبهم عبادة الله خوفا وطمعا، ولذا وجب الاقتداء بهم،  يقول أحد السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق،  ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، أي خارجي، ومن عبده بالرجاء وحده، فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهومؤمن 

موحد.

يقول ابن المبارك رحمه الله :جئت إلى سفيان 

الثوري عشية عرفة، وهو على ركبتيه وعيناه تهملان فقلت له :من أسوأ هذا الجمع حالا ؟فقال:(الذي يظن أن الله لايغفر له  ).

وقد أجمع أهل العلم على أن الرجاء  لايصح  إلا مع العمل، أما ترك العمل والتمادي في الذنوب اعتمادا على رحمة الله وحسن الظن به، فليس من الرجاء في شئ، بل هو سفه وجهل وغرور، فرحمة الله قريب من المحسنين ،لامن المفرطين المعاندين المصرين على المعاصي .

والمسلم الواعى ينبغي أن يكون طبيب  نفسه،  إذا رأى منها رجاء فقط وهو مقيم على المعاصي،  فليعدل عن هذا الطريق وليسلك طريق  الخوف ،وإن رأى منها وسوسة وخوفا بلا موجب فليغلب جانب الرجاء ،حتى يستوي خوفه ورجاؤه .

يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه  مسلم :(لو يعلم المؤمن ماعند الله  من العقوبة ، ما طمع في جنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ،ما قنط من جنته أحد).

وأختم بقول أبي حفص  النيسابوري :(الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل احد إذا خفته هربت منه، إلا الله عزوجل فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف من ربه هارب إليه،  فلا ملجأ منه إلا إليه عزوجل .

نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من الراجين  الخائفين .

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذبك من سخطك والنار واغفر لنا مامضى وأصلح لنا مابقي، وتوفنا وأنت راض عنا،  وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين