المؤمن القوي

 


 

بقلم: د.طه محمد فارس

لا شك أن الإيمان بالله هو أعظم نعمة وقيمة يحملها الإنسان، لكن إذا ما اقترن الإيمان بالقوة بكل معانيها، المادية والمعنوية([1])، أصبح صاحبها أعظمَ أثراً، وأمضى عزيمة، وأكثرَ نفعاً.

ونحن نجد صدق ذلك من خلال الواقع، بل إن النصوص الشرعية تؤكد هذا المعنى، فنقرأ قول الله تعالى وهو يأمر الحبيب الأعظم بأن يصبر صبراً يماثل صبر الأقوياء من الرسل عليهم السلام فيقول: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم)[الأحقاف: ٣٥]، كما نقرأ في كتاب الله نصيحة تلك المرأة الصالحة بنت شعيب لأبيها عندما رأت من سيدنا موسى عليه السلام القوة والأمانة بعد أن سقى لهما فقالت :  ( يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) [القصص: ٢٦].

ولذلك كان المؤمن القوي خيراً وأفضلَ وأحبَّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وجاءت النصوص النبوية لتؤكِّدَ هذا المعنى، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبّ إِلَى اللَّهِ مِن الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُل: لَو أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدر اللَّه وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»([2]).

وفي رواية: « المؤمن القوي خير وأفضلُ وأحبُّ إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجز، فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء صنع، وإياك واللو، فإن اللو يفتح من الشيطان»([3]).

وإن من مظاهر القوة عند المؤمن أن يخالط الناس وينصحَ لهم ويدعوَهم إلى الله، ويصبرَ على ما يناله من الأذى في سبيل دعوته، وهذا ما نصح به سيدنا لقمان عليه السلام ولده فقال له: ( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) [لقمان: ١٧]، وعَن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :« الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ»([4]).

ولا بد من التوضيح بأنه لا تعارض بين ما سبق من الأحاديث النبوية التي تؤكد فضلَ وخيرية القوة عند المؤمن، وبين الحديث النبوي الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم  في سياق الثناء والمدح: « هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم »([5])، فالقوة الممدوحة في الحديث الأول هي التي تكون في ذات الله وشدة العزيمة، والضعف الممدوح بالحديث الآخر هو لين الجانب ورقة القلب والانكسار بمشاهدة جلال الجبار([6]).

 



([1]) قال القاضي عياض في كتابه إكمال المعلم شرح صحيح مسلم (8 / 77): القوة هنا المحمودة يحتمل أنها في الطاعة، من شدة البدن وصلابة السر، فيكون أكثر عملاً، وأطول قيامًا، وأكثر صيامأَ وجهاداً وحجأَ، وقد تكون القوة هنا ..عزيمة النفس، فيكون أقدم على العدو فى الجهاد وأشد عزيمة فى تغيير المناكر والصبر على إيذاء العدو واحتمال المكروه والمشاق في ذات الله، أو تكون القوة بالمال والغنى فيكون أكثر نفقة في سبيل الخير، وأقل ميلاً إلى طلب الدنيا، والحرص على جمع شيء فيها، وكل هذه الوجوه ظاهرة في القوة.

([2]) أخرجه مسلم في القدر برقم 2664 واللفظ له؛ وابن ماجه في الزهد برقم 4168.

([3]) أخرجه أحمد في مسنده 2/366 وقال الشيخ الأرناؤوط عنه: إسناده حسن؛ وأخرجه النسائي في السنن الكبرى 6/159 برقم 10457؛ وابن حبان في صحيحه 13/28..

([4]) أخرجه أحمد في مسنده 2/43 بسند صحيح؛ والبخاري في الأدب المفرد ص140؛ والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع برقم 2507؛ وابن ماجه في الفتن برقم 4032 واللفظ له.

([5]) أخرجه البخاري في الجهاد والسير برقم 2739؛ والنسائي في الجهاد برقم 3178. ولفظه: عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ».

([6]) انظر: فيض القدير للمناوي 5/213.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين