اللحية المرخَّصة!

 

الله تعالى أنزل القرآن الكريم، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق بشيراً ونذيراً، واكتمل الإسلام، وصارت فرائضه وسننه وسائر أحكامه، معروفة معلومة، سطرها أعلام أهل العلم في مصنفات، سارت بذكرها الركبان، وتناقلها الثقات.

 

ودخل الناس في دين الله أفواجاً، بحرية ورغبة وإيمان خالص، دون إكراه، ولا إحراج؛ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256)؛ لأن الإكراه لا يولد سوى الأقنعة، وهذا ما يرفضه الإسلام، لذا أراد الإيمان الذي أورث القناعات، التي شكلت عقيدة المؤمن وبها صنع المجد الحضاري، بكل شعبه، زماناً ومكاناً ولساناً.

 

والأصل أن الالتزام بدين الله تعالى يكون من تلقاء النفس، برغبة جامحة، وحماسة إيمانية، واندفاع رباني، أساسه البحث عن رضوان الله تعالى، في السر والعلن، التزاماً بهذا الدين المبارك.

 

كما صار من ثوابت ديننا أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وبهذا تتكامل معادلة الالتزام التي لا يجوز التفريط فيها، فرداً وجماعة ودولة، ومن تجاوز حقيقتها صار ضائعاً (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124}) (طه).

 

فالمرء يطبق شرع الله دون إذن من أحد من الناس، بل ينبغي أن يعان من سعى إلى طاعة الله تعالى، وتنظيم الأمور وترتيبها، في مجال العمل المنظم، له ضوابطه وقواعده، التي لا تؤثر على هذه الحقيقة، بل تزيدها خيراً ونوراً ونجاحاً، ولكل عصر وسائله وأدواته، وتطوراته العلمية والمعرفية التي ينبغي أن نفيد منها، وهذا الأصل يدخل في إطار المصالح المرسلة، حيث يصنع الاستيعاب لكل نافع مفيد، من نواتج العلم والمعرفة، وأساليب الإدارة والعمل الحياتي.

 

ومن طريف ما سمعته من أحد الدعاة، من بلد عربي، وهو يحدثنا عن التضييق على الدعاة والناشطين في مجال العمل الإسلامي، وذكر مجموعة من صور التضييق، وجملة من أشكال المضايقات، وسمى مجموعة من القضايا المدهشات، فمرَ على اللحية، فقال: اللحية ممنوعة، إلاَ إذا كانت مرخصة، فاستغربنا ذلك! فالتفت فقال: نعم من لم يحصل على رخصة تربية اللحية، ثم أطلق لحيته، يصبح مخالفاً للقانون! ومن ثم يكون معرضاً للمساءلة والعقاب.

 

سبحان الله! إطلاق اللحية يحتاج إلى رخصة؟ والله هذا من العجائب المزريات، التي تؤشر على ما وصل إليه واقعنا المعاصر، وما حوى من مؤسفات، وما كان سبباً لكثير من الأمور التي للجبين منديات، فلا غرابة أن تسكب العبرات، على منصات الحسرة، في مربعات البحث عن الحرية، وارتباطها بإنسانية الإنسان، وتردد مقولة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!

 

من هنا ندرك سرَ الضياع الذي أصاب جزءاً من أمتنا، نتيجة لغياب الحرية، والتضييق على الناس، وتكميم الأفواه، ومصادرة إرادة المواطنين، والتدخل في خصوصياتهم، حتى لو كانت في هدي نبينا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فهذا التعليب لإرادة الناس، وتفاصيل حياتهم، وتنظيم شؤونهم، كان كارثة على المجتمعات، والشعوب التي عانت من هذا الإدخال في قمقم السلطة، وأجهزة المخابرات التي تحصي أنفاس الناس، وتعد عليهم كل حركة وسكنة، حتى بائع الفلافل يحتاج إلى ترخيص، والحلاق كذلك، وبائع الخضار، ويكون الترخيص من جهة أمنية، وهذا هو المدهش، فلو كان الترخيص من جهات اختصاصية من أجل التنظيم النافع، والتقنين الذي يمنع الفوضى والضرر لكان مقبولاً ومرحباً به، كمن يشترط عليه أن يحصل على ترخيص من وزارة الصحة، أو وزارة الشؤون الاجتماعية، أو غيرها من المؤسسات النافعة، التي تقدم الخير للناس بوعاء منظم.

 

والغريب أن هذا النمط من التفكير وهذا المنهج في العمل السياسي، يظن أصحابه أنهم بهذا يسيطرون على البلد، ويهيمنون على الناس، وتصبح البد بيدهم، يحركونها كيف يشاؤون، وهذا هو الطغيان، وشكل من أشكال الغباء المفرط، الذي يأتي على صاحبه وعلى من حوله، لذا كانت تلك المعاناة التي عاشها الناس، والضغط يولد الانفجار، فكان من نتائج الظهور ذلك المشهد الكبير الذي برز في لافتة ما عرف بـ"الربيع العربي.

 

 وما قضية اللحية وضرب المثل بها إلا صورة من صور المأساة، والتعبير بالجزء عن الكل، بلاغة في عالم إيصال الرسالة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين