الكلمة ومسؤولية المجتمع (2-2)

 

 

إن المجتمع الذي يعج بالشكوى في كل شأن من شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ينسى أن كل هذه الإشكالات والإخفاقات المتراكمة ترجع في زخمها الأكبر إلى مقولات خاطئة تشربها المجتمع نفسه في محاضنه التربوية الأولى، أو في محطات (صناعة الكلمة) من منابر الوعظ حتى الصحافة والفضائيات والمواقع الإلكترونية، فالسلوك الإنساني بالأساس نتاج لبنائه المعرفي، وحينما تتفاقم المشاكل السلوكية في دائرة الحكم أو في بيت الزوجية، بين الجماعات الدينية أو الأحزاب الدنيوية، فإن الحل لا يكون قبل التدقيق في البناء المعرفي لهذا المجتمع، كيف يفكر؟ وماذا يريد؟ وما أولوياته؟ لقد كان الطلاق نادرا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، مع تفشي الأمية والفقر وصعوبات الحياة، واليوم ينتشر الطلاق بطريقة مرعبة ومخيفة مع انتشار العلم والوعي والتطور الملحوظ في دخل الأسرة وإمكانياتها المعيشية، فما الذي تغير؟ إنها مقولات دخلت في ذهن الأبناء والبنات حطمت فيهم القدرة على الانسجام وأضعفت فيهم قيم المودة والوفاء والستر، وهذه المقولات حطت علينا من فوق عبر وسائل مختلفة، ولم تخضع للنقد والتمحيص، بل جرى تشربها دون ضوابط أو كوابح، وربما دون تفكير أيضا. عشنا زمانا لا نكاد نسمع بحادثة قتل واحدة، الناس يتفقون ويختلفون، يتخاصمون ويتصالحون، لكن الدم خط أحمر، كنا لا نسمع بالقتل إلا في الانقلابات العسكرية، أما اليوم فإن فوضى الدم نزلت إلى مستوى المجتمع البسيط لحسم أي نوع من أنواع الخلاف، وقد دخلت المقولات الدينية مثل (الولاء والبراء) و (الردة) و (الكفر) لتسوغ هذه الفوضى وتزيدها بشاعة وتعقيدا، حتى صرت ترى الشاب البسيط الذي كان يصلي خلف إمامه في المسجد لا يتورع عن قتل إمامه هذا لرأي خالفه فيه! إن المجتمع يدفع ضريبة باهظة وثقيلة جراء تهاونه وتقاعسه عن القيام بمسؤوليته تجاه الكلمة التي يتلقاها أبناؤه وبناته في المدارس والمساجد ووسائل الإعلام والتعليم المختلفة. إننا هنا لا نتكلم عن (حرية النقد) كحق للقارئ والمجتمع عموما، بل نتكلم عن (مسؤولية النقد) لأن العمل النقدي بات ضرورة لحماية الذات وحماية المجتمع من (الأفكار القاتلة) التي تتمكن من العبث بشبابنا ودفعهم نحو الانتحار الحسي والمعنوي والأخلاقي. إنه بغياب (ثقافة النقد) بات المجتمع مفتوحا على كل الاحتمالات، ومستعدا للانشطار والانقسام في أدنى درجات التحلل الديني والأخلاقي إلى أقصى حالات التشدد والغلو والتكفير! حضرت في صباي خطبة جمعة في بغداد وقد ذكر الخطيب يومها قصة خالد القسري مع الجعد بن درهم، وكان مما حفظته حينها أن القسري صعد المنبر يوم عيد الأضحى فقال: «عباد الله، ضحوا ضحاياكم تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا» فنزل وذبحه أسفل المنبر! خرج الشباب متحمسين ومبتهجين بما فعله القسري مع هذا المرتد! لم يسأل واحد منهم عن دور القضاء، أو عن رد الجعد، أو عن استتابته، ولا عن اختيار المسجد ويوم العيد لمثل هذا العمل، ولا عن انعكاسات هذه الفعلة على الحضور، خاصة أن فيهم نساء وأطفالا كما هو المعتاد في صلاة العيد! هذه صورة ذهنية من آلاف الصور وقد حظيت بالمقبولية لدى جمهور الشباب، وربما الكبار أيضا، ولأنها لم تخضع لنقد ولا تمحيص فإننا لا نستطيع أن نخمن تردادها البعيد والعميق في نفوس أولئك المتلقين. وفي صباي أيضا في أوائل السبعينات كنا نعيش في (بغداد الجديدة) حي من أحياء بغداد فيه نسبة كبيرة من الشيعة، وكانوا يعملون (التشابيه) في عاشوراء بحشود كبيرة، وقد رأيت بنفسي مئات الشباب يطوفون بمسيرات منظمة وهم يضربون ظهورهم بسلاسل الحديد والدماء تسيل من بعضهم، وكان كل شيء هناك مقترنا بالثأر واللعن، حتى الذي يوزع ماء الشرب كان يصيح (صب وزيد، والعن يزيد). لم أسمع مفكرا أو عالما أو كاتبا أو قارئا يعبر عن رأيه في هذا الذي يراه ويسمعه ومخاطره التربوية والسلوكية في المجتمع، حتى إذا وقعت الواقعة وانفرط عقد الدولة، وظهر مخزون الحقد المتراكم عبر العقود والقرون بدأ الناس يسألون عن الأسباب، ويبحثون عن الحلول! إن كل الفرق والجماعات والمذاهب والأعراف والتقاليد إنما نشأت من فكرة، وحينما لا تتعرض هذه الفكرة للشمس فإنها ستتشكل في قالب صلب يصعب تغييره أو تليينه، وحينما تتجاور هذه القوالب في أرض واحدة، فإننا نتكلم بالضرورة عن انقسامات مجتمعية حادة، وليس عن أفكار واجتهادات قابلة للحوار والنقاش، وبناء على هذه القاعدة فإن مجتمعاتنا مرشحة لانقسامات وانشطارات لها أول وليس لها آخر، وكل حالة انشطار من هذا النوع يستحيل أو يتعذر رجوعها والتئامها مرة أخرى. النقد إذاً ليس هواية أو حقا من حقوق الحرية الشخصية، بل هو الواجب الذي على أساسه يتم التمييز بين مساحة (الثوابت القطعية) وبين مساحة (الاجتهادات الفكرية)، وعلى أساسه أيضا يتم كسر القوالب العازلة بين كل فكرة وفكرة، لتنساح الأفكار وتتلاقح ضمن محيطها الأوسع، ثم بالنقد وحده تتم مراجعة هذه الأفكار وتقويمها ومعرفة الصالح والفاسد منها، ومساعدة المفكر نفسه على تهذيب أفكاره وتطويرها، وبالمجمل فالنقد هو الوسيلة الوحيدة لتحويل الأفكار المختلفة إلى روافد فاعلة ومتنوعة تصب في مصلحة المجتمع ووحدته وتطوره، وبدونه ستكون هذه الأفكار سببا في تقطيعه وتخلفه وضياعه. إن النقد الذي نتوقع منه أن يحقق لنا هذه النتائج، هو النقد النابع من ثقافة مجتمعية عامة ومشتركة بين جميع الكتاب والقراء وأصحاب القرار أيضا، أما النقد الجزئي والخجول والذي تتجرأ عليه بعض الأقلام، فإنه سيبقى محدودا ومعزولا وأضعف من أن يؤثر في هذا الفضاء الذي يمطرنا كل لحظة بالكلمات والأفكار. وفي هذا الإطار ينبغي أن نعترف أن الغرب قد تقدم علينا أشواطا كثيرة، وهذا أحد أهم أسباب رقيه وقدرته على الحفاظ على وحدته الاجتماعية، وليس من المعيب علينا أن نتعلم من الغرب تجربته الرائدة هذه، وقدرته على التوفيق بين تعددية الأفكار والقراءات وبين الحفاظ على وحدة المجتمع، في حين أننا ما زلنا نعتقد أن التعددية ملازمة للتفرقة، وأن النقد ملازم للخصومة، بينما الحق أن البديل عن التعددية هو ليس الوحدة أبداً وإنما التسلط والانغلاق والديكتاتورية داخل الجماعة أو الدولة أو المجتمع، كما أن البديل عن النقد هو ليس التوافق والتراضي أبدا، بل هو التخندق والتفكك والتنابز بالألقاب والاتهامات

 

للاطللاع  على الجزء الأول  مقالة الكلمة ومسؤولية المجتمع اضغط هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين