ألّف الدكتور محمد شحرور كتاباً تحت عنوان (الكتاب والقرآن : قراءة معاصرة) زعم فيه أنه أراد حل مشكلة الجمود الذي سيطر على الفكر الإسلامي لعدة قرون ، والذي دعاني إلى كتابة هذه الدراسة عدة أمور : الأول : تزكية روبرت بللترو – وكيل وزارة الخارجية الأمريكية السابق – لكتاباته ووجهات نظره، وقد جاءت هذه التزكية في تصريح أشاد فيه بثلاثة كتّاب هم : محمد سعيد العشماوي من مصر ، ومحمد أركون من الجزائر ، ومحمد شحرور من سورية .
الثاني : تزويد القارئ المسلم بنموذج من صور الانحراف والضلال في بعض الكتابات التي تزعم التجديد في الإسلام دون استخدام الأصول والمنطلقات الصحيحة التي رسمها الإسلام .
وأود أن أنبه منذ البداية أنني لا أستطيع أن أرد على كل الأخطاء التي وردت في الكتاب وذلك لضخامة حجمه الذي يبلغ (819) صفحة من جهة ، ولكثرة الموضوعات التي تحدث عنها الكاتب من جهة ثانية ، ولكني سأرد على بعض النقاط التي أراها أكثر خطورة من غيرها ، والتي يتّسع المقام للرد عليها .
استعرض الدكتور محمد شحرور في بداية كتابه منهجه الذي أقام بناء كتابه عليه وهو اعتماد المنهج اللغوي في تحديد معاني الألفاظ ، واعتماد عدم وجود الترادف في اللغة مستنداً على نظرية أبي علي الفارسي ، وقد أحسست من دراستي للكتاب بأنه يظن أنه أول المكتشفين لهذا المنهج ، ولكن الحقيقة أن المعتزلة سبقوه إلى هذا المنهج معتمدين على قوله تعالى : “” وما أَرْسَلنا مِنْ رسولٍ إلا بلسانِ قومِهِ لِيُبَيِّنَ لهم فيُضلّ اللهُ مَنْ يشاء ويهدي مَنْ يشاء وهو العزيز الحَكيم “” (إبراهيم،4) فأوقعهم هذا المنهج في ضلالات متعددة أبرزها حصرهم معنى الكلمة بالمعنى اللغوي وحده ، وقد ردَّ أبن تيمية عليهم معتمداً على منهج أهل السنة في النظر إلى هذه الألفاظ ، فبيّن أنّ بعض الألفاظ مثل : الإيمان، الصلاة ، الكفر الخ . . . نقلها الشرع من معناها اللغوي وأعطاها معنى آخر ، فأصبحت مصطلحاً محدّداً وضّحه القرآن والسنة توضيحاً كاملاً ، فمثلاً لفظ الإيمان يعني لغة التصديق لقوله تعالى : “”وما أنت بمؤمن لنا “” (يوسف،17) بمعنى وما أنت بمصدّق لنا ، لكنه يعني في الشرع الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقضاء والقدر ، ويعني الإيمان بالله بصفاته التي وردت في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ، وكذلك قل بالنسبة لبقية الأركان التي دخلت في مسمّى الإيمان ، وقد أجمل بعض علمائنا تعريف الإيمان فقالوا : الإيمان قول باللسان ، وتصديق بالجنان ، وعمل بالأركان.
وقد نتجت فروق رئيسية بين الإيمان عند المعتزلة وعند أهل السنّة نتيجة الخلاف في منهج التعامل مع كلمة الإيمان أبرزها : إدخال أهل السنّة العمل في مسمّى الإيمان وبالمقابل عدم إدخال المعتزلة له ، فشتان ما بين الإيمان لغة واصطلاحاً .
وكذلك الصلاة في اللغة تعني الصلة والدعاء ، لكن الصلاة في الشرع أصبحت مصطلحاً يدل على أعمال منها : القيام ، والركوع ، والسجود ، وقراءة الفاتحة ، والتسبيح الخ … ويجب أن يسبق تلك الأعمال شروط منها : طهارة البدن ، وطهارة الثياب ، وطهارة المكان ، ودخول الوقت الخ … ، ويجب أن يرافق ذلك أعمال قلبية منها : الخشوع ، والاطمئنان ، والتعظيم ، والتذلّل الخ… فشتان ما بين الصلاة لغة واصطلاحاً .
والآن بعد هذا التوضيح لمنهج أهل السنّة في التعامل مع المصطلحات الشرعية واختلافه مع منهج المعتزلة ، نعود إلى مناقشة الدكتور شحرور ونشير إلى الأمور التالية :
1- كرّر الدكتور محمد شحرور خطأ المعتزلة في عدم التمييز بين المصطلحات والألفاظ ، فالألفاظ التي تعرض لها الدكتور مثل : الكتاب ، والقرآن ، والنبي ، والرسول ، وأم الكتاب ، والسبع المثاني الخ . . . لم تعد ألفاظ تحتاج إلى أن نستقرئ معناها اللغوي في المعاجم ، بل علينا أن نستقرئ معناها في مصادر الشرع ، لذلك فإنّ كل الفروقات والتمييزات والمعاني التي حاول أن يستنبطها الدكتور شحرور من معاني الألفاظ المعجميّة وحدها إنما هو أمر لا طائل تحته ، وكل النتائج التي بناها على التفريق بين الكتاب والقرآن ، وأنّ القرآن هو الآيات المتشابهات والسبع المثاني الخ . . . نتائج غير صحيحة لأن الشرع هو الذي حدّد مضمون هذه الألفاظ ، وعلى كل من يريد أن يفهم الدين عليه أن يلِجَه من باب مصطلحاته الخاصة التي رسمها وحدّد معناها ، وفي تقديري إنّ مثل هذه الخطوة طبيعية وهي من حق كل مذهب وعلم ودين أن يحدّد مصطلحاته الخاصة التي تكون مدخلاً له.
2- حمّل الدكتور شحرور بعض الألفاظ معاني لا تسمح بها اللغة ولا سياق النص ، ومن أمثلة ذلك تفسيره عبارة أم الكتاب التي وردت في ثلاثة آيات كريمة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأضاف إلى ذلك تحديد مضمون تلك الرسالة وهي الحدود والأخلاق والعبادات وتعليمات خاصة وعامة ، ولو فسّرنا كلمة “”أم الكتاب”” معجميّاً لوجدناها تعني “”أصل الكتاب”” ، ولو استقرأنا الآيات التي وردت فيها تلك العبارة لوجدنا أنها تحتمل معنيين :
الأول : الآيات المحكمات . وذلك لقوله تعالى : “” هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأُخَرُ متشابهات فأمّا الذين في قلوبهم زَيْغٌ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلِه وما يعلم تأويلَه إلا الله والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكر إلا أولو الألباب “” (آل عمران،7) وقد فصّلت كتب علوم القرآن تعريف المحكم وتعريف نقيضه المتشابه .
الثاني : اللّوح المحفوظ : وذلك لقوله تعالى : “” يمحو الله ما يشاء ويُثْبت وعنده أُمّ الكتاب “” (الرعد،39) ولقوله تعالى : “” وإنّه في أُمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم “” (الزخرف،4) .
وفي كلا الحالين يتّضح تحميل الدكتور شحرور للفظ “”أم الكتاب”” معاني لا يحتملها التحليل اللغوي ولا سياق النّص ، وممّا يزيد في اعتسافه أنه حدّد الآيات المحكمات بالحدود والأخلاق والعبادات ، لكنّه يمكن أن تكون الآيات المحكمات في صفات الله تعالى ، أو بعض آيات الجنّة والنّار الخ . . . كقوله تعالى : “” قل هو الله أحد “” (الصمد،1) ، وكقوله تعالى : “” لم يلد ولم يولد “” (الصمد،3) ، وكقوله تعالى عن الجنّة : “” لا يمسُّهم فيها نصب “” (فاطر،35) الخ . . .
3- اعتسف الدكتور شحرور في التفسير اللغوي لبعض الألفاظ ، فهو قد اعتبر قول القائل “”سبحان الله”” إقراره بقانون هلاك الأشياء -ما عدا الله- نتيجة التناقض الذي تحويه داخليّاً ، وهو قد استهزأ بكل التفسيرات التي تعتبر قول المسلم “”سبحان الله”” بمعنى تنزيه الله عن كل نقص وعيب ، ووصفه -تعالى- بكل صفة كمال ، وكانت حجّته في ذلك أنّ النقائص والعيوب تحمل مفهوماً نسبيّاً ، ولا أدري ما الذي يضير المعنى عندما ينزّه المسلم الله عن كل عيب مطلق أو نسبي ؟! ولكن هناك قضية أخرى بالإضافة إلى اعتساف الدكتور في مجال المعنى هي أنّ عبارة “”سبحان الله”” تتألّف من مضاف ومضاف إليه ، والتي تعني إضافة شيء إلى ذات الله ، والواضح أنّ صيغتها النّحويّة لا تسمح بتفسيرها إلا بالمعنى الذي قال به علماء التفسير وهو إضافة التنزيه لذات الله ، ولا تسمح صيغتها النّحويّة بالمعنى الذي ذهب إليه الدكتور شحرور .
ومما زاد في خطأ استنتاجه وأحكامه في أحيان كثيرة رفضه للسنة كمبيّن ومقيّد ومفصّل لآيات القرآن الكريم ، ليس هذا فحسب بل اعتباره تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم للإسلام هو اجتهاده غير الملزم لنا في شيء ، وهو فهمه الخاص المرتبط بالمستوى المعرفي للجزيرة العربية ، وهو فهم نسبي ، وهو في هذا يلتقي مع كثير من الفئات المنحرفة التي عادت السنة المشرفة قديماً كالمعتزلة والخوارج ، ويلتقي مع كثير من الشخصيات التي هوّنت من شأن السنة حديثاً ودعت إلى طرحها جانباً : كحسين أحمد أمين ، ومحمد أبو القاسم حاج حمد الخ . . .
وليس من شك بأن هذه الأقوال في التهوين من شأن السنة المشرّفة والدعوة إلى طرحها جنباً ، تتناقض تناقضاً كاملاً مع أمر الله تعالى في عشرات الآيات الكريمة من القرآن الكريم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جانب طاعته سبحانه وتعالى ، وقد أشار إلى جانب من ذلك الشافعي -رحمه الله- في بداية كتاب “”الرسالة”” ، والتي تساءل فيها : من أين لنا أن نستدل على لزوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ فأجاب بأن القرآن هو الذي وجّهنا إلى ذلك ، وأوجب علينا ذلك ، واستشهد بالآيات التي أمرت بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها قوله تعالى : “” يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمر منكم “” (النساء،59) ، ومنها : “” مَنْ يُطِع الرسول فقد أطاع الله “” (النساء،80) ، ومنها : “” وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنهُ فانتهوا “” (الحشر،7) ، ومنها : “” إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا “” (النور،51) الخ . . .
إنّ النظر إلى القرآن وحده دون الأخذ بالسنة معه هو الذي جعل الكاتب يخرج علينا بتفاسير غريبة لبعض الآيات الكريمة أو بعض المعاني القرآنية : كالقيامة والبعث والصور والساعة والسّبع المثاني الخ . . . وسأمثّل لذلك بمثال واحد هو تفسيره للسّبع المثاني التي أورد ما جاء عن أصلها في مقاييس اللغة فقال : ( المثناةُ : طرف الزمام في الخشاش ) وإنما يثنى الشيء من أطرافه ، فالمثاني إذاً أطراف السور وهي إذن فواتحها ، فتوصّل إلى أنّ السبع المثاني هي سبع فواتح للسور ، فإذن السبع المثاني هي الفواتح التالية : 1- ألم 2- ألمص 3- كهيعص 4- يس 5- طه 6- طسم 7- حم ثم نظر إلى الأحرف التي تتضمنها الآيات السبع السابقة فوجدها تتألف من 11 حرفاً ، وأخذ الأحرف التي وردت في بداية سور أخرى ولم ترد في الفواتح السابقة فوجد أنها ثلاث هي :
1- القاف 2- الراء 3- النون . نجمعها مع الأحرف السابقة فصارت أربع عشر أحرفاً ، وأشار إلى أنها أصبحت (7 × 2) وهي أيضاً سبع مثان .
وربط بين ما توصّل إليه وهو أنّ أحرف السور الفواتح بلغت أحد عشر حرفاً وبين قول علماء اللغويات واللسانيات من أنّ الحد الأدنى لأية لغة إنسانية معروفة في العالم هو أحد عشر صوتاً، واعتبر أنّ هذا هو الحد الأدنى اللازم من الأصوات لأي تفاهم بيننا وبين أية مخلوقات يمكن أن توجد في الكواكب الأخرى في المستقبل .
هذا ما أورده الدكتور شحرور في تفسيره للسبع المثاني ، ولنر ما ورد في السنّة عن تفسير السّبع المثاني لنر مدى ابتعاده عن الصواب لغة وشرعاً وعقلاً .
قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في مسنده عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال : “”كنت أصلّي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صلّيت ، قال : فأتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ قال ، قلت : يا رسول الله إني كنت أصلّي قال : ألم يقل الله تعالى : “” يا أيّها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم “” (الأنفال،24) ثم قال : لأُعلّمنّك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد . قال : فأخذ بيدي فلمّا أراد أن يخرج قلت : يا رسول الله إنك قلت لأعلّمنّك أعظم سورة في القرآن . قال : نعم “” الحمد لله رب العالمين “” هي السّبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته”” . وقد وردت بعض الروايات تفسّر الفاتحة بالسّبع المثاني فقط ،
والآن : هل بعد تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للسّبع المثاني من تفسير ؟
لا أظن أنه يجوز لمسلم بعد أن يسمع تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتطلع إلى تفسير آخر ، وأحب أن أُنوّه بالإضافة إلى ما سبق إلى أنّ تفسير السنّة للسّبع المثاني أصوب من ناحية لغويّة مما ورد عند الدكتور شحرور لأنه اختار كلمة مثناة وترك الأصل ثني ، وقد جاء في مقاييس اللغة عن الأصل ثني ما يلي :
(( الثاء والنون والياء أصل واحد وهو تكرير الشيء مرتين ، أو جعله شيئين متواليين أو متباينين )) والحقيقة إنّ هذا التعريف اللغوي أكثر انطباقاً على الفاتحة وهو أصل المعنى لأن الفاتحة سبع آيات تتكرّر وتثنى في كلّ صلاة ، لذلك لم يأخذ به الدكتور شحرور واختار كلمة أخرى هي “”المثناة”” ليجعلها أصلاً في دراسته ، وليصوغ النتيجة التي يريد أن يتوصّل إليها وهي مطابقة الأحرف في فواتح السور مع أصل الأصوات في اللغات الإنسانية .
وقد انتبه خيار الصحابة إلى أنّ فهم القرآن الكريم دون ربطه بالسنّة قابل لكل التفسيرات ، لذلك وجّه علي بن أبي طالب أبن عبّاس رضي الله عنهما أن يحاجج الخوارج بالقرآن الكريم والسنّة المشرفة معاً عندما أرسله لمناقشة الخوارج فقال له : لا تحاججهم بالقرآن وحده فإنّ القرآن حمّال أوجه ، حاججهم بالسنّة .
حرص الدكتور محمد شحرور على فتح ثغرة في فهم المسلمين للنص القطعي الثبوت القطعي الدلالة ، وهو في هذا يلتقي مع عدد من الكتّاب يركّزون على فتح هذه الثغرة في هذا الوقت من أمثال : عادل ضاهر ، وحسين أحمد أمين ، ونصر أبو زيد ، ومحمد سعيد العشماوي الخ . . . وكل كاتب تناول بعضاً من هذه الآيات ، فنصر أبو زيد تناول آيات صفات الله تعالى ، وأحمد أمين تناول آيات الحدود ، ومحمد سعيد العشماوي تناول آيات الحجاب والمرأة ، وعادل ضاهر تناول النص القطعي الثبوت القطعي الدّلالة بشكل عام وضرورة فهمه فهماً جديداً مبايناً لكل الأفهام السابقة ، وكل واحد منهم دعا إلى أن نطور فهمنا لهذه الآيات القطعية الثبوت القطعية الدلالة ، ودعوا إلى عدم التوقف عند فهم الرسول والصحابة وعند فهم علماء المسلمين هذا الفهم الذي استمر على مدار ألف وأربعمائة عام بل يجب أن نفهمها على ضوء معطيات العصر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، وحشد كل منهم حججه الخاصة ، ولكن قبل أن أستعرض حجج الدكتور محمد شحرور أود أن أنبه إلى خطورة الانسياق في هذه الدعوة التي تنتهي إلى مسخ الدين ، وجعله أُلعوبة بيد أصحاب الأهواء ، وينتهي حينئذ ديننا إلى ما انتهت إليه الأديان السابقة بأن يكون مبرراً لكل انحرافات البشر وتابعاً لانحدارهم .
تناول الدكتور محمد شحرور كل النصوص القطعية الثبوت القطعية الدّلالة تقريباً فهو تناول آيات الحدود وآيات الربا وآيات الميراث وآيات الطلاق والزواج الخ . . . المهم أنه انتهى من تناوله لكل الآيات السابقة إلى فهمها فهماً جديداً مخالفاً لكل الأفهام التي طرحت سابقاً ، فهو بالنسبة للربا حرّم ربا أضعاف المضاعفة ، وبالنسبة لآيات الميراث أباح التلاعب بالأنصبة التي حدّدها الشرع لكل فرد من أفراد الأسرة ، وبالنسبة لتعدد الزوجات أباحه من الأرامل ذوات الأولاد ، وبالنسبة لمعالجة الزوجة الناشز فقد ألغى بعض مراحل معالجة نشوزها الخ . . . .
وقد استند كل مَنْ تناول النص القطعي الثبوت القطعي الدّلالة على شبهة تطور المحيط البشري، فهناك الجديد المتطور باستمرار في العلم والأدوات والأشياء والوسائل الخ . . . وبالتالي يجب أن يكون هناك تطور بالأحكام مرافق للتطور المحيط بنا ، ولكن نسي أولئك القائلون بذلك القول أنّ هناك أشياء ثابتة في كيان الإنسان إلى جانب الأشياء المتطورة والمتغيرة التي أشاروا إليها ، وإنّ الإسلام عندما وضع آيات الحدود والميراث والزواج والطلاق والمرأة الخ . . . ربطها بالجانب الثابت من الكيان الإنساني ، فهناك التجاذب بين الذكر والأنثى ، وهناك الأسرة ، وهناك شهوة المال ، وشهوة النساء، وشهوة الانتقام الخ . . . وهي أمور ثابتة إلى قيام الساعة فلابد من حدود ثابتة مرتبطة بها ، فكانت تشريعات الزواج والطلاق والميراث وأحكام الأسرة وحدود السرقة والزنى والقتل .
وإنّ أكبر دليل على أنّ الإسلام دين الله العليم الخبير هو أنه راعى الثابت والمتحوّل في الكيان الإنساني والحياة البشرية ، فأنزل الشرائع الثابتة للجوانب الثابتة في كيان الإنسان ، وأعطى أُطراً عامة للأمور المتحولة في حياة الإنسان ، فالإسلام مثلاً أعطانا أحكاماً عامة محدودة في مجال الحياة الاقتصادية فحرّم الربا وأحلّ البيع وأوجب الزكاة وفرض الميراث ولم يلزمنا بزراعة معيّنة ولا بطرق زراعيّة معيّنة ولا بموادّ معيّنة ولا بتجارة معيّنة ولا بصناعة معيّنة الخ . . . إنما ترك ذلك لظروف الزمان والمكان .
ولقد حدّثنا القرآن عن أمور غيبيّة متعددة ، فحدثنا الله تعالى عن ذاته وعن الجنّة والنار والملائكة وخلق الإنسان وخلق الكون الخ . . . ومن الواضح أنّ قوانين عالم الغيب لا تنطبق بحال على عالم الشهادة ، وإن معظم الضلال الذي وقع فيه الفلاسفة والمعتزلة جاء من قياس عالم الغيب على عالم الشهادة وسحب قوانين الشهادة على عالم الغيب ، وقد وقع الدكتور شحرور في هذا الخطأ ، ومن أمثلة هذا قياسه كلام الله على كلام البشر ، لذلك تخيّل أنّ القرآن الموجود في اللوح المحفوظ لابد له من الانتقال إلى صيغة لسانية عربية قبل إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم ليلة القدر وهي ليلة إشهار القرآن الكريم في نظره .
ولكن هذا القرآن الكريم الذي تكلّم الله به والذي كان موجوداً في اللوح المحفوظ ، لا نعرف الكيفية التي تكلم الله بها لأننا نجهل ذات الله وبالتالي لا نستطيع أن نخوض في هذه التفصيلات لأنها ستكون بلا سند شرعي أو عقلي .
دندن الدكتور شحرور كثيراً على الجبريّة في فهم القضاء والقدر ، مع أنّ المسلمين الأوائل لم يفهموا القضاء والقدر بحال من الأحوال على أنّه السلبية والتواكل وسلب الإرادة ، بل فهموا القضاء والقدر على أنه الإيجابية نحو الأحداث ، والأخذ بالأسباب وثمّ التوكل على الله ، كذلك كان فهم القضاء والقدر بتلك الصورة عاملاً إيجابياً في بناء الشخصية المسلمة على مدار التاريخ ، وفي دفعها إلى الفعل والبناء وإعمار الكون، وجلّ الدَخَن الذي دخل فهم المسلمين للقضاء والقدر من ثقافات خارجية وأبرزها التصوف الذي رسّخ السلبية ، ودعا إلى إسقاط التدبير والانشغال بالذات وترك الخلق للخالق .
وقد تجاوز المسلمون هذا الفهم الخاطئ للقضاء والقدر في العصر الحديث ، وجاء ذلك نتيجة عاملين :
الأول : إبراز معظم الصالحين أوجه القصور في فهم القضاء والقدر الذي ورثناه في العصور المتأخرة ، وإبراز الصورة الصحيحة لما يجب أن يكون عليه الإيمان بالقضاء والقدر .
الثاني : انحسار موجة التصوف التي كانت سبباً في رواج الفهم الخاطئ للقضاء والقدر .
لذلك فإني أرى أنّ دندنة الدكتور شحرور حول القضاء والقدر ليست في محلّها بعد أن تجاوز المسلمون هذه الظاهرة في وقتنا الحاضر .
اعتمد الدكتور محمد شحرور على عقله وحده في تفسير كثير من الآيات الكريمة فجاء بعجائب من التفسير ، وهو أمر طبيعي لكل من اعتمد على العقل وحده دون المزاوجة بين العقل والنقل في فهم الآيات وتفسيرها ، ودون الاعتماد على المأثور من الأقوال، ونستطيع أن نمثّل على مقولتنا بآيتين :
الأولى : قوله تعالى : “” وإنْ مِنْ أمّةٍ إلا خلا فيها نذير “” (فاطر،24) فسّر النذير بالملاك ، وقرّر أنّ الله كان يرسل ملائكة إلى البشر قبل نوح عليه السلام الذي اعتبره أوّل رسول إلى البشر ، وزعم أنّ قوله تعالى : “”كذّبت قوم نوح المرسلين“” (الشعراء،105) ، وقوله تعالى : “”كذّبت ثمود بالنُّذُر“” (القمر،23) يعني أنّ تلك الأقوام كذّبت بنبيّهم وبالملائكة الذين أرسلوا إلى البشر يكلّمونهم ويدعونهم ، ورفض التفسير الذي ذكرته معظم التفاسير وهو أنّ الله سبحانه بيّن أنّ تكذيب رسول واحد يعني تكذيب جميع رسله ، لذلك جاءت كلمة الرسل بالجمع وليس بالمفرد لتشير إلى هذا المعنى .
الثانية : قوله تعالى : “” كُلّ شيء هالك إلا وجهه “” (القصص،88) فسّرها بأنّ هذا الكون يحمل تناقضاته ، وأنّ المادة تحمل تناقضها معها ، لذلك فإنّ هذا الكون سيتدمّر وسيتبدّل وسيهلك ، ولكن هلاكه سيحوّله إلى مادة أخرى ، وهذا هو تفسيره ليوم القيامة ، وهو يعتبر أنّ الجنّة والنار غير موجودتين وستوجدان عند تحوّل هذا الكون إلى مادة أخرى ، وهو في هذا يرفض الأحاديث الشريفة التي قرّرت وجود الجنّة والنار ، ولا أريد أن أسرد عشرات الآيات والأحاديث التي تدحض تفسيره للآية السابقة ، ولكنّي أريد أن أسأله بمنطقه اللغوي الذي اعتمده : كيف يمكن أن يوفّق بين المدلول اللغوي للآية الكريمة السابقة وهو الذي يعني بكل بساطة فناء المخلوقات الأخرى وهلاكها وبين تحوّلها إلى مادة أخرى ؟ فأين هو إذن الهلاك للمادة ؟
التأويل أحد مباحث علوم القرآن ، ويحتوي على عدة أقسام مقبولة منها : التأويل بمعنى تحقيق الشيء ، ومنها : التأويل بمعنى التفسير، ولكن علماءنا حذّروا من أحد أقسامه التي تقوم على صرف ألفاظ الآية المؤوّلة عن المعنى الراجح إلى معنى مرجوح لا تسمح به اللغة ، وقد جاء تحذيرهم ذلك نتيجة استخدام الفِرَق المنحرفة له في خدمة أهوائها وضلالاتها ، ولأنه أدّى إلى ضياع حقائق الدين ومعالمه التي رسمها محمّد صلى الله عليه وسلم، فهل أخذ الدكتور شحرور بهذا التأويل ؟ نعم لقد أخذ به ، ليس هذا فحسب بل دعا وقَنَّن له ، ولن أعرض لكل تلك التأويلات لكن سأعرض لواحد منها .
قال تعالى في سورة الفجر : “” والفجر . وليالٍ عَشْر . والشَّفْعِ والوَتْر “” (الفجر،1-3) ، فسّر الدكتور شحرور الآيات السابقة بما يلي :
(( فالخلق الأول بدأ بانفجار كوني هائل حيث قال : “”والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر”” حيث إنّ الفجر هو الانفجار الكوني الأول “”وليال عشر”” معناه أنّ المادة مرّت بعشر مراحل للتطوّر حتى أصبحت شفّافة للضوء ، لذا أتبعها بقوله “”والشفع والوتر”” حيث أنّ أول عنصر تكوّن في هذا الوجود وهو الهيدروجين وفيه الشفع في النواة والوتر في المدار ، وقد أكّد هذا في قوله : “”وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيام وكان عرشه على الماء “” (هود،7) والهيدروجين هو مولّد الماء ، أي بعد هذه المراحل العشر أصبح الوجود قابلاً للإبصار لذا قال : “”الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون“” (الأنعام،1) )) -الكتاب والقرآن : قراءة معاصرة. ص235- .
ليس من شك بأنّ الدكتور شحرور قد ابتعد في متاهات التأويل عندما فسّر الفجر بالانفجار الكوني الأول ، وفسّر الليالي العشر بمراحل تطوّر المادة العشر ، وفسّر الشفع والوتر بغاز الهيدروجين لأن معطيات السورة لا تسمح بمثل هذا التاويل ، ولو أقررناه على تأويله لأعطينا الفرصة لكل صاحب بدعة أن يُطوّع آيات القرآن حسب بدعه وهواه .
والآن : بعد هذا العرض السريع لبعض تجاوزات الدكتور شحرور وضلالاته وانحرافاته لا نستطيع إلا أن نقول إنّ الكتاب ليس حلاًّ لمشكلة الجمود في الفكر الإسلامي ، بل هدماً لكثير من أركان وأُسس ومنطلقات الفكر الإسلامي والدين الإسلامي .
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول