القيم
في التشريع الدولي الإسلامي
تتبوأ
القيم في النموذج المعرفي الإسلامي مكانة رفيعة، وتضافرت الشواهد على سعي هذا
النموذج لتأصيلها ثم تحصيلها، ترقية للإنسان وإقامة للعمران، وبلغت في الاعتبار
الشرعي شأواً عظيماً، حتى اتخذ منها التشريع الإسلامي غاية ومنتهى للأحكام العملية
والتدابير السياسية والتصرفات الدولية فتجلت بها معها معقولية التشريع وغائيته،
واتساقه وائتلافه، وغدت معها القيم منشأ للالتزام بهذه الأحكام، ومعياراً لتقويم
الاجتهادات والفتاوى، وقياس مدى توخيها لتلك القيم، وإفضائها إليها.
القيم شملت التشريع وأحكامه الضرورية والحاجية والتحسينية بما يخدم
إقامة الدين وتشييد الأمة
وقد
تفرقت القيم على بناء التشريع كله، وتناثرت في أحكامه الضرورية والحاجية
والتحسينية، بما يخدم إقامة الدين، وتشييد الأمة الشاهدة على الناس، ولكل مرتبة من
هذه المصالح آصرة بالقيم، ووشيجة بالبناء القيمي للأمة، ورابطة بأحكام التشريع
الدولي الذي تتحرك به الأمة لتتمثل الخلافة وتقيم العمران، فالمصالح الضرورية
تتوخى حفظ نظام الأمة بحيث لا تشبه أحوالها أحوال الأنعام، والمصالح الحاجية تتوخى
انتظام أمور الأمة على وجه حسن فيما لا يبلغ مرتبة الضروري، والمصالح التحسينية
تتوخى كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع
وارتقاء المدارك في مرأى بقية الأمم، فيُرغب في الاندماج فيها والتقرب منها(1).
وإذا
كانت القيم تحظى بهذه العناية والرعاية، فإن الإبطاء في تأصيلها نظرياً والتقاعس
عن إنفاذها عملياً أمران باطلان يحرم المصير إليهما، أو التسبب فيهما، لمصادمتهما
قطعيات الشريعة، ومعارضتهما مقاصد الشارع.
القيم في النموذج الإسلامي تجري في التشريع السياسي والدولي مجرى الدم
في العروق
وينتظم
النموذج الإسلامي القيم والمصالح في إهاب واحد يضمّ في جنباته انضواء المصالح على
قيم ثاوية، ونهوض القيم نفسها كمصالح من حيث هي معان معقولة المعنى ثابتة
بالاستقراء، وممكنة التنزيل في واقع المكلفين من خلال ضروب الاجتهاد بالرأي، وهو
بذلك يتغاير مع النموذج الغربي الذي يعيش أزمة معرفية فكرية وأخلاقية في ضبط
العلاقة بين القيم والمصالح، حتى انشطر إلى مدارس مختلفة تطرفت في جهتي الواقعية
والمثالية، ولم تجرِ على استقامة منهجية أو واقعية.
والقيم
في النموذج الإسلامي تجري في التشريع السياسي والدولي مجرى الدم في العروق بالنظر
إلى قِيَمِيّة السياسة نفسها في الوضع اللغوي الذي يربط بين السياسة والفطرة،
والاصطلاحي الذي يجعل نشدان الصلاح حقيقتها وغايتها، حتى استعملت في التعبير عن
ترويض النفس، ورعاية ذوي الإنسان من الأهل والذرية.
ثمّ
إنّ هذه القيم القارة في النموذج المعرفي والماثلة في الحضارة الإسلامية تعمل بشكل
جماعي وتكاملي، ينتظمها النظام الإسلامي، ويتفرع عنه أو يتصل به جملة كبيرة من
المفاهيم والأحكام، والخبرات والتجارب، يمكن معها إعادة بناء قواعد النظام
والقانون الدولي على أساس من التوزان الدقيق بين المصالح الدولية خصوصاً في حالات
الاختلاف والاعتداء، بما يدفع الضرر قبل حصوله، ويزيله بعد نزوله، ويخفف منه إذا
تعذر دفعه بالكلية جبراً وتعويضاً، بغض النظر عمن أنشأ الضرر أو من حلّ به،
اعتداداً بالكرامة الثابتة للإنسان بمقتضى إنسانيته، وبذلك يتحقق الخير للمجموع
الإنساني والدولي، ولعل هذا أحد تجليات قضاء الله تعالى بإتمام نور الله عالمياً بإزاء إتمام الأخلاق،
وشيوع الرحمة دولياً بإزاء منع كل أشكال الظلم والعلو في الأرض.
وتبدأ
هذه القيم بالتعارف المقتضي للتواصل الحضاري، وتمر بالتعاون المقتضي للتشارك
الإنساني وتنتهي بالتعاضد المقتضي للتواثق المصلحي، ويتبوأ العدل قيمة عليا في
النموذج المعرفي الإسلامي، تستبين معه الحقوق، وتتأسس عليه التعاقدات، وتتحدد
بحسبه الالتزامات، وهو بالتالي ليس مفهوماً نظرياً مثالياً وهلامياً، بل مفهوم
واضح المعالم، انعقدت خيوطه في نظام تشريعي كامل.
الوثائق
الدولية التي خطَّها مفكرو النموذج الغربي بالمنظمات الدولية ضرب من النفاق
السياسي والدولي
وتجلي
القيم واقعية التشريع الإسلامي بالنظر إلى أصالة القيم في البناء الفطري الإنساني،
فهو (الإنسان) في المنظور الإسلامي مخلوق قيمي طبعاً بالنظر إلى أصل خلقه وتكوينه،
ثم إنه مخلوق قيمي كسباً بالنظر إلى غاية التشريع المنزل إليه، وفي ضوء هاتين
الحقيقتين يتحدد التشريع الإسلامي في الحقل السياسي والسياق الدولي.
القيم في التشريع الدولي الغربي
تعمل
القيم الإسلامية كنسق في منظومة وفي مقدمتها العدل، وهي بالتالي تمتاز عما اشتهر
في النموذج المعرفي الغربي من أنظار قيمية جزئية أو انتقائية، وتضاد كل محاولات
حصر القيم في إطار زماني أو مكاني، أو في سياق جماعة أو أمة بعينها، ويرجع هذا
الامتياز لا إلى تعيين القيم كالعدل والمساواة ونحوهما إذ لا يخلو من التصريح بهما
تشريع أو أمة، بل إلى بيان المرتكز الذي تستند إليه تلك القيم، فالعدالة والمساواة
في التشريعات الغربية تتفرع عن المذهب الفردي، الذي يمجد فردية الحقوق، دون
الاحتراس لحقوق الغير، فانعكس هذا الانشطار في السياقات المختلفة بما فيها السياق
الدولي، مما أجحف بحقوق الكيانات الأخرى، وهدد النظام العالمي، وأهدر المصالح
العامة الدولية، فلا تكون له (النموذج الغربي) صلوحية والحال هذه بالجدارة
التشريعية فضلاً عن الأفضلية المدعاة.
ويتلبس
هذا النموذج صنوف من التجزئة والانشطار والعزل والاختزال والتعسف والابتسار تجافي
في جوهرها قيمة العدل الشامل، وتهدم لأركانه، وهي بالتالي تؤسس لمنظومة قيمية
سلبية جماعها الأنانية والأثرة، وأساسها الظلم والعدوان، ومآلها الاضطراب
والاختلال.
وقد
أثمرت ضروب الاختلال الفكري والقيمي المقصود هذا عطب موازين القيم، وتجاهل حقوق
الأمم ومصالح الدول الأخرى في السياسة الخارجية للدول الغربية، واختلت معه أسس
العلاقات وقواعد القانون الدولي حتى ابتدعوا فكرة الاستعمار الذي هو في حقيقته شر
مستطير وتخريب فادح وإفساد عريض في الأرض، ومن أظهر صوره في الواقع المعاصر
المشروع الصهيوني الذي ورث الاحتلال الإنجليزي لفلسطين وقام على أنقاض شعب وتراثه
ومقدساته.
معركة «طوفان الأقصى» في فلسطين المحتلة كشفت تداعي النموذج الغربي وانكشاف قيمه المدَّعاة
وإذا
كان العدوان على نفس واحدة في المنظور القرآني هو قتل للناس جميعاً بالنظر إلى مآل
هذه الجريمة التي تبدو منعزلة فيما هي جريمة دولية، فكيف يمكن النظر إلى جريمة
إبادة جماعية وتطهير عرقي جارية على مدار عقود وعلى مسمع ومرأى العالم كله؟! كما
ابتدعوا صوراً أخرى من سرقة مقدرات الأمم الأخرى باسم الإقراض يخفي وراءه أكل
الأقوياء لأموال الضعفاء بالباطل وتعبيد المعوزين للمستكبرين بالربا الفاحش.
وأما
تلك الوثائق الدولية حسنة الألفاظ جميلة الكلمات التي خطتها أيدي مفكري النموذج
الغربي في المنظمات الدولية وفي وثائق السياسات الخارجية، فلا تعدو أن تكون ضرباً
من النفاق السياسي والدولي لأنها تخفي وراءها الانشطارية في مفهوم الحق ومفهوم
العدل، التي يكشف عنها الاستخفاف بهذه المواثيق والمؤسسات القائمة على رعايتها
حينما تتعارض مع مصالحها أو مصالح حلفائها(1).
المشروع الإسلامي وسؤال التجديد القيمي في ضوء "طوفان الأقصى"
تمثل
القيم مدخلاً منهجياً مهماً في تبيّن اختلال أسس العلاقات الدولية وقواعد القانون
الدولي التي تم تأسيسها على قيم مبسترة، ونفاق يخفي وراءه تحيزاً كبيراً ضد مصالح
الأمة الإسلامية تحديداً.
وقد
كشفت معركة «طوفان الأقصى»
عن تداعي النموذج الغربي وانكشاف قيمه المدعاة لا في الأمة الإسلامية فحسب بل في الأمم
كلها بما فيها الأمة الغربية، بسبب الدعم اللا متناهي لدولة الاحتلال الصهيوني التي
باتت رمزاً وأنموذجاً على الدولة المارقة التي تمتهن الكرامة الإنسانية، وتجردت من
كل معاني الرحمة، وأخذت تقتل الأطفال والنساء والشيوخ ولم تترك جريمة إلا واقترفتها
بما يجعلها الخطر الدولي الأكبر على البشرية اليوم بسبب تشجيعها على هدم كل القيم التي
تحفظ الكينونة الإنسانية، والسلم العالمي، وإنّ أجدر الأمم بملء هذا الشغور
الحضاري هي الأمة الإسلامية بما هي أمة قيم، وأجدر الشرائع بإقامة عمران النظام
الدولي المعاصر هي شريعة الإسلام بما هي شريعة قيم.
وإنّ
البشرية بشكل عام والمنصفين في الغرب اليوم أكثر استعداداً من أي وقت مضى لإدراك
حقيقة فشل النموذج الغربي في تأسيس نظام دولي يحقق الأمن والاستقرار، لذا يتوجب
على أرباب المشروع الإسلامي أن يبذلوا وسعهم في التنظير للنموذج الإسلامي في
العلاقات الدولية المتأطر بالقيم والمحقق للمصالح، وأن يبعثوا في المخيال الغربي
الرغبة لتبصر القيم الإسلامية، وتجاوز الدعاوى الزائفة التي يراد منها الحيلولة
دون التواصل الحضاري مع الغرب.
منصفو الغرب أدركوا حقيقة فشل النموذج الغربي في تأسيس نظام دولي يحقق
الأمن والاستقرار
وكي
يتحقق هذا السعي بشكل ملائم لا بد من مشورة الخبراء في ابتداع وسائل ملائمة مثل
صياغة مواثيق قيمية، وأدلة عمل قائمة على تلك الموازين القيمية والمعايير
الأخلاقية يسعى بها المفكرون والمشتغلون بالعمل السياسي من المحسوبين على الفكرة
الإسلامية في أروقة الجامعات ومراكز التفكير والمؤسسات الحقوقية والمنظمات الدولية
كي يوسعوا دائرة الاهتمام بالمدخل القيمي الإسلامي في العلاقات الدولية، ولا يخفى
أن للوسائل المثمرة أحكام مقاصدها، ومن المهم في هذا السياق الإشادة والدعوة إلى
الإفادة من الجهد الموسوعي الذي أسهم فيه رواد مدرسة المنظور الحضاري الإسلامي
وخاصة د. سيف الدين عبدالفتاح، ود. نادية مصطفى.
كما
لا بد من تشغيل القيم الإسلامية في بناء مشتركات دولية، مثل قيمة التعاون التي جاء
الأمر بها مطلقاً في القرآن الكريم، وهي في نظرنا آكد في المجال الدولي لعظم
المصالح والمفاسد التي تترتب على التصرفات الدولية، ولذا وصف القرآن الكريم قيمة
السعي على إحياء نفس واحدة بأنه إحياء للناس جميعاً في مقابل جريمة القتل الفردي
ظاهراً والدولي مآلاً.
_________________________
الهوامش:
(1)
محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 231-243).
(2)
محمد فتحي الدريني، فلسفة أصول سياسة التشريع القائمة على مفهوم العدل في الإسلام،
(مجلة هدى الإسلام، وزارة الأوقاف السورية، مج: 41، ع: 5، 1997م)، 18-28.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول