القوامة ضرورة شرعية بشرية

الحمد لله الذي جعل من الشريعة ماء ثجاجاً، والصلاة على خير من ملأ دلاء الناس شرعة ومنهاجاً، أما بعد:

فقد أرسل لي أحد الإخوة الأجلاء ـ محسناً ظنه بي ـ مقالاً عن القوامة، خلط فيه صاحبه خلطاً عجيباً، وقد سألني الرد عليه، واتفق طلبه مع واجبات ملِحَّة ضيقٌ وقتها، فأجَّلتُ النظر، ثم كان أن أشار صاحب المقالة لي على صفحته مستدلاً ببحث كنت قد نشرته بعنوان (القوامة في الأسرة بين التعليل والتقصيد)، حيث يرى بحسب نظره - الذي أراه قاصراً عن أدوات النظر الصحيح- أن بحثي يؤيد مقاله، والحقيقة أن كلامي لا يتفق مع مقاله بحال. فكان لابد من الانتهاض للبيان على جهة توضيح مفهوم القوامة، وعلى جهة تفنيد قول صاحب المقال، فأقول وبالله المستعان:

أولاً: الطبيعة البشرية ناطقةٌ بالحاجة في أي تجمع إلى قائد، فلابد من وجود من يرجع الأمر إليه عند اختلاف الرأي، وهذا مشاهد على صعيد المؤسسات والشركات، بل على صعيد الرحلات العائلية. وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ‏(إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ) أخرجه أبو داود، وسفر الحياة أولى من أي سفر، وركب الأسرة أولى من أي ركب.

ثانياً: القوامة ثابتة للرجل بنص قطعي الثبوت والدلالة، قال ربنا تبارك وتعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) النساء:34، وهي معللة بعلة مركبة من أمرين اثنين:

1- قوة تفضيلية وهبية: لا يد للرجل فيها، وإنما هي حكمة الخالق تبارك وتعالى (الذي أحسن كل شيء خلقه) السجدة:7، و(الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) طه:50 وذلك لتحقيق مقصد بقاء النوع، وقيام الحياة البشرية على توزيع المهام والواجبات.

2-نفقة مادية كسبية: توجب حكماً تكليفياً بوجوب النفقة على من يقوم عليهم في الأسرة، ولحوق الإثم لمن يقصر في النفقة منعاً أو تقليلاً عن حد الكفاية بما يليق اجتماعياً بأفراد الأسرة.

والعلة المذكورة في الآية إذا تخلف أحد أجزائها خرجت عن تحقيق حكمها، وجاز للمرأة الخروج عن مقتضى القوامة واللجوء إلى القضاء، فالدرجة التي ذكر ربنا تبارك وتعالى أنها للرجال على النساء بقوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) البقرة:228

تتجلى في أن الرجل يصل إلى حقه بنفسه كالطلاق عند الاختلاف والرجعة ، أما المرأة فتصل إلى حقها عن طريق القاضي، وقد وردت السنة بلجوء النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إما لطلب الخلع بسبب نفسي ( لكني أكره الكفر في الإسلام) ،أو لرد نكاح الأب النكاح ( ولكنْ أردْتُ أنْ تَعلَمَ النِّساءُ أنْ ليس للآباءِ منَ الأمرِ شيءٌ).

ثالثاً: القوامة سلطة تنظيمية لشؤون الأسرة قائمة على الشورى، ويدخلها التفويض، وهي من باب أحكام الوضع لا التكليف، فقد يتوافق الزوجان على أسلوب في إدارة الأسرة بتفويض المرأة بشؤون الداخل كاملاً، ولا يعدُّ هذا تقصيراً من الرجل، ولا يحاسب عليه.

رابعاً: القوامة وسيلة لتحقيق غايات الأسرة وبناء المجتمع، ومن أهم مقاصد الأسرة في الإسلام تحقيق الاستقرار والسكن النفسي، والنأي بأفرادها عن الاضطراب، وبخاصة الجيل الذي يستقبل الحياة، مما يؤكد الحاجة إلى وجود مرجعية عند الاختلاف.

خامساً: ليس للقوامة تعلق بحال المرأة ضعفاً وقوة، غنىً وفقراً، فلا تسقط إلا بتخلف العلة المنوطة بها، ولا تتأثر بكون المرأة ضعيفة أو بحاجة إلى رعاية، وقد كانت نساء الأنصار تغلب الرجال، ولم يؤثر هذا على القوامة، كما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدِمنا المدينةَ وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم. فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم)، ولم يُعلَم نهيٌّ عن هذه الغلبة، ولم يعلم سقوط القوامة عن المرأة القوية، فعلى هذا يعلم أن قول صاحب المقال : ( "الرجال قوامون على النساء" على اعتبار أن النساء ضعفاء، وعوان للرجال أي تابعات لهم، أما إذا وصلت لمرحلة القوة، فحينها تبطل القوامة) جانبه الصواب بالكلية، وهو من الخطأ البيّن الذي لا تجوز متابعته عليه.

سادساً: جعل صاحب المقال وصف المرأة بـ ( العوان) علة القوامة، وهذا مخالف للنص الثابت الواضح المومئ إلى العلة المركبة.

والوصف الذي اعتدَّ به ورد عند مسلم بلفظ: (اتقوا الله في النساء، فإنهن عوانٌ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وهو وصف على سبيل المجاز، حيث شبه صلى الله عليه وسلم الزوجة بالأسيرة في سياق التوصية بها، وهو وصف لا يصلح علة من وجوه عدة:

الوجه الأول: أنه خاص بالزوجات، ولا يعم النساء الداخلات تحت القوامة بموجب النفقة التي تمثل أحد أجزاء علة القوامة نصاً.

الوجه الثاني: أن لفظ (عوان) ليس على وجهه، ولابد من تأويله، لأنه إن قصد به أن المرأة أسيرة عند زوجها على وجه الحقيقة فهو مناقض لصريح القرآن (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) البقرة:228، فالأسير ليس له مثل الذي عليه، بل هو مملوك.

وكذا يكون مناقضاً للأحاديث التي خرجت فيها المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطالب بهدم عقد الزوجية، وإن كانت لا تملك سبباً ظاهراً سوى ( لكني أكره الكفر في الإسلام).

فتحصَّل أنه لابد من تأويل (عوان) بأنها سيقت للحض على التلطف بالنساء، وخرجت مخرج وجوب مراعاة شؤونهن، وهذا شائع في كلام العرب، وقد وصف الشاعر أولاده بالأفراخ في مقام استعطاف الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال:

ماذا تَقولُ لِأَفراخٍ بِذي مَرَخٍ       حُمرِ الحَواصِلِ لا ماءٌ وَلا شَجَرُ

أَلقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ       فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ

فقارئ هذا الشعر يفهم أن المقصود الاستعطاف، وليس بيان حقيقة الأبناء، إذ الأبناء ليسوا أفراخاً قطعاً.

وعليه يتخرج وصف النساء بـ ( العوان )، وهو استعمال للعرب في كلامها، لم تزل ولا تزال عليه.

الوجه الثالث: العلة لا تثبت بمجرد الدعوى، بل لابد من إقامة الدليل على كونها علة منسوبة إلى الشرع، ولا أعلم طريقاً يصح به استثمار علة القوامة من وصف النساء بـ ( العوان) لا من جهة النص ولا الإيماء، ولا الإجماع ، ولا السبر والتقسيم، ولا الدوران.

فمن أين أتى صاحب المقال بأن ( عوان) هي علة القوامة؟

يبدو أنه اكتفى بنشوء الفكرة في ذهنه، دون عرضها على محكَّات صناعة العلة الشرعية، وهذا من الافتئات على الشرع بإقامة ما ليس بعلة علةً دون دليل، وهو من باب التحكم واتباع الهوى. وهذا ـ فيما يظهر لي ـ أقوى الوجوه في هدم علية ( عوان ) للقوامة.

سابعاً: قال صاحب المقال: (إذا استغنت الزوجة بوظيفتها عن مال زوجها، وبالقانون عن حراسته، وبالمجتمع الواعي عن عنايته، فحينها يبطل كونها عوان)، وهو قول ساقط الاعتبار بمرة.

فلا أعلم علاقة بين غنى الزوجة ووصفها بـ (العوان)، ولم يزل هناك الصانعة من النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ ومنهن زينب أم المساكين زوج النبي ـ تكتسب وتتصرف في مالها كيف تشاء، ومع ذلك يصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بـ (العوان).

ولا أعلم قانوناً حرس المرأة، ولا مجتمعاً واعياً اعتنى بها كما كان الحال في المدينة المنورة، أيام كان النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، حتى كانت تخرج للصلاة بغلس فلا يتعرض لها أحد، ولكنها لا زالت (العوان).

والشرع جعل النفقة من الحكم التكليفي الواجب على الرجل، وهو آثمٌ إن قصر عن حد الكفاية، وليس لأن الزوجة ضعيفة أسيرة.

فتحصل أنه قد خلط خلطاً عجيباً، فلا الأمور المذكورة تصلح لتعليق حكم عليها، ولا ( العوان ) تحتاج الإبطال.

هذا ما تيسر إيراده وأعان المولى على بيانه

والحمد لله رب العالمين

ينظر مقال : دعوى تعطيل القوامة باستغناء الزوجة هـــنا

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين