القلق : كيف عالجه الإسلام ؟

 بقلم: د.غازي التوبة

رئيس رابطة العلماء السوريين

        يوصف عصرنا بأنه عصر القلق، وهناك أسباب متعددة لهذا القلق ولدتها الحضارة الحديثة وأبرزها التعقيدات الحياتية التي أفرزتها الآلات والتكنولوجيا والمصانع الحديثة، وقد زادت الحربان العالميتان اللتان وقعتا في النصف الأول من القرن العشرين من حجم القلق الذي تعانيه البشرية، ولا شك أنّ الإحساس بالقلق إحساس قديم رافق الإنسان منذ وجوده على ظهر الأرض، لكن حجمه ازداد في العصر الحاضر، والقلق في أجلى صوره هو الخوف من المستقبل والقادم المجهول، فكيف عالج الإسلام القلق عند الإنسان؟
اعترف الإسلام منذ البداية بأنّ الإنسان مفطور على الخوف فقال I: ]إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلوعاً . إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزوعاً . وإذا مَسَّهُ الخيرُ مَنوعاً[ (المعارج،19-21)، وقد أوضحت آيات متعددة خوف بعض الأنبياء في بعض المواقف فذكر القرآن الكريم خوف موسى وهارون -عليهما السلام- من مواجهة فرعون فقال I: ]إنّنا نَخافُ أَيْ يَفْرُطَ علينا أو أنْ يَطْغَى[ (طه،45)، وذكر القرآن في موضع آخر أنّ موسى u يخاف من قتل فرعون فقال I: ]ولهم عَلَيَّ ذنبٌ فأخافُ أَيْ يَقْتُلونِ[ (الشعراء،14)، وقد وضحت آيات أخرى خوف إبراهيم u من الملائكة الذين زاروه في صورة بشر ولم تصل أيديهم إلى الطعام الذي قدمه لهم فقال I: ]ولقد جاءَتْ رُسُلُنا إبراهيمَ بالبُشْرى قالوا سلاماً قال سلامٌ فما لَبِثَ أنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنيذٍ . فلمّا رَأى أيدِيَهُم لا تَصِلُ إليهِ نَكِرَهُم وأَوْجَسَ مِنهم خِيفَةً قالوا لا تَخَفْ إنّا أُرْسِلْنا إلى قومِ لوطٍ[ (هود،69-70)، وقد تحدثت آيات أخرى عن الواقعة ذاتها فقال I: ]هل أَتاكَ حديثُ ضيفِ إبراهيمَ المُكْرَمينَ . إذْ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلامٌ قومٌ مُنْكَرونَ . فراغَ إلى أهلِهِ فجاءَ بِعِجْلٍ سَمينٍ . فقَرَّبَهُ إليهِم قال ألاَ تأْكلونَ . فأَوْجَسَ منهُم خِيفَةً قالوا لا تَخَفْ وبَشَّروهُ بِغُلامٍ عَليمٍ[ (الذاريات،24-28)، وبعدما اعترف الإسلام بفطرية الخوف عند الإنسان، وأنّ كل إنسان لا محالة خائف، عالج الخوف بخطوتين مترافقتين:


الأولى: استحضار واستشعار معية الله I:
ويمكن أن نمثل على ذلك بواقعة أمر الله لموسى وهارون -عليهما السلام- أن يذهبا إلى فرعون لدعوته ومخاطبته في شأن بني إسرائيل، وإجابتهما بأنهما يخافان من بطشه وعدوانه، لكنّ الله أخبرهما بأنّ عليهما ألاّ يخافا من بطش فرعون وألاّ يخافا من تلك المواجهة لأنه -أي الله- معهما يسمع ويرى فقال I: ]قالا ربنا إنّنا نخافُ أَن يَفْرُطَ علينا أو أَن يَطْغى . قال لا تَخافا إنّني معكُما أَسْمَعُ وأَرَى[ (طه،45-46)، وقال I: ]وإذ نادى ربُّكَ موسى أنِ ائْتِ القومَ الظالمينَ . قومَ فرعونَ ألاَ يَتَّقونَ . قال ربِّي إنّي أَخافُ أن يُكَذِّبونِ . ويَضيقُ صَدْري ولا يَنْطَلِقُ لِساني فأَرْسِلْ إلى هارونَ . ولهم عَلَيَّ ذنبٌ فأخافُ أن يَقْتُلونِ . قال كلاّ فاذْهَبا بآياتِنا إنّا معكم مُسْتَمِعونَ[ (الشعراء،10-15)، وقد استوعب موسى u الدرس في مواقف أخرى لذلك عندما خوّفه قومه من متابعة فرعون لهم وإدراكه لهم أخبرهم بأنه مطمئن وليس خائفاً لأنّ الله معه قال I: ]فلمّا تَراءى الجَمْعانِ قال أصحابُ موسى إنّا لمُدْرَكونَ . قال كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدينِ[ (الشعراء،61-62).
الثانية: توجيه القلب إلى الخوف من نار الله I:
طلب القرآن الكريم من المسلم أن يخاف نار الله وعذابه فقال I: ]وقال الله لا تَتَّخِذوا إلَهَيْنِ إثْنَيْنِ إنما هو إلهٌ واحدٌ فإيَّايَ فارْهَبونِ[ (النحل،51)، وقال I: ]ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ[ (الرحمن،46)، وقال I: ]وأمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ونَهَى النفسَ عنِ الهَوَى . فإنَّ الجنّةَ هي المَأْوَى[ (النازعات،40-41)، وقد وردت تفصيلات كثيرة في القرآن الكريم والسنة المشرفة عن الجنة والنار وعن صور النعيم والعذاب فقد جاء عن النار أنّ وقودها الناس والحجارة، وأنّ عليها ملائكة غلاظاً شداداً، وأنها تتميز من الغيظ، وأنها تسأل ربها المزيد من الكافرين، وأنّ شررها كالقصر، وأنّ الكافر يتمنى من شدة عذابها أن يكون تراباً وألاّ يكون قد استلم كتابه ولا عرف حسابه ويتحسر حيث لم يفده ماله ولا سلطانه، وأنّ الكافرين تلفح وجوههم رياح السموم الحارة وأنهم يستظلون بظل لا بارد ولا كريم الخ. . . وقد جاء عن الجنة أنّ فيها حدائق وأعناباً، وأنّ قطوفها مذللة، وأنّ فيها سدراً مخضوداً وطلحاً منضوداً وظلاً ممدوداً، وأنّ فيها حوراً عيناً، وأنّ فيها شراباً طهوراً، وأنّ فيها حريراً وسندساً، وأنّ فيها أنهاراً من لبن وعسل وخمر، وأنّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الخ. . . والمقصود من كل ذلك أن يوجّه المسلم قلبه إلى الخوف من أمر يقيني وهي نار الله I ورجاء أمر يقيني وهي جنة الله I. ومن جهة ثانية على المسلم أن يطرد من قلبه خوفاً موهوماً يوسوس به الشيطان ويثير به مخاوفه على نفسه وماله وولده ومستقبله وصحته ومتاعه الخ. . . قال I: ]إنما ذلكم الشيطانُ يُخَوِّفُ أولِياءَ هُ فلا تَخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمِنينَ[ (آل عمران،175)، وقال I أيضاً: ]الشيطانُ يعِدُكم الفقرَ ويأمُرُكم بالفحشاءِ واللهُ يعِدُكم مغفرَةً منه وفضلاً[ (البقرة،268)، لأنّ ما يصيب المسلم لا يأتي اعتباطاً إنما يكون مقدراً من الله I قبل أن يخلق السماوات والأرض، قال I: ]ما أصابَ مِن مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ مِن قبلِ أن نَبْرَأَها إنّ ذلك على اللهِ يسيرٌ[ (الحديد،22)، وقال I: ]قل لن يُصيبَنا إلا ما كتبَ اللهُ لنا هو مولانا وعلى اللهِ فليتوكّلِ المؤمنونَ[ (التوبة،51)، وفي النتيجة عندما يزرع المسلم في قلبه خوفاً يقينياً من النار وينـزع منه خوفاً موهوماً بسبب وسوسة الشيطان يكون قد ولّد الأمن الذي يطرد القلق.
        وقد وصل إبراهيم u إلى النتيجة السابقة عينها عندما حاور قومه في مشكلتي التوحيد والخوف فحاورهم في مشكلة التوحيد أوّلاً وأثبت لهم خطأ عبادتهم الكواكب ومن ضمنها القمر والشمس لأنها تأفل في حين أنّ الرب يجب أن يكون غير آفل، قال I: ]فلمّا جَنَّ عليه الليلُ رأى كوكباً قال هذا ربي فلمّا أَفَلَ قال لا أُحبُّ الآفلين . فلمّا رأى القمرَ بازِغاً قال هذا ربي فلمّا أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكوننّ من القومِ الضالينَ . فلمّا رأى الشمسَ بازِغةً قال هذا ربي هذا أكبرُ فلمّا أَفَلَتْ قال يا قومِ إني برئٌ مما تُشركونَ . إني وجّهت وجهِيَ للذي فطرَ السمواتِ والأرضَ حنيفاً وما أنا مِنَ المشركينَ[ (الأنعام،76-79). بعد أن انتهى إبراهيم u من إقامة الحجة على قومه بشأن عبادتهم الكواكب، وإعلان تبرئه من ذلك الشرك وتوجهه إلى عبادة الله الخالق للسموات والأرض شرع في إقامة الحجة عليهم ومحاورتهم بخصوص الخوف، وهذا يعني أهمية موضوع الخوف، فأعلن عدم خوفه من آلهتهم المدعاة، ثم تساءل مستنكراً أن يخاف آلهتهم المدعاة، مستنكراً في الوقت نفسه أنهم لا يخافون الله مع اقترافهم ذنب الشرك العظيم، ثم تساءل في نهاية الاستنكار عن الفريق الأحق بالأمن أهو فريق الموحدين أم فريق المشركين؟ قال I: ]وحاجَّهُ قومُهُ قال أَتُحاجُّونِّي في اللهِ وقد هدانِ ولا أخافً ما تًشركونَ بهِ إلاّ أن يشاءَ ربّي شيئاً وَسِعَ ربّي كلَّ شيءٍ علماً أفلا تتذكَّرونَ . وكيف أخافُ ما أَشْرَكْتُم ولا تَخافونَ أنَّكُم أَشْرَكْتُم باللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً فأَيُّ الفَريقَيْنِ أَحَقُّ بالأَمْنِ إن كنتم تعلمونَ[(الأنعام،80-81)، ثم جاء الجواب على تساؤل إبراهيم u عن الفريق الأحق بالأمن في الآية التالية، قال I: ]الذين آمنوا ولَمْ يَلْبِسوا إيمانَهُم بظُلْمٍ أولئك لهم الأمْنُ وهم مُهْتَدونَ[ (الأنعام،82)، لقد ذكرت كتب التفاسير أنه لما نزلت الآية السابقة شق ذلك على أصحاب النبي r وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قاله العبد الصالح: "يا بني لا تشرك بالله إنّ الشرك لظلم عظيم" أي هو الشرك. (رواه أحمد) ويصبح معنى الآية الجواب أنّ الأمن مختص ومقتصر على الذين يؤمنون بالله ولا يخلطون إيمانهم بشرك وذلك بسبب تقديم الجار والمجرور "لهم" وهو متعلق بالخبر المحذوف- على المبتدأ "الأمن" وهذه المعاني التي انتهى إليها حوار إبراهيم u مع قومه تلتقي مع المعاني التي استخلصناها من مواجهة موسى u مع فرعون، وهي أنه للتغلب على الخوف والقلق وللحصول على الأمن لابد من أمرين: إيمان بالله والتخلص من كل أنواع الشرك، وهذا يعني أن يملأ المسلم قلبه بتعظيم الله والخوف من ناره ورجاء جنته واستشعار معيته I من جهة، ويعني أيضاً التغلب على الخوف الموهوم الذي يفرزه الشيطان وأنواع الشرك المختلفة من جهة ثانية.
والأرجح أنّ الأمن عرف طريقه إلى قلوب المسلمين على مدار التاريخ الماضي، ومما يؤكد ذلك أنّ الدكتور عز الدين اسماعيل علّل عدم معرفة المسلمين المسرح في تاريخهم مع أنهم ترجموا معظم التراث اليوناني في الفلسفة والطب والمنطق الخ. . . علّل عدم معرفة المسرح تلك بنفي وجود أية إشكالية لهم مع القدر لأنّ المسرح يزدهر في المجتمعات التي تكون لديها إشكالية مع القدر. ولا شك أنّ حل مشكلة الإنسان مع القدر تأتي نتيجة طبيعة لوجود الأمن والاطمئنان في داخل بنائه النفسي.
        بينا فيما سبق كيفية التغلّب على القلق من خلال وقائع من حياة رسولين كريمين هما: موسى وإبراهيم عليهما السلام، وصدق رسول الله r حيث قال في حديث قدسي: "قال الله U: وعزتي وجلالي إني لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أمنين، من خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، ومن أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة" (رواه أبو نعيم في "الحلية" وابن المبارك في "الزهد" والألباني في "الصحيحة").    

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين