القصيدة الشهيدة

كم من الكلمات تحيا عندما يُحكم عليها بالموت.. وما هي إلا قياس صادق لحرارة دم كاتبها.. وقد تُمنح الكلمات وسام الشهادة تجعلها أكثر استعداداً للحياة..

إنه يحيا من أجل أن يكتب ..

ويكتب من أجل أن يحيا الناس.. ولذلك فهو لا يني يعطي أوراقه من قلبه مدادها كي تنبض بالحياة كما نبض قلبه من قبل..

كان يحمل هموم الدنيا، ومآسيها، وآلامها، ليعبر بها جميعاً من شريانه إلى طرف قلمه، يخط به مواجده، وآماله، وأحزانه من خلال ما تراه عيناه من زيف، وغبن وخديعة .

كثيراً ما ألمحت إليه أمه بخيبته، لأن أوراقه لا تطعم خبزاً، ولا تَعِد أملاً، ولا تبرق حظاً .

كما أنها (أوراقه) كلما كثرت وتعددت تراخى أمل أمه بيوم زواجه. فمن تلك التي تقبل أن تحيا شريكة الهم، ورفيقة الحزن وراء أمته وآمال أمته. كانت أمه تتوجس خوفاً مما يكتب. لأنها ترى محنته عند كل كلمة، وتتساءل بينها وبين نفسها، لماذا يتدخل ولدي في كل قضية وكأنه يُدعى إليها ..؟ وكثيراً ما كانت تدفعه عن غايته كأن تقول له: بأن أباه لم يكن ليرضى أن يعاديه أحد، ومات فقيراً لم يجد إلا قبراً وكفناً، ولم يعد يذكره أحد ما بشر كان أو خير. فلتكن مثله .. وحافظ على ظلك بين الجدران، ولا تدعه يلاحقك في الهجير.

لم يستطع أن يطيع أمه حسب ما تريد، فقد وهب نفسه لكلمة الحق يصدع بها في كل حرف، أفتصده أمه وهي تدعوه إلى باطل !

يجب أن أضيء لأمتي ما يمكنني من اجتياز الظلام .. ويمكنها من هدم الجدران، ولتمش كل الظلال تحت ضوء الشمس لا تخشى الهجير.

تألم مرات عديدة، حينما كان يعلم أن صوته يسكت عمداً، وأن صفحاته الغاليات تزدري بعيداً، كأن ما بها

مجرد إعلان عن زيارة سياحية لمجرة بعيدة..

ليس يجهل أبداً أن الكتاب الذين ينشر لهم يجب أن يكونوا ممن يوقدون البخور عند كل مأساة، حتى لا تزكم الأنوف رائحتها، ولا ترى الأبصار حقيقتها.

كما أنه يعلم أن حملة الأقلام المكرمين، في العهد الميمون، ثلة من الخدم المثقفين، يلمعون الألقاب، ويكنسون النفايات بعيداً عن أنظار المتفرجين .. ويجعلون الضياء ليلاً حالكاً، والظلام - حبيب الخفافيش صبحاً مجلياً وضاء .

ولو علمت بهؤلاء أمه لما تركته يقوم عن كتابته أبداً، وهي تؤزه كي يبني لها ولنفسه مجداً أثيماً، حروفه على الورق تدر ذهباً مُمرّغاً . وتعتصر القوافي أمناً ورغداً.

ولكنها حمداً الله .. لا تعلم من ذلك شيئاً .

كتب قصيدته في ليلة حزينة.. قوافيه تتسابق، تجري بها الحروف من دمه وعصبه متشفعة بإيمانه ويقينه وعزته .

كتبها أم كتبته ؟ لا يعلم ! صاغها أم صاغتها محنته، لا يعلم ! لا يعلم سوى أنها كانت تحمل توقيع الآمال من نفوس الصامتين.

وتشي بنبض المحزونين، وتكسر القوائم الذهبية للعروش تجعلها نعوشاً يزفها المشيعون.

لم تنشر قصيدته صحيفة أنيقة، بيد أنها نشرت ونسخت وطبعت في قلوب الناس سليمة معافاة .. رفعت الناس حيث رفعوها، ونصبت أمانيهم حيثما انتصبت حروفها وتحرك ساكنهم بعفوية فطرية .. وعلموا ما يستوجب الجر فجروه .. وبألسنتهم كسيت القصيدة معانيها ..

وكانت قصيدة.. تبعتها القصائد، تعنو لمعانيه القوافي وتسترسل على سطوره النبضات .

ويوم ماتت أمه ماتت حزينة، لأن ابنها لم يوقع عقود الأمان إذ وهبها له الواعدون . ولم يرض التراجع عن نعشه الفقير، إلى عرش تزيفه القصائد وتكذب لأجله القوافي. والتحمت يوماً مع نفسه روح القصيدة .. فإذا هو محمولاً على الأكتاف شهيداً .وإذا هي ترددها القلوب بين الشفاه شهيدة ..

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين