القسوة اختراع بشري

يعجبني قول الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو: القسوة اختراع بشري؛ فالحيوانات لا تعذب بعضها، لكن نحن نفعل ذلك، نحن الكائنات القاسية الوحيدة على هذا الكوكب.

وهو قول معبر جدا عن هذا الخلق الوضيع الذميم الذي يتنزه الإنسان السوي عن الاتصاف به.

والقسوة غلظ القلب وصلابة الطبع وشدته وجفاف ويبس الروح، وذهاب اللين والرحمة والخشوع منه.

قال الجاحظ: القساوة: هي التهاون بما يلحق الغير من الألم والأذى.

وقال ابن القيم: وأما القسوة فيبس في القلب يمنعه من الانفعال، وغلظة تمنعه من التأثر بالنوازل.

والقرآن الكريم يعزو القسوة إلى القلب في كل الآيات الواردة في هذا الشأن؛ كما في قوله تعالى: ‏‏{‏‏ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏}‏‏‏[‏الحديد‏:‏16‏]‏

فمن هذا يتبين أن أصل القسوة في القلب، وتنعكس آثارها على الجوارح والتصرفات والأفعال.

والكلام عن القسوة واسع مستفيض متعدد الشعب، واخترت أن أكتب عن المعنى الذي أورده الجاحظ وساماراغو وهو إيقاع الأذى وتعذيب الآخرين دون مبالاة أو اكتراث.

وحين نستعرض السنة النبوية الشريفة نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من القسوة، كما روى ابن حبان عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ .... وَالْقَسْوَةِ وَالْغَفْلَةِ وَالذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ. وحدد عليه الصلاة والسلام نوعية الناس يتصفون بالقسوة، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْيَمَنِ ، فَقَالَ : أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ هَهُنَا ، وَإِنَّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدَّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الْإِبِلِ، حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ.

قال سلمان العودة في كتاب أسئلة العنف : هم أصحاب المال الكثير الذين تعلو أصواتهم في خيلهم وإبلهم وحروبهم.

وكأن هؤلاء يتعززون بما يملكون من مال وسلطان وقوة فتشمخ أنوفهم باستكبار على المستضعفين فيصبون جام غضبهم عليهم بقسوة بالغة.

ذكر ابن كثير في تاريخه أنه رُفِع يوما إلى المعتضد قوما يجتمعون على المعصية ، فاستشار وزيره في أمرهم فقال : ينبغي أن يصلب بعضهم ، ويحرق بعضهم .

فقال : ويحك لقد بردت لهب غضبي عليهم بقسوتك ، أما علمت أن الرعية وديعة الله عند سلطانها ، وأنه سائله عنها.

إنها الفرعونية البغيضة القاسية المتوارثة إلى يومنا هذا. قال تعالى: إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (القصص: 4)

أرأيت للإنسان ينفخ بطنه ** حتى يصير كهيئة البالون

أرأيت للإنسان يجلد ظهره ** حتى يقول أنا المسيء خذوني

ومن هؤلاء الذين جبلوا على القسوة كما ذكر الذهبي في السير أن ابْن الزَّيَّاتِ - وهو مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ بنِ أَبَانٍ - قال: مَا رَحِمتُ أَحَداً قَطُّ، الرَّحْمَةُ خَوَرٌ فِي الطَّبعِ. فعاجله الله في العقوبة فَسُجِنَ فِي قَفَصٍ حَرِجٍ، جِهَاتُه بِمَسَامِيْرَ كَالمَسَالِّ، فَكَانَ يَصِيحُ: ارْحَمُونِي.

فَيَقُوْلُوْنَ: الرَّحْمَةُ خَوَرٌ فِي الطَّبِيعَةِ.

ومن عجب أن داء القسوة انتقل إلى فئات من المسلمين – وهم الذين رباهم دينهم على الرقة واللين في كل تعاملاتهم .. وقد شخَّص الشيخ محمد الغزالي رحمه الله سبب هذا الداء تشخيصا دقيقا كما قال: وقد رأيتُ في تجاربي أنّ الفرق بين تديّن الشكل وتديّن الموضوع هو قسوة القلب أو رِقّته.

وإنه لمن المؤسف والمحزن حقا أن تشيع القسوة بين العلماء والدعاة، وهم القدوات الذين يتأسى الناس بهم، فيقسو بعضهم على بعض إن بالقول أو بالفعل أو بالتحريض، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق توصيف الغزالي لهم.

وانعكست هذه القسوة على القضايا المتجددة كل عام كذكرى المولد النبوي بين مؤيد ومعارض بقسوة، والفتاوى والأحكام كصدقة الفطر هل نخرجها عينا أم بالقيمة فنرى المعارك القاسية التي يخوضون غمارها، وهي كلها من مسائل الخلاف التي جعل الله فيها مندوحة ومتسعا وتيسيرا للأمة .. أليس من الأجدر والأتقى أن توفر هذه الجهود لجمع شتات الأمة وانتشالها من وهدتها وتشرذمها وضياعها، والاشتغال بهذه الأحكام الفرعية إن دل على شيء فإنما يدل على ضياع فقه الأولويات، والاشتغال عن بالقضايا الجزئية عن قضايا الدعوة.

في مجال الأسرة الواحدة تشيع القسوة بين الزوجين، فقد يكون الزوج فقيرا فتقسو عليه زوجته بطلباتها التكمليلة والتحسينية وترهق كاهله في أمر النفقة، والزوج كذلك يقسو على امرأته بتحميلها ما لا تطيق زيادة على مسؤولياتها في تربية الأولاد ورعايتهم ، مع أن الأصل في الحياة الزوجية المودة والرحمة، روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ العَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ اليَوْمِ.

فإذا ما دبَّ الخلاف بين الزوجين ووقع الطلاق لا يكون التحاكم كما أمر الله: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ؛ بل نجد التعنت والقسوة وعضل الزوجة إن أرادا إصلاحا، وقل مثل ذلك في حضانة الأولاد بعد فراق الزوجين.

القسوة في تعامل الوالدين مع أولادهم أو تعامل الأولاد مع آبائهم

قال بهاء الدين زهير

أَراكَ عَلَيَّ أَقسى الناسِ قَلْبًا ... وَلي حالٌ تَرِقُّ لَهُ القُلوبُ

حَبيبٌ أَنتَ، قُل لي، أَم عَدُوٌّ؟ ... فَفِعلُكَ لَيسَ يَفعَلُهُ حَبيبُ

القسوة في تصرفات المدير مع الموظفين.

القسوة على الخدم وهم الجانب الضعيف وإيقاع النكاية بهم بقسوة، والإسلام قد وصى بالرفق في التعامل وعدم تحميلهم ما لا يطيقون، روى مسلم عن أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ رضي الله عنه كُنْتُ أَضْرِبُ غُلامًا لِي بِالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ. فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ. فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ. فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي. فَقَالَ: اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلامِ. فَقُلْتُ: لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا

وفي رواية له: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. فَقَالَ: أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ.

وروى الترمذي عن عبدِ اللهِ بنِ عمر قال: جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ كمْ أعفُو عن الخادمِ؟ فَصَمتَ عنهُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وسَلَّم، ثُمَّ قال: يا رسولَ اللهِ كمْ أعفو عن الخادِمِ؟ قال: كلَّ يومٍ سبعيَن مَرَّةً.

وروى مسلم .. مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِن الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوا: حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ. فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا

الأنباط: فلاحو العجم

وذكر أبو نعيم في الحلية أن عَامِر بْن عَبْدِ اللهِ: مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ أَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَهُوَ يَجُرُّ ذِمِّيًّا، وَالذِّمِّيُّ يَسْتَغِيثُ بِهِ، فَأَقْبَلَ عامر عَلَى الذِّمِّيِّ فَقَالَ: أَدَّيْتَ جِزْيَتَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا تُرِيدُ مِنْهُ؟ قَالَ: أَذْهَبُ بِهِ يَكْسَحُ دَارَ الْأَمِيرِ، فَأَقْبَلَ عَلَى الذِّمِّيِّ فَقَالَ: تَطِيبُ نَفْسُكَ لَهُ بِهَذَا؟ قَالَ: يَشْغَلُنِي عَنْ ضَيْعَتِي، قَالَ: دَعْهُ، قَالَ: لَا أَدَعُهُ، قَالَ: دَعْهُ، قَالَ: لَا أَدَعُهُ، فَوَضَعَ كِسَاءَهُ ثُمَّ قَالَ: لَا تُخْفَرُ ذِمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا حَيٌّ، ثُمَّ خَلَّصَهُ مِنْهُ.

أسباب القسوة

- فقدان الشعور بإنسانية الإنسان، فلو كان القلب يشعربألم من تقسو عليه لما صدرت منا القسوة ، وهذا مردُّه للغفلة عن ذكر الله وعدم اللجإ إلى التضرع والاستكانة، فالتضرع يستدر دموع الخشية والإنابة فيرق القلب، تأمل قول الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . [الأنعام:42-44]

- – نقض العهود والمواثيق بين العبد وربه، وبينه وبين الناس، وهذ إن دل على شيء فإنما يدل على عدم المبالاة فتتجذر القسوة . فعن ابن الجوزي: أنهُ وَعظ يومًا فقال: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً، فإن اللّه تعالى يقول: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُم لَعَنَاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة.

- وقال مالك بن دينار : ما ضرب الله عبدا بعقوبة أعظم من قسوة القلب.

- نسيان ذكر الله، والنأي عن مجالس الذكر، فالذكر إنما شرع ليبقى الإنسان موصولا بربه فتزول القسوة، شكا رجل إلى الحسن البصري قسوة في قلبه فقال له: أذبه بذكر الله. ووصف أحمد بن الحواري الدمشقي الترياق الشافيلذها الداء: إذا رأيت من قلبك قسوة فجالس الذاكرين واصحب الزاهدين.

- - الغفلة عن الموت والوقوف بين يدي الله ونسيان الآخرة، فهذا الربيع بين خيثم - حفر في داره قبرا فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع فيه ومكث ساعة ثم قال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، ثم يقول: يا ربيع؛ قد أُرجعت فاعمل الآن قبل أن لا ترجع.

- ولعل الأمر الخطير أن القسوة عقوبة فكل العقوبات جعلها الله طهارة سوى القسوة قال سهل بن عبد الله: كل عقوبة طهارة؛ إلا عقوبة القلب فإنها قسوة.

- والعلاج هو إدامة تدبر كتاب الله والتمعن في سنة النبي وتعاهد القلب والتفتيش عن علله وأدوائه ومنها ما روه أحمد عن أبي هريرة بسند حسن أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين.

إن أصحاب القلوب القاسية بعيدون عن الله ممقوتون من الخلق مستحقون لغضب الله، والقلوب اللينة الرقيقة هي آنية الله في الأرض لقيامهم بحقوق الله وحقوق الناس، روى الطبراني بسند حسن عَنْ أَبِي عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيِّ يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ آنِيَةً مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَآنِيَةُ رَبِّكُمْ قُلُوبُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَأَحَبُّهَا إِلَيْهِ أَلْيَنُهَا وَأَرَقُّهَا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين