القرآن يعرض نعم الله على عباده

 

قال الله تعالى في كتابه الكريم: [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(7) وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ(10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(18) ]. {النحل}.

هذه آيات من الذكر الحكيم، عَرَضَ الله فيها لأنواع من النِّعَم فعدَّدها وبيَّنها وفصَّلها، في عرض بديع، ونَسَق جميل، وكأني بهذه الآيات وقد حشدت هذا العدد الجم، من الآلاء والنعم، في مَعْرِضٍ نظمته يدُ القدرة الإلهيَّة، ونسَّقته عوارفُ المعارف الربانيَّة، وجاءت به الدعوة المحمديَّة، فبهرت العيون، وشرحت الصدور، والتفت إليه العالم كله مُصيخاً لهذه الآيات البيِّنات ومُتفكراً في هذه النعم المتواليات، التي تفضَّل بها خالق الأرض، وبارئ السموات، ومفيض الوجود على كل موجود، ومعطي الرزق لكل مرزوق، وأتقن كل شيء خلقه، وأبدع لكل مصنوع صنعه: [صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ] {النمل:88} فأقام بهذه الآيات البيِّنات، وتلك النعم المتواترات، أدلة كونيَّة، وبراهين صادقة، على أنَّه مُتصف بالألوهية، والقدرة والوحدانية والعلم بكل ما يجري في السر والعلن: [أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] {الملك:14}. 

وبهذا أقام الله تعالى ضَميراً يُراقب ويحاسب، ويُعاتب ويُعاقب، ويأمر وينهى، في قلب كلِّ مُؤمن وحَّد ربَّه، ووصفه بصفات الكمال، والجمال والجلال كما نطقت بذلك هذه النعم، وما أشارت إليه من المواعظ والحكم.

فيا عجباً كيف يُعصى الإلـــ       ــــه وكيف يجحده الجاحد؟

وفي كل شيء له آيـــــــــة        تـدل عـلى أنـه الـواحــــد

فهذه النعم هي آثارُ الله الدالَّةُ عليه، وأبواب المعرفة الموصلة إليه، وأسباب الإيمان المقبول لديه، وهي مع ذلك موجبات للشكر، وداعيات الفكر، وتستوجب منا الحمد والثناء، وتستحثنا على مُراقبته والخوف منه والحياء.

وإذا كانت العين تستحي ممن أطعم الفم، كما جاء في بعض الحِكَم فكيف لا يستحي من الله الإنسان، وهو مومن بأنَّه المنعم المنَّان، وعالم بأنَّه مُفيض الخير والإحسان، ونعمه على عباده لا تحصى، وأفضاله عليهم لا تُستقصى، ولهذا قال شيخ المتصوفة أبو القاسم الجنيد: رؤيتك آلاء الله والنعم، ورؤيتك تقصيرك وفتور الهمم، يتولَّد بينهما حالة تسمَّى: الحياء. والحياء من الله داعٍ لكل خير، ناهٍ عن كل شر.

وكذلك تستوجب منَّا هذه النعم لله الشكران، لا الجحود والكفران، وشكرُ الله على هذه النعم يحفظها ويُبقيها ويزيدها وينميها قال الله تعالى: [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] {إبراهيم:7}. 

وشكرُ الله على هذه النعم يكون بصرفها واستعمالها في جهة يرضاها سبحانه، وهي الجهة التي خلق الله هذه النعم لأجلها، ومعرفة هذه الجهة أمر عَسير، يرتدُّ عنها البصر خاسئاً وهو حسير، ولهذا أرسل الله الرسل وسهَّل بهم الطريق على الخلق، ومعرفة ذلك تنبئ بمعرفة جميع أحكام الشرع، كما قال الإمام الغزالي، وبالنظر بعين الاعتبار والتفكر إلى هذه النعم يدرك الإنسان حكمة الله تعالى في كل موجود خلقه، إذ ما خلق شيئاً في العالم إلا وفيه حكمة، وتحت الحكمة مقصوده سبحانه، قال الله تعالى: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ] {المؤمنون:115}.

وهذه الحكم على كثرتها وتعدُّدها قد تكون جليَّة كالعلم بأنَّ الحكمة في خلق الشمس أن يحصل بها الفرق بين الليل والنهار، فيكون النهار مَعاشاً، والليل لباساً، فتتيسر الحركة عند الإبصار والسكون عند الظلام.

وقد انطوى القرآن الكريم على جملة من الحِكَم الجليَّة التي تعقلها الأفهام دون حاجة إلى إطالة نظر أو إجالة فكر.

فقال عن الأنعام وهي البقر والغنم والإبل، أنَّه خلقها لتستدفئوا عند البرد بأصوافها وأوبارها وأشعارها فتتخذون من أصواف الغنم وأوبار الإبل وأشعار البقر أغطية وأكسية، وبيوتاً وأخبية، ومن جلودها خياماً تستصحبونها عند الحِلِّ والترحال والإقامة والظعن، وتنسجون من خيوطها ملابس للزينة.

وتستكثرون بها أموالكم بالنسل والتوالد وإدرار الألبان، وقد أحلَّ هذا المنعم المتفضِّل لحومها بعد نحرها، كما أحلَّ ظهورها للركوب والانتقال، وحمل الأثقال في الأسفار إلى ما شئنا من بلاد وأقطار، وكَمْ جعل الله تعالى في الجِمَال من جَمال، تغَّنت به الشعراء، واتخذه أهل الفن مقاييس ومعايير لوزن الجمال ودرجاته، وتقدير الحسن والمفاضلة بين أنواعه، ولا يزال الناس إلى اليوم يشبهون المرأة الجميلة بالناقة، والرجل الكريم الخلق السلس القياد بالجمل، وأنَّ في قنية هذه الأنعام، والاستكثار من هذه النعم، ما يشيع في النفس حب التملك وما يهيج في النفس السرور بالملكية والفرح بالحريَّة التي تبيح للفرد أن يملك وأن يتمتع بما آتاه الله من فضله وبما أنعم عليه به من ماشية وأنعام له فيها جَمال، وله فيها لذَّة ومتاع حين يروح بها إلى مراحلها عند الهجير أو الغروب، وحين يسرح بها إلى كلئه المباح في الغدو والآصال.

أليس هذا الفضل والإحسان وذلك الإنعام والامتنان، أهلاً لأن يقابل بالشكران، والتسبيح والتقديس، لواهب هذه النعم، وبارئ تلك النَّسم، بكرة وعشياً وغدواً ورواحاً.

ولقد بيَّن الله تعالى فيما بيَّن من فوائد الأنعام أنها خُلقت كأداة من أدوات الانتقال وكوسيلة من وسائل الترحال، إلى بلد لم تكونوا بالغية إلا بشق الأنفس، وتلك رأفة ورحمة من الرب الرؤوف الرحيم، وقد قفَّى الله تعالى على ذلك ببيان نِعم أخر أنعم الله بها على الإنسان لهذه الحكمة عينها إلا أن هذه أسرع حركة وأقوى مضاء، وأشد عدواً فقال: [وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {النحل:8}. 

وفي قوله تعالى: [وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]. إشارة واضحة صريحة إلى ما استُحدث من سيارات وعجلات وطائرات وإلى ما سيخترع من وسائل أخرى للنقل والحركة. 

إنَّها قدرة الله التي لا تقف عند حد، وإنَّها لنعم الله الكبرى التي لا يحيط بها عد، سبحانك يا مولاي لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، أنت الموفق وأنت المعين، وأنت القادر، القاهر، وفَّقت من تشاء لما تشاء: [وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] {النحل:9}.

فالله هو الخالق لكل شيء، الفاعل لك شيء، الهادي إلى صراط مستقيم فلا تحول ولا حركة، ولا انتقال من مكان إلى مكان، ولا قدرة ولا قوة، ولا استطاعة على ذلك بحال من الأحوال، إلا بالله العلي العظيم، فالحركة والسكون بيده سبحانه، والكل في قبضته، وأمره بين الكاف والنون، فإذا قال للشيء كن فيكون، ولكنه ربط الأسباب بالمسببات، وأجرى الأمور على يد من باشرها من المخلوقات، فالمحجوبون عن الله تعالى يزعمون أنَّها من عند غيره، والمؤمنون يقولون: [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {آل عمران:7-8}.

ومن النِّعم التي أنعم الله بها على عباده، الماء الذي أنزله من السماء، يروي به النفوس بعد ظمأها، ويحيي به الأرض بعد موتها، فبعد أن كانت قاحلة ماحلة جرداء جدباء، كساها الله بالماء سندساً أخضر تأكله أنعامكم، وترعاه دوابكم.

فمن الماء تشربون: [وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ] {النحل:10}، ويصبه الله تعالى على الأرض صبَّاً، فتنبت به للناس زيتوناً ونخلاً وعنباً، سبحانه ما أعظم شأنه وما أقوى حجَّته وبرهانه، ماء واحد ينزل على بُقعة واحدة من الأرض، فتنتج أشجاراً متنوعة وثماراً مختلفة، في اللون والشكل والحجم، فهذا نبات أخضر وذاك زيتون أسود، و ذلك نخل باسق، وهذه أعناب معروشات، وثمر النخل من الأخضر والأحمر والأصفر والأسمر، ومن العنب الأبيض والأسود، وفي اختلاف الألوان والأشكال مع اتحاد الماء والتربة والزمان والمكان دليل على صانع مختار وفاعل مُتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يعجزه شيء في السموات و لا في الأرض وفي هذه النباتات المختلفة وهذه الثمار المتباينة في اللون والطعم والشكل دليل كوني وبرهان جلي على وحدانية الله القوي.

فقد قيل لأعرابي كيف عرفت الله تعالى فقال: وجدتُه يخرجُ من الأرض النبات الأخضر فتأكله الدودة الصغيرة، فتخرج منها خيوط الحرير مختلفة الألوان والمقادير فعلمت أن ذلك لا يحدث إلا بتدبير صانع على كل شيء قدير.

 وصدق الله إذ يقول: [يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {النحل:11}. كما يقول سبحانه: [وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ] {النحل:13}. 

فلا شك أنه سبحانه ساق هذه الآيات البينات، دلائل واضحات على وحدانيته تعالى وقدرته، لمن يتفكر ولمن هو أهل لأن يتذكر، فويل لمن قرأها ولم يتفكَّر في الخالق الذي خلقها، والمبدع الذي أبدعها، وقد انتقل الله تعالى مُرتقياً بالمفكرين من عالم الأرض إلى عالم السموات، ففتح أعينهم على ما أنعم به عليهم من فوقهم فقد سخَّر اللهُ للإنسان الشمس والقمر دائبين في الحركة لا ينقطعان عن السير فيمدانه بالحرارة والنور والأشعة النافذة والقوة الجاذبة، وكذلك النجوم أوجدها الله تعالى للإنسان مسخرات بأمر الرحمن، لا يسير الكواكب السيار ولا يدور الفلك الدوار، ولا يتلألأ النجم إلا بقدرة الواحد القهار، لحكم كثيرة تخفى لدى الفكرة العابرة، وتختفي عند النظرة القاصرة، استأثر اللهُ بعلمها، فما نحيطُ بشيء من علمه إلا بما شاء.

فالكواكبُ والنجومُ ما خُلقت عبثاً بل فيها حكم كثيرة لا تحصى، ولهذا نظرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ قول الله تعالى: [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] {آل عمران:191}. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ويل لمن قرأ هذه الآية ثم لم يتدبر). 

فمن قنع من النظر في ملكوت السموات على أن يعرف لون السماء وضوء الكواكب دون الوصول إلى الإيمان بالصانع وبديع صنعه، فهو لاهٍ غافل، فلله تعالى في ملكوت السموات والأرض عجائب يجب معرفتها ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً، ومن قديم استدلَّ سيدنا إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام بالشمس والقمر والنجوم، على أنَّها خلق الله الذي لا يتغيَّر بينما هي مُتغيرة ينالها الأفول والتحوُّل والتغيُّر، وقد استدلَّت أعرابية على وجود الله فحاجَّت أعرابياً ينكره ويؤمن بالكواكب فقالت له: (أتؤمن بالكواكب وتكفر بمكوكبها) [فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {البقرة:258}، ولم يلبث أن ثاب إلى رشده وآمن بربه الذي كوكب الكواكب ووهبها النور الثاقب، وصدق الله إذ يقول: [سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] {فصِّلت:53}.

فها هو القرآن يدعونا إلى النظر في ملكوت السموات والأرض، وقد قام الأولون من سلفنا الصالح فرصدوا الكواكب والنجوم، ورسموا الأفلاك والمدارات، وعدوا البروج، وضبطوا حساب الليل والنهار، وصنعوا لذلك الضوابط من المزاول والساعات، وحازوا قصب السبق في اختراع هذه الآلات، وقد أهدى هارون الرشيد ساعة دقاقة إلى شرلمان ملك الإفرنج فدهش وتعجب وتحيَّر.

فهل لخلف أولئكم السلف أن يجِدّوا في اللحاق بآبائهم، مُهتدين بنور الله مُستظلين بلواء القرآن، الذي قال الله فيه: [مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] {الأنعام:38} فقد فتح آفاقاً للبحث جديدة، ما كانت لتحدث لولا أن أخذ بيد المسلمين إلى ميادين البحث والاختراع.

انظر إلى القرآن يغوص بك بين اللجج، ويسبح بك في أطواء المحيط ليطلعك على ما يحتويه من نعم، وليضع يدك على ما يزخر به من ثروة مائيَّة عظيمة وليرشدك على مِقدار قوَّة المياه الدافقة أو الدافعة، حتى تنتفع بذلك كله فقد جعلك الله خليفة له، سخَّر لك العالم العلوي، والعالم السفلي، وفي العالم العلوي الشمس والقمر والنجوم وفي العالم الأرضي البر والبحر وفي البر الحيوان والنبات والزرع والثمرات، وفي البحر الأسماك وما أكثرها واللآلئ والمرجان وما أحسنها، ثم هو أيضاً طريق مُعبَّد للتجارة وقد فطنت لذلك الأمم فاستخرجت منه لحوماً طريَّة تأكلونها كما استخرجت حلية جميلة تلبسونها، وترى الفلك مواخر فيه كل ذلك لتبتغوا من فضل الله ولعلكم تشكرون.

ولم يشأ اللهُ تعالى أن يقف عند هذا الحد في تعداد نعمه على عباده بل وإلى السرد والعد لعله يشكر، ويؤمن فلا يكفر، فعرَّفنا سبحانه أنَّه هو الذي ثبَّت الأرض ليحيا عليها خليفته فلا تميد ولا تميل ولا تنقلب في حركتها وذلك بالجبال الراوسي، وسلاسلها الثوابت وما أكثر ذلك بجوار المحيطات والأنهار، حتى لا تنكفئ اليابسة بما عليها في الماء وأنهاره وبحاره، وما هذه الأنهار وما تلك البحار إلا سبل فاسلكوها، وطرق فاطرقوها، ولا تهابوها وخذوا من النجم هادياً، ومن التيارات المائيَّة والمحركات الهوائيَّة علامات لعلكم تهتدون.

هذه آثار القدرة الظاهرة وصنعة القوة القاهرة، وخلق الإرادة الباهرة: [هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ] {لقمان:11}، فكيف يعبد من يموت؟!، وكيف يؤله من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا خيراً ولا شراً؟!: [أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ] {النحل:17}.

وهذه نعم الله التي أولاكم إياها، وهي قليل من كثير، وغَيض من فيض، وقطر من بحر، أعلمكم الله ببعضها اختباراً وأمسك عن بعضها اقتداراً، حتى يثبت لكم قصوركم وعجزكم أنى شئتم، ويثبت له العلم والقدرة أنى شاء سبحانه.

وقد غفر لكم وعفا عن تقصيركم عن القيام بكامل شكره، وعجزكم عن الإحاطة بجميع نعمه وهذا تفضل آخر وإنعام أكبر: [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] {النحل:18}.

وقد فصَّل الله تعالى في سورة النحل بعد ذلك ما أجمله في هذه الآيات من النعم فبيَّن العبرة الناطقة بعظيم قدرته في خروج اللبن من بين الفَرْث والدم، وما ألهمه للنحل في صنع بيوتها على صورة هندسيَّة بديعة، وأنه يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، وأنَّ الناس يتخذون من ثمرات النخيل والأعناب سَكَراً ورزقاً حسناً، وفي مقابلة السَّكَر بالرزق الحسن ما يفيد أنَّ السَّكَر ليس رزقاً حسناً، وقد نطق القرآن الكريم بالنهي عنه لما فيه من أضرار فصَّلتها الآيات القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة.

نسأل الله أن يُوفقنا للعمل بدينه وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة منبر الإسلام، السنة السادسة، جمادى الأولى 1368 - المجلد 3).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين