القرآن عربي الخطاب إنساني الرسالة

مناسبات عديدة تجعل هذا الموضوع من موضوعات الساعة، علىٰ أنَّ القرآن هو القديم الذي لا تبلىٰ جِدَّتُه ولا تزول على الأيام نضارتُه. وأولىٰ هذه المناسبات أن شهر رمضان يُعيد ذكرىٰ تنزل الكتاب الكريم حين كانت تتنزل آياته غضَّة علىٰ قلبِ الرسول العظيم صلوات الله عليه وتنتقل إلىٰ نفوس أصحابه فتفعلُ فيها فعل السحر إلىٰ أن انتهت إلىٰ ثورة كبرىٰ في العقائد والمفاهيم والقيم والنظم.

وثاني هذه المناسبات أن العرب في هذا العصر بعد أن مروا بمراحل اليقظة والوعي لأرضهم ثم لقوميَّتهم وصَلوا إلىٰ المرحلة التي يتحررون فيها كذلك من نفوذ المبادئ الأجنبية من ديمقراطية الرأسماليين المزعومة إلىٰ مادية الشيوعيين، وبذلك بلغوا مرحلة الوعي لمبادئهم وأصبحوا بحاجة لملء الفراغ الحادث بطرد الأفكار والفلسفات الأجنبية. وإنهم اليوم على مفترق الطرق يخشى عليهم العِثَار إذا لم يسْتَقُوا من النَّبع الأصيل الذي التقت فيه فطرتهم الإنسانية ووحي السماء أو فيض القدرة الإلهيَّة التي تجلَّت في الكتاب العربي المعجز. ولكن بيننا وبين الكتاب العربي المبين حجباً كثيفة بنتها العصور والعادات والأفهام الغريبة حتىٰ أصبح الكتاب الذي أقام في العالم ثورة شاملة لجميع نواحي الحياة أوراداً تتلىٰ وألفاظاً تلتمس نتائجها بمجرد التلاوة.

ولنستطيع فهم القرآن فهماً عميقاً يتجاوب مع نفوسنا يجب أن نبعث الجو العربي الذي نزل فيه ونتقمص نفسيَّة العربي القديم ونقف حيث وقف ونعيد التجربة حيّة في نفوسنا، لا أقصد تجربة الوحي فقد انقطع الوحي بانتقال الرسول الكريم صلىٰ الله عليه وآله وسلم، ولكن تجربة التلقي والتجاوب النفسي لتكون تجربة حيَّة، إن هذه التجربة يجب أن تبدأ منا ثم تنتقل إلىٰ غيرنا لأن القرآن نزل بلغتنا.

إن تميز الأمم بالأرض أو العِرْق لم يعد مميِّزاً يتناسب مع ارتقاء الأمم وتقدمها وسيرها نحو الإنسانية ولم يعد مقبولاً من الوجهة الأخلاقية وهو تميّز أقرب إلىٰ الابتدائية. أما المميِّز الحقيقي فهو الروح المعنوية والصيغة الإنسانية والمبدأ والعقيدة؛ ويقاس رقي الأمم بمقدار ما تحقق في نهضتها من مبادئ إنسانية وبمقدار اتساع مداها الحيوي في المجال الإنساني وبمقدار تقدمها نحو الهدف الإنساني. فإذا أردت أن تقارن بين الروس والأمريكيين والانكليز والعرب فقارن بين الفهم المادي الجاف للروابط الإنسانية في الماديَّة الماركسيَّة والسلوك النفعي العملي للديمقراطية الأمريكية والاستعلاء العنصري المستخفي وراء الديمقراطية البريطانية والمثالية الإنسانية المتجليَّة في الإسلام كما فهمه العرب ودانوا به.

إن العرب يرون في القرآن المنبع الأصيل والمنهل الصافي ومجمع القوىٰ المختزنة الكامنة التي تفجر في أنفسهم إنسانيتهم وتبعث روح الجهاد في سبيل تحقيقها ولذلك كان دوماً هدف الشعوبيين أعداء العرب والمبادئ الإنسانية، وكانت خطتهم في العصور القديمة، وفي عهود الاستعمار الحديث إقصاء العرب عن القرآن ومفاهيمه وتغطية ذلك بستار العلمانية أو التقدمية أو التحرر، ولكنه التحرر من الذات والانسلاخ من الجِلْد، وانتحار الإنسان بيده. ذلك أنَّ القرآن بالنسبة إلىٰ العرب معدن الأصالة ومصدر التجديد المتصل بالماضي والمستند إلىٰ الإنسانية الصحيحة والمستمد من مصدر الوجود.

لقد كان للقرآن ولا يزال أثر عالمي ولذلك فإنَّ العودة إلىٰ فهمه فهماً صحيحاً وإعادة تجربته النفسية سيكون لها من جديد تأثير عالمي وسيكون لذلك أثر حاسم في تاريخ الحضارة ونتيجة هامة في صراع المبادئ والمذاهب وهذا الدور إنما يقوم به العرب أنفسهم وهم أقوى من غيرهم على القيام به كما كانوا بالأمس. وإن منعهم عن القيام بهذا الدور الحاسم وفصلهم عن تجربتهم القرآنية الحيَّة، إن كان من الداخل فهو خيانة قوميَّة، وإن كان من الخارج فخيانة للإنسانية وتقدمها.

إنَّ دور العرب في فهم القرآن وتفهيمه ومسؤوليتهم في ذلك تأتي من كون القرآن عربي اللغة والخطاب. وأثر القرآن العالمي ودوره في توجيه الحضارة وربط الأمم بعضها ببعض يأتي من كونه إنساني المبادئ والتعاليم، ولذلك كان من الضروري ليعود القرآن إلىٰ القيام بدوره في حياة العرب أولاً وفي العالم ثانياً فهم هاتين المسألتين:

 

1 - القرآن عربي الخطاب

ونقصد بذلك أنه عربي في لغته وطريقة خطابه، لا أنه توجه في خطابه إلىٰ العرب وحدهم. فقد وصِف القرآن بكونه عربياً في عدد كثير من الآيات:

﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا...﴾ [طه: 113]﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: 3]، ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3]، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الشورى: 7].

ومعنى ذلك أن القرآن من حيث ألفاظه وتراكيبه، ومن حيث أساليبه البيانيَّة وطرائقه في التعبير عن المعاني يسلك مسلك العرب. ولذلك كان الاعتماد في فهمه على لغة العرب وعلى طريقتهم في أداء المعاني في كناياتهم ومجازاتهم واشاراتهم وقصصهم وأمثالهم والاعتماد في تفسيره إنما يكون على الفهم العربي.

 

قال الامام الشاطبي في كتاب الموافقات: «إن القرآن نزل بلسان العرب علىٰ الجملة فطَلَبُ فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصَّة لأن الله تعالى يقول: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف: 2] ) وقال: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 195] وقال: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103]، فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهم ولا سبيل إلىٰ تطلب فهمه من غير هذه الجهة».

وقال أيضاً: «إنه أنزل علىٰ معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها». وقال «إنه لابدَّ في فهم الشريعة من اتِّباع معهود الأميين وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة» [ج 2 ص64].

ويتضمن عنصر اللغة هذا ألفاظ اللغة ومفرداتها، وللألفاظ في كل لغة مدلول ومفهوم يتَّصل بحياة أهلها، ويعجبني قول أحد علماء الهند في تحديد مفهوم (الحق) و(الصبر) عند العرب في تفسيره لسورة العصر حيث قال:

«واعلم أن الصبر عند العرب ليس من التذلل في شيء كما يصبر المضطهد العاجز بل هو أصل القوة والعزم وكثر في كلام العرب استعماله بهذا المعنىٰ قال حاتم الطائي:

وغمرة موت ليس فيها هوادة ** يكون صدور المشرفي جسورها

صبرنا له في نهكها ومصابها ** بأسيافنا حتى يبوخ سعيرها

وقال الأصبغ:

يا ابن الجحاجحة المداره ** والصابرين على المكاره

وهذا كثير وفي القرآن بيِّن معنىٰ الصبر حيث قال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ [البقرة: 177]، فذكر من مواطن الصبر الفقر والمرض والحرب وذلك أصول الشدائد وكذلك الصبر عند نزعات النفس على أذىٰ الناس كما مرَّ بك في قوله تعالىٰ: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ﴾ [الشورى: 43]. [كتاب إمعان في أقسام القرآن لعبد الحميد الفراهي].

وتشمل اللغة التراكيب وأنواع التعابير والصور وهذه يجب أن تفهم كذلك فهماً عربياً فلكل لغة تراكيبها الخاصة ولكل أمة تشابيهها وصورها ومجازاتها ومقاصدها في كلامها؛ وكثيراً ما أدىٰ سوء فهم التعابير العربية والتشابيه والمجازات في عصور الفهم الأعجمي للقرآن إلىٰ مذاهب منحرفة وتأويلات باطلة أخرجت القرآن عن نهجه القويم وفهمه العربي الصحيح.

ذلك أن اللغة تخفي وراءها عادات أهلها والصور التي ألفوها والمفاهيم التي تصوروها ولذلك كان من وسائل فهم القرآن الضرورية كما قال الشاطبي: «معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل» ويقول الشاطبي موضحاً ذلك ببعض الأمثلة: قوله تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم}، وقوله: {أأمنتم من في السماء}، وأشباه ذلك إنما جرىٰ على مُعتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة»[ج 3 ص351].

ويستنتج من ذلك أن كل معنىٰ مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء» [ج 3 ص390]، وحينما يناقش التفسير بالرأي ينتهي إلىٰ القول بجوازه بشرط العرب وموافقة الكتاب والسنة ويعقب الشاطبي ذلك بذكر أمثلة من التفسيرات الباطنية التي خرجت عن الفهم العربي للقرآن.

ولذلك يجعل مصادر تفسير القرآن السنة وتفسير السلف الصالح إن لم توجد السنة «فإنهم أعرف به من غيرهم وإلا فمطلق الفهم العربي لمن حصله يكفي فيما أعوز من ذلك» [ج 2 ص71 و78].

وليست اللغة العربية من حيث مفرداتها وتراكيبها وحدها هي مصدر تفسير القرآن بل إن معرفة عادات العرب وبيئتهم التي كانوا يعيشون فيها ضرورية لفهم الكثير من آيات القرآن، فعاداتهم وأحكامهم قبل الإسلام منها ما أقرَّه القرآن ومنها ما أبطله ونهىٰ عنه.

قال الشاطبي: «إنَّ العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق واتصاف بمحاسن شيم فصححت الشريعة منها ما هو صحيح وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل»، «وكان للعرب أحكام عندهم في الجاهلية أقرَّها الإسلام» [ج 3 ص369].

هذا وقد تضمن القرآن أمثلة توضِّح مبادئه العامة وشواهد تبيِّن قواعده الكليَّة وبراهين تؤيد عقائده وقد روعي في هذه الأمثلة والشواهد والبراهين أن تكون مما يألفه العربي ويفهمه.

 قال الشاطبي: «لم يكتفِ بذلك حتى خوطبوا بدلائل التوحيد فيما يعرفون من سماء وأرض وجبال وسحاب ونبات وبدلائل الآخرة والنبوة كذلك.

وأخبروا بما أنعم الله عليهم مما هو لديهم وبين أيديهم وأخبروا عن نعيم الجنة وأصنافه بما هو معهود في تنعماتهم في الدنيا... وبيَّن من مأكولات الجنة ومشروباتها ما هو معلوم عندهم كالماء واللبن والخمر والعسل والنخيل والأعناب وسائر ما هو عندهم مألوف دون الجوز واللوز والتفاح والكمثرىٰ وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم بل أجمل ذلك في لفظ الفاكهة.

«وقد كانوا عارفين بالحكمة وكان بينهم حكماء فأتاهم من الحكمة بما عجزوا عن مثله ولم يجادلهم إلا على طريقة ما يعرفون من الجدل» [ج 2 ص78و 79].

ويرى الشاطبي أن كَوْن القرآن معجزاً لا يخرجه عن كونه عربياً جارياً علىٰ أساليب كلام العرب ميسراً للفهم» [ج3 ص346].

 

إنَّ كل ما ذكرناه من الأمثال والشواهد والتشابيه والقصص وأساليب الكلام ليست الا وسائل لمقاصد القرآن الأساسية وأهدافه كالإيمان بالله تعالىٰ والحياة الآخرة ومسؤولية الإنسان وحسابه، وقد روعي في هذه الوسائل حال المخاطبين وكانوا عرباً، وأما مقاصد القرآن وأهدافه الكبرىٰ فهي عامة غير خاصة تعم جميع الأمم وتصلح لكل الناس.

 

ولكن هذه الأهداف لابدَّ من إفهامها للمخاطبين لينقلوها إلىٰ غيرهم ولهذا كان البدء. قال الله تعالىٰ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214] وقال: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الأنعام: 92]، وقد منَّ الله سبحانه عليهم بأن اختار منهم رسوله إلىٰ الناس كافَّة في قوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164] وقوله تعالىٰ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].

 

والأميِّون هم العرب كما عليه أكثر المفسرين في مقابل أهل الكتاب ولذلك جعل العرب حين خاطبهم القرآن الكريم مسؤولين عن حمل رسالته إلىٰ الناس فقد جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3].

 

ولا يستقيم المعنىٰ إلا بأن يكون الخطاب موجهاً لهم وقد ورد في آية أخرى في السورة نفسها قوله تعالىٰ: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ [الزخرف: 44]، وقد بيَّن ابن كثير في تفسيره أن المراد بقومه في الآية هم: العرب ومن مجموع الآيتين تبدو مسؤولية العرب في التبلغ والتبليغ والتذكير وهذا التخصيص لا ينافي التعميم كما قال الشاطبي، فإن المبادئ والقواعد التي جاء بها القرآن عامة تصلح للبشر جميعاً ويستطيع كل من فهمها وتبلغها أن ينقلها إلىٰ غيره ويبلغها وينشرها وإن كان العرب في ذلك أثقل حملاً وأكثر مسؤولية وكذلك هم في تقصيرهم أشد وزراً.

 

2 - القرآن إنساني الرسالة

وأما ما تضمنته رسالة القرآن من أهداف وغايات فهي إنسانية عامة فالعقائد التي يدعو إليها والمبادئ الأخلاقية التي ينادي بها والنظم التشريعية التي يعلنها كلها إنسانية عامَّة، فالإله ليس إله قوم أو قبيلة أو شعب وإنما هو رب العالمين، خالق السموات والأرض، والرسول هو رسول الله إلىٰ الناس جميعاً لا إلىٰ جماعة أو قوم: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]؛ والناس كلهم عباد الله، خلقهم ذكراً وأنثىٰ وجعلهم شعوباً وقبائل؛ والإنسان كما صوَّره القرآن ليس هو الإنسان العربي أو الأعجمي أو اليماني وإنما هو الإنسان في خلقته الأولىٰ، الذي خلقه الله تعالىٰ من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، الذي يخرج طفلاً ثم يكبر حتى يرد إلىٰ أرذل العمر هو الإنسان الذي أنشأ له السمع والأبصار والأفئدة والذي حببت له شهوات الدنيا، ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾ [آل عمران: 14]..

هو الإنسان الذي ألهاه التكاثر وأحبَّ المال حباً جماً؛ وحياته الواقعية هي التي وصفها القرآن بقوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾ [الحديد: 20]..

والمجتمع الإنساني الذي وصفه القرآن في صورته الواقعية ليس هو المجتمع العربي في زمن معيَّن وإنما هو المجتمع الإنساني بوجه عام وإليك بعض هذه الصور الاجتماعية الواقعية:

﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].

﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ [النمل: 52]

﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 58].

﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ [الدخان: 25-29].

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 97-98].

﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 45-46] .

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16].

 

وكذلك صورة المجتمع المثالي الذي يرسمه القرآن إنسانية عامة:

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104].

﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41].

 

وإن النظام الأخلاقي والتشريعي الذي أقامه علىٰ أساس عقيدته ونظرته العامَّة إلىٰ الله سبحانه والوجود قد احتوىٰ المبادئ العامَّة التي لا تختلف من شعب إلىٰ شعب كالشورى في الحكم ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38] وأداء الأمانة وإقامة العدل ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: 58]، ومبدأ التعايش والتعارف والتعاون:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].

﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].

ومبدأ تعايش الأديان وعدم الإكراه في العقيدة:

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: 256].

﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [الحج: 40].

﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].

 

وقد عرض القرآن المبادئ العامَّة للسلوك في شتى نواحي الحياة وهي كثيرة جداً كقوله:

﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [الأنفال: 46].

﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].

﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ [البقرة: 179].

﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ [الإسراء: 29].

﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ [الإسراء: 37].

﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [فاطر: 18]، « ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39].

﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل: 126].

وإن مبادئ إقامة العدل ومنع الظلم واتَّباع الحق وفعل الخير والتعاون والإحسان وغيرها منثورة في القرآن، معروضة في صورتها العامَّة ومفهومها الإنساني الشامل.

 

وتعرَّض القرآن لجميع قيم الحياة وحدَّد موقفه منها وهي القيم التي يواجهها الناس في كل العصور وجميع المجتمعات البشرية، وتقيم عليها المذاهب الفلسفية والخلقية بناءها؛ ومن أمثلة ذلك ما ورد في هذه الآية التي جمعت أهم القيم ذات التأثير في الحياة وهي القرابة والنسب والمال والتجارة والمسكن والأرض مع بيان موقعها من المثل الأعلىٰ المتجلي في الله والجهاد في سبيله: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ [التوبة: 24] .

 

لقد أثار القرآن أهم مشكلات الإنسان بل قضاياه الكبرىٰ وفي مقدمتها المسؤولية ومصير الحياة ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36]، ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾ [العاديات: 9-10] ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: 3-6].

 

إنها قضية الإنسان الكبرىٰ، إنه قلق المصير والتفكر في نهاية الحياة اللذين أثارهما القرآن في النفس، ومن وراءهما المسؤولية العظمىٰ؛ لقد تجاوز القرآن حدود الأمور المحلية والزمنية، حدود البيئة التي نزل فيها والعصر الذي ظهر فيه وحلَّق فوقها حتى كشف آفاق حياة الإنسان بل آفاق الوجود وقلَّما تجد في القرآن أسماء أعلام لأناس أو لبلاد اللهم إلَّا ما يكون في القصص التاريخي حتى أن الصورة التي أعطاها عن الكون والطبيعة وأجزائها وإن كانت صورة ليست غريبة عن العرب ولكنها عامَّة غير خاصَّة فلا ترىٰ في القرآن كما في الأدب الجاهلي الصحراء والناقة حيثما توجَّهت بل قلَّما تجد فيه هاتين الصورتين بل إنك لترىٰ صورة البحر والفُلك مواخر فيه أكثر منها:

﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ [يونس: 22]، ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 14].

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ﴾ [الشورى: 32-33]، ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: 40].

 

ثم استمع وتخيل هذه الصورة الكثيفة الجامعة:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164].

هذه هي الطبيعة العامَّة التي نجدها في كل مكان في شمسها وقمرها، وليلها ونهارها، وبرها وبحرها، ونباتها وثمارها، وإنسانها وحيوانها.

 

إن غاية القرآن، الذي يمثل آخر الرسالات، إيقاظ ضمير الإنسان وربطه بخالقه وإشعاره بمسؤوليته وتحريره من الجزئيات ليسير في مبادئ واتجاهات، وإقامة نظام لحياته وسلوكه يستقيم عليه امره تستقر فيه العدالة وتتأمن الحرية ويتعاون البشر علىٰ اختلاف أجناسهم وأقوامهم.

 

لقد أشعر القرآن العرب بإنسانيتهم، ليشعروا هم غيرهم بها وجعل الرابطة بينهم أولاً ثم بين الناس جميعاً؛ الرابطة الإنسانية لا رابطة النسب والعصبية والدم ولا رابطة المال.

ونقلهم من إطار الصحراء والقبيلة إلىٰ إطار الكون والإنسانيَّة ومن مظاهر حياتهم إلىٰ أغوار إنسانيتهم وإلىٰ آفاق الوجود الرحبة الواسعة وبذلك استطاعوا أن يطلوا على الإنسانية جميعاً من هذه الذرىٰ العالية.

 

وإنَّ هذا القرآن الذي تضمن نظرة شاملة للحياة والوجود مبنيَّة على الاتِّصال بخالق أبدى منه البداية وإليه المرجع والمآل، وعلى مسؤولية الإنسان عن عمله واشتمل على مبادئ أخلاقية ونظام تشريعي مبني على المساواة والعدالة إن هذا القرآن الذي تضمَّن هذه الدعوة الإنسانية لم يبدأ بالعرب لينتهي عندهم أو ليقيم تشريعاً علىٰ أساس التميِّيز العنصري وهو الذي دعا إلىٰ المساواة بين البشر قبائل وشعوباً ولكنه ابتدأ بهم ليحملهم أمانة ثقيلة واختارهم الله لتبليغ رسالة عامَّة للبشر وليجعل منهم أمة معلِّمة مرشدة تقود الناس إلىٰ الحق وتهديهم إلىٰ الخير وتدعوهم إلىٰ هذا الصعيد الإنساني المشترك. لقد كان الشرف العظيم الذي أناله الله تعالىٰ العرب أن يكون الرسول صلىٰ الله عليه وآله وسلم الإنساني العظيم منهم وأن يحملوا الرسالة التي انتهت عندها الرسالات وأن يجعل الله لغتهم العربية لغة هذه الرسالة الإنسانية حتىٰ أصبح بين القرآن والأمة العربية ولغتها صلة لا تنفصم ورابطة لا تنحلَّ، هي الصلة بين رسالة إنسانية وأمَّة مبلِّغة ولغة معبِّرة وإن إهمال ما للعرب من موضع خاص في بناء الإسلام، في فهم كتابه وتنفيذ مبادئه، وما للغتهم من منزلة في فهم القرآن، جهل بالإسلام وتاريخه واضعاف للقاعدة التي يرتكز عليها، كما أن فصل العرب عن رسالة القرآن مفاهيمه هو فصلهم عن تاريخهم وعن روحهم المتأصلة وينبوعهم الأصيل وتشويه وبتر لشخصيتهم ورجوع بهم عن مرحلة الرسالة الإنسانية، رجوع إلىٰ مراحل خلَّفوها وراءهم ولاتزال كثير من الأمم الراقية واقفة عندها، ولا يفعل هذا إلا جاهل معرَّق في الجهل أو شعوبي حاقد.

 

وخلاصة القول أن القرآن في مبادئه ومُثله يخاطب الناس جميعاً ويتوجه إلىٰ البشرية على مرِّ العصور فهو كتاب الإنسانية المعجز وهو في الوقت نفسه كتاب العرب الخالد الذي يصلهم من جهة بالإنسانية ومبادئها ويصلهم من جهة أخرىٰ بالله الخالق الحكيم الذي ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]، فالقرآن إلهي في مصدره إنساني في مبادئه ورسالته، عربيٌ في خطابه وتعبيره.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .

 

****

أ. محمد مبارك عميد كلية الشريعة بدمشق

(*) محاضرة ألقيت علىٰ مدرج جامعة دمشق، مساء الاثنين 23 آذار 1959م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين