الفكر التربوي عند آق شمس الدين ودوره في تكوين شخصية السلطان محمد الفاتح

يعد فتح القسطنطينية من أعظم الأحداث التي حصلت في التاريخ الإنساني، فقد أسدل الستار على الإمبراطورية البيزنطية التي استمرت لأكثر من ألف عام (من القرن الرابع إلى القرن الرابع عشر الميلادي)، كما يعدّه البعض تاريخاً لنهاية العصور الوسطى في أوروبا، وبدايةً لعصر النهضة
ومن الناحية الحضارية الإسلامية فإن فتح القسطنطينية يعدّ كذلك من الأحداث الكبرى في التاريخ الإسلامي، فقد جاء تحقيقاً لبشارة النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث عن عبد الله بن بشر الخثعمي رضي الله عنه عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش" قال: فدعاني مسلمة بن عبد الملك فسألني فحدثته فغزا القسطنطينية (1)، ولذلك لم يبرح الحكام والأمراء يرسلون البعث تلو البعث في سبيل تحقيق هذه البشارة ونيل شرف الفتح، حتى تحقق ذلك على يد القائد العثماني السلطان محمد خان الثاني، المعروف بالسلطان الفاتح.
وقد تعددت الأبحاث التي تتناول حياة الفاتحين والقادة العسكريين بالدراسة والتحليل، ومع أنه كان خلف هؤلاء القادة علماء ومربون مهدوا لهم طريق الفتوحات، وشاركوهم في التخطيط والتنفيذ وحشد الجيوش، إلا أن هذه الدراسات قد أغفلت دور بعض هؤلاء العلماء كآق شمس الدين، أو ذكرتهم دون أن توفيهم حقهم، مع ضرورة فهم هذا الدور، وإدراك القدرات العلمية والخصائص النفسية والفكرية التي كانوا يتمتعون بها، وآليات تأثيرهم في المجتمعات على مستوى القادة والمجتمع.
ولعل من الأمور التي تحتاج إلى تجلية وتوضيح ما يتصل بشخصية آق شمس الدين من الناحية التربوية والفكرية، فقد كان معلماً ومربياً، ومرشداً ومصلحاً اجتماعياً، أشرف على تربية وتعليم السلطان محمد الثاني، فجعل منه قائداً عظيماً ودفعه نحو فتح القسطنطينية، ثم شارك معه في الجهاد ووقف إلى جانبه يساعده ويدعم موقفه إلى أن تم الفتح، وبسبب هذه الجهود استحق الشيخ آق شمس الدين لقب (الفاتح المعنوي للقسطنطينية)، ومن هنا فقد جاء هذا الكتاب في فصل تمهيدي وأربعة فصول أساسية:
اشتمل الفصل التمهيدي على مقدمة تبين أهمية البحث ومشكلته وأهدافه وشرح مصطلحاته، وعرض الدراسات السابقة التي تناولت شخصية الشيخ آق شمس الدين وهي أربع دراسات باللغة التركية.
في الفصل الأول: كان التعريفُ بالشيخ آق شمس الدين وعرضُ سيرته وحياته، وتحليل كتبه، وتوضيحُ الفرق بين شخصيتين غالباً ما يحصل الخلط بينهما عند بعض الباحثين العرب بسبب التشابه في الاسم والمعاصرة في الزمان والمكان، وهما محمد بن حمزة الفناري الذي دفن في بورصة سنة 833ه، ومحمد بن حمزة آق شمس الدين الذي دفن في كوينك سنة 863 ه، فبعض الباحثين يظنون أن آق شمس الدين هو ذاته محمد بن حمزة الفناري وقد تم توضيح الفرق بين هذين العالمين الجليلين.
في الفصل الثاني: تم بيان طبيعة العصر الذي نشأ فيه الشيخ آق شمس الدين من النواحي السياسية والعسكرية والدينية والعلمية والتعليمية، في كل من العالم العربي الذي كان تحت سلطة المماليك في ذلك الوقت، والأناضول الذي كانت تتشكل فيه الخلافة العثمانية.
وفي الفصل الثالث: تم بيان مجالات الفكر التربوي عند آق شمس الدين في كل من المجال السياسي والاجتماعي والنفسي وفي مجال المنهج الدراسي وفلسفته، وبيان كيفية الاستفادة منها في واقعنا المعاصر.
وفي الفصل الرابع: بيّن الكتاب جهود الشيخ آق شمس الدين في تربية وتعليم السلطان محمد الفاتح، وجهوده في فتح القسطنطينية.
وكان من نتائج هذا البحث:
أن الشيخ آق شمس الدين نموذج للعالم العامل الحر الذي ينحاز إلى قضايا أمته، ويضع علمه وخبرته في خدمتها، عاش في مرحلةٍ تاريخيةٍ حاسمةٍ، تمكّن فيها من صناعة قائد نقل العالم كله نحو تاريخ جديد (هو السلطان محمد الفاتح)، وأنه صاحب فكر تربوي في مجالات متعددة، يمكن الإفادة منها في واقعنا المعاصر، كما أن له جهوداً تربويةً تعدّ نموذجاً في مجال العمل الدعوي والإصلاح الاجتماعي.
وأوصى البحث بضرورة تسليط الضوء على النتاج العلمي والمعرفي في الدولة العثمانية، وضرورة الاستفادة من تجربة الشيخ آق شمس الدين بما يسهم في خدمة الواقع وتنمية المجتمع، وإعداد القادة وإصلاح مناهج التعليم بناء على نظرية تكامل العلوم ووحدة المعرفة، كما أوصى البحث بضرورة أن يأخذ العلماء دورهم في نصح الحاكم وتوجيهه، وتوجيه الأمة وشبابها وجيوشها، وتثبيتهم وتوضيح رسالتهم وغاية وجودهم، وضرورة الاقتداء بالعلماء المخلصين العاملين.
(1)- أورده البخاري في التاريخ الكبير عن عبيد الله بن بشر الغنوي عن أبيه رقم الحديث: 1760، ج2، ص 81، ورواه أحمد في مسنده رقم الحديث: 18957، ج31، ص287، قال الشيخ شعيب أرناؤوط في تعليقه على الحديث: إسناده ضعيف لجهالة عبد الله بن بشر الخثعمي، فقد انفرد بالرواية عنه الوليد بن المغيرة المعافري، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، وأخرجه الحاكم في مستدركه، رقم الحديث 8300، ج4، ص468، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتابعه الذهبي في تصحيحه، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني ورجاله ثقات" مجمع الزوائد رقم الحديث: 10384، ج6، ص 218. وله شواهد كثيرة من أحاديث صحيحة في فتح القسطنطينية تقويه، وقد جمعها وصنفها وعلق عليها الدكتور حاكم المطيري في كتاب (الأربعون المتواترة في فضائل إسطنبول الفاخرة) وهو متوفر على الموقع الرسمي: https://cutt.us/u4wr5، كما أن وقوع الفتح كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم هو من مؤيدات صحة هذا الحديث.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين