الفقه بين التجديد والتجميد

لم يجاوز الحقيقة من وصف الشريعة الإسلامية بأنها شريعة النص، وأن حضارة المسلمين هي حضارة النص، ذاك أن  النص- بمعنى الوحي - له منزلة الروح من الجسد بالنسبة للشريعة عموماً، وللفقه بخاصة.

منذ أن ولد النص تداعت له العقول فهماً وتنزيلاً، تنظيراً وتطبيقاً، ولم تكن المساحة واسعة بين النظر والتطبيق في العهد التشريعي الأول على يدي مبلِّغه الأمين صلى الله عليه وسلم، وفي ربوع قوم رعوا وحي ربهم حق رعايته، لكن التداخل الحضاري مع أمم حملت في أدمغة علمائها هموماً ثقافية متنوعة أبرز واقعاً جديداً،جعل مما لا مندوحة عنه إعادة النظر في تنزيل النصوص على واقع حال الناس.

إذ النص يثمر الحكم من جهتين:

- من جهة وجوده التكليفي، وهذا مرتبط بفهم النص مُنْبَتّاً عن أي عامل خارج عنه، وفهم النص يكون عبر أدواته من اللفظ والسياق والمفهوم والمعقول والمقصد.

- من جهة وجوده الواقعي ، وهو الحكم الوضعي عند الأصوليين بالنظر إلى الأسباب والشروط والموانع، فالنصوص لم تنزل لتكون مرقومة بين دفتي كتاب، أو حبيسة المعاني في الأذهان، فمدلولاتها المجردة لابد لها من واقع تتحول فيه إلى وجود مشخَّص، وتنتقل من عالم المثال إلى عالم الحال، وهو بحث في تحقق الحكم الوضعي لها.

وفي حركة أولي الأمر من العلماء لتحويل النصوص إلى واقع مشخص، ولد الفقه علمياً بعد أن كان عملياً. وأخذت الحركة الفقهية روحها من النص الدال على المجردات، وأخذت جسدها ووجودها من الواقع الذي يحياه الفقيه، وقد سمى الفقهاء  هذا التجسد باسم (الفتاوى).

فالفتاوى هي ذاك الشق من الفقه الذي يهتم بواقع المكلف، وظروفه، وبيئته، ولغته، وفهمه، وعرفه وعادته لينزل الحكم التكليفي المناسب لها بما يحقق التوازن بين مقاصد الشريعة ومصالح المكلف.

تأتي صناعة الفقيه بالنظر إلى تلكم الجهتين، فعينٌ منه على النص بحمولته المعرفية المجردة، وعينٌ منه على واقع المكلف، واحتياجات عصره، وفي النظر الأول يصقل ملكته الفقهية ويقويها، وفي النظر الثاني يجدد في فقهه، ويوسع مداركه، حيث  "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور" .

تعد الحمولةُ المعرفية المجردة ثمرةَ النص ومنتجاً أساسياً لبناء العقل الفقهي الريّان بالشريعة على حد تعبير الشاطبي في موافقاته، الذي يراد له تحمل أمانة التكييف ثم التنزيل.

في هذا السياق لابد للفقيه أن يحيط علماً بكل جزئيات الأدلة الدالة على الأحكام، سواء كانت مناسبة لعصره أو غير مناسبة، إذ الغاية تكوين الملكة، واشتقاق العلل والمقاصد المساعدة على إيجاد أفضل مقاربة بين الشرع والواقع المتغير.

وهذا يعني أنه لابد من المحافظة على دراسة الفقه بثوبه العتيق، وأبوابه المختلفة، لأنه مظنة فتق المعاني، فحكمٌ في باب الإماء والعبيد يساعد على تخريج حكم في المعاملات المالية المعاصرة -كتخريج بعض المعاصرين جواز المساهمة بالأسهم المختلطة تخريجاً على جواز بيع العبد مع ماله من مال بثمن  نقدي- فالشرع كلٌّ واحد، ومقاصده من العدل والحكمة وتحقيق المصلحة واحدة، وبالتالي لا يمكن استبعاد هذا التفقه، وشطبه أو حذفه أو ( ترقين قيده كما عبر بعض الفضلاء).

أما في واقع تبليغ الفقيه الحكمَ الشرعي للناس، وفي تقريب مسائل الفقه لهم، أو في الفتاوي اللصيقة بواقع المكلف فيمكن أن نستبعد ما لا يناسب عرضه واقع الناس، أو ما هو بعيد التحقق في واقعهم، وهنا يجوز لنا أن نقدم فقهاً بثوب جديد، ومسائل حديثة.

فمجال التجديد يكمن في عدة أمور:

- في تنزيل الحكم على الواقع.

- وفي إعادة النظر في النتاج الفقهي التاريخي الذي نبت جراء مراعاة فقهاء عصرٍ ما واقعهم، وإصدار أحكام تناسب العصر الحالي، كإلغاء تقسيم البلاد إلى دار إسلام ودار حرب الذي كان تقسيماً فقهياً ناسب فقهاء عصر ما، ولم يعد مناسباً لهذا العصر.

- وفي تنقية الفقه من شوائب فهم الفقيه الخاصة بعصره، فغربلة الفقه مما يعد أحكاماً صادرة بموجَب العرف أمر لابد منه، ففقه الأسرة- على سبيل المثال- أُثقلَ بكثير من الحمولة العرفية التاريخية حتى غدا بعيدا عن تحقيق مقاصد الشرع، والتأسي الواجب بالنبي صلى الله عليه وسلم ،  فالأحكام المبنية على أعراف الفقهاء نزلت منزلة النص من الشارع.

 فهذه الأمور مما يحتاج إلى إبعادها وتجميدها، ولن نبعد إن قلنا شطبها و( ترقين قيدها)، على يد أهل الملكة والعقل الفقهي الريان بالشريعة

والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين