الفاتح الذي اشتقنا لعودة أيامه (12)

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. .. وبعد

فقد انتهى بنا الحديث في الحلقة السابقة عند ترحيب البابا (  بيوس الثاني ) بإسكندر الخارج على السلطان محمد الفاتح ، وأنه أرسل إلى ملوك أوربا يأمرهم بإمداده بما يحتاج من عدة وعتاد فلبوا جميعا أمره ، وجيشوا له الجيوش ، وسلحوها وأرسلوا بها إليه ، فخرج إسكندر بتلك الجيوش فلما علم بها أمير ألبانيا الآن أرسل إلى السلطان يخبره بأمره ، ويطلب منه المدد فأرسل له جيشا تحت قيادة أخيه يونس ، ولكن إسكندر سابق الزمن ووصل إلى ألبانيا قبل مجيء يونس بجيشه ، ثم خطط لأن يحول بينه وبين الالتقاء بأخيه ، ونجحت خطته في ذلك ، حيث كمن لجيش المدد ثم خرج إليه فجأة من أعلي الجبال حتى تمكن من أسر يونس وبعض جنوده ، ثم قام بذبحهم ، وأثر هذا المشهد تأثيرا كبيرا على بالابان أمير ألبانيا، فلم ينتظر حتى يطلب مددا آخر من السلطان ، وإنما دخل معه في معركة غير محسومة انتهت بمقتله هو الآخر إثر تعرضه لقذيفة نارية .

ولم يجد السلطان محمد فرصة للخروج إليه مرة أخرى ؛ نظرا لكثرة مشاعله ؛ فأعد جيشا آخر وأناب عليه من يثق به من قواده ، وتمكن هذا الجيش من إنزال الهزيمة النهائية به ، غير أنه لم يتمكن من قتله أو أسره ، إذ فر إلى أعالي الجبال كعادته ، ثم تسلل منها إلى أوربا ، وأخذ يطوف على بلدانها طالبا منهم أن يساعدوه على السلطان مرة أخرى ، لكن لم يجد من يلبي طلبه هذه المرة ، وهلك في مدينة إلسيو التابعة للبنادقة في 17 يناير 1467 م ، واستقرت بعده ألبانيا تماما في حوزة الدولة العثمانية .

ثم اتجه السلطان بعد ذلك لفتح  جزائر تاسوس وانبروس وغيرها من الجزائر الواقعة في بحر إيجه ، وأثناء فتحها جاءته الأنباء  بأن أمير الأفلاق (رومانيا حاليا) وكان اسمه فلاد، قد اعتدى على التجار المسلمين النازلين ببلاده ، فعزم الفاتح على السير إليه لتأديبه جزاء فعلته ، فلما علم بذلك فلاد خاف من سوء العاقبة ، وأرسل إلى السلطان الفاتح يعتذر له ، ويعرض عليه الدخول في طاعته مقابل دفع جزية سنوية، فسالمه الفاتح ، ورحل بعد أن وثق معه العهد  ..

ولكن هذا الخائن ما أن علم برجوع السلطان عنه حتى خلع طاعته ، وكاتب ملك المجر يعرض عليه التحالف معه في محاربة العثمانيين، ووصلت الأنباء إلى الفاتح بذلك ؛ لكنه لم يسرع بنقض العهد معه ، وأراد التيقن والتبين من صدق ما بلغه ، فأرسل مندوبين اثنين ليسألاه عن الحقيقة، فإذا به يقبض على الرسولين ويقتلهما ويمثل بهما؛ إذ وضعهما على عمود مدبب من الخشبب - وهو ما يمسى بالخازوق - .

ولم يكتف بذلك بل أغار على بلغاريا ، وكانت تابعة للدولة العثمانية، فأرسل الفاتح يدعوه إلى الطاعة ، فما كان منه إلا أن أمر بخلع عمامة هذا الرسول ، وأن يخلع من معه عمائمهم أيضا إظهارا لاحترام الأمير، فلما خالفوه أمره ، لأنه هذا ينتقص من قدرهم أمر بأن تسمر عمائمهم  على رؤوسهم بمسامير من حديد.

وكان هذا الرجل قد تولى إمارة البلاد فيما بين ( 1456 : 1462 ) وقد اشتهر بالقسوة ؛ حتى قيل : إنه لم يذكر في التاريخ رجل يضارعه في القسوة وحب التعذيب وسفك الدماء ، فقد ابتدع له خياله في وسائل القتل والتعذيب أفانين شتى لا تخطر على بال أحد ، وقد أطلق عليه ألقابا مختلفة تدل على هذا المعنى ، مثل : السفاح والمخوزق والشيطان ، وكان من أحب الأشياء إلى نفسه أن ينظر إلى مشاهد التعذيب والآلام التي يعانيها ضحاياه ، ويطرب لسماع آنات المعذبين ، وكان لا يتناول طعامه مع رجاله إلا وحوله أعمدة الخوازيق وضحاياه من المئات منصوبين يئنون آنات الموت .

وجاء النذير إلى السلطان الفاتح بهذا النبأ المؤلم فأسرع على الفور إلى هذا الأمير الشقي ، وأنزل به الهزيمة قرب العاصمة بوخرست ، لكنه لم يتمكن من القبض عليه لمجازاته على ما اقترفه من المظالم والمآثم ؛ لهروبه والتجائه إلى ملك المجر ، فنادى السلطان بعزله ونصب مكانه أخاه راوول لثقته به ، حيث كان قد تربى في حضانة السلطان مند نعومة أظفاره ، وصارت بلاد الأفلاق بذلك جزءا من الدولة العثمانية ..

 ولما همّ بالعودة ( أي فلاد )وحاول استرجاع الإمارة من أخيه ثار عليه عوام الناس وقتلوه ، ثم طافوا برأسه في أرجاء البلاد  .

وبعد أن فرغ السلطان الفاتح من بلاد الأفلاق جاءته الأنباء أن ملك الصرب جورج برنكوفيتش الذي كان قد أنابه على صربيا ، ومنحه ما يشبه الحكم الذاتي في مقابل أن يدفع له ضريبة الجزية ، ويُبقي حامية عثمانية وبعض الدعاة إلى الإسلام بها قد قضى نحبه ، وبموت هذا الرجل اضطربت أمور البلاد الصربية ، وتنازعت زوجته وأولاده على الملك ، فاضطر السلطان حسما للنزاع إلى إلحاق صربيا بالدولة العثمانية مباشرة ، وجعلها تابعة لولاية " سمندرة " في البلقان ، وكان ذلك في سنة 1459م .

ثم جاءت الأنباء إلى السلطان بأن " ألمورة " التي تركها من قبل تحت إمارة أخوي قسطنطين (ديميتريوس وتوماس) قد اضطرب أمرها أيضا ؛ لأن الأميرين المذكورين دخلا في صراع مع الإقطاعيين الأهالي، انعكس أثره على باقي السكان ، فطلبت الكنيسة الأرثوذكسية، التي احتمت بالسلطان "محمد الفاتح" منه التدخل في هذا الوضع لإنهاء المشكلات، التي باتت كارثة على البلد ، فقام السلطان الفاتح بحملة ألحق على إثرها شمالي الجزيرة بالدولة العثمانية ؛ ومنح إدارة جنوبيها للأميرين المذكورين، بشرط حسن التعامل مع الإدارة التركية.

 ولكن الأمرين عادا وتصارعا بعد رحيل السلطان ، فعاد بحملة أخرى وضم باقي الجزيرة لحوزة الدولة بعد أن خلع الأميرين معا .

ثم جهز السلطان حملة لغزو جزيرة "مدللي"  ليقضي على القراصنة الأوربيين الذين آووا إليها ، وصاروا يقطعون السبيل على السفن التجارية الإسلامية ، وكانت تلك الجزيرة بيد أسرة جنوية، تسمى "جاتيلوسي"  وأميرها رجل يسمى "نيكولاس جاتيلوسي"  سالمه السلطان ، وجعله مسئولا عن جمع الخراج بها ، لكنه اتفق مع الإيطاليين سرا على مساعدتهم ضد الدولة العثمانية ، وزج بأخيه الكبير، "دومينيكو" في السجن وخنقه فيه لما نهاه عن ذلك ، وجلب القراصنة اللاتين إليه، وزودهم بالسفن الإرشادية للقيام بالتعرض لسواحل الأناضول و"الروملي " .

وكان تلك الحملة التي توجهت إليها مكونة من سبع وستين سفينة؛ بقيادة الوزير الأعظم "محمود باشا"  كما أرسل إليها السلطان فرقة برية من الإنكشارية، وعساكر الأناضول ، وهناك ضرب الوزير الحصار عليها لمدة سبعة وعشرين يوماً، استسلمت بعدها حاميتها تماما ، وسلمت إليه قلعتها .

ولما وصل خبر فتحها إلى السلطان محمد أمر بتطهيرها من القراصنة ، وشجع كثيرا من الجند على استوطنها ؛ حتى لا يجد القراصنة الأوربيين فرصة للرجوع إليها مرة أخرى .

وبعد ذلك اتجه السلطان محمد إلى إعادة فتح البوسنة لأنها تأثرت بما جرى في صربيا ، وفتح مدنها وقلاعها قلعة قلعة ، ولم ينتصف عام 1463 م إلا وصارت البوسنة كلها ولاية عثمانية ، ثم تفشى الإسلام بين أهلها وخاصة نبلاؤها حتى عم أرجاءها ، وكان لهم دور كبير بعد ذلك في مواصلة الفتوحات الإسلامية في الحدود الشمالية ، بعد أن دخل في جيش الانكشارية العثماني من شبابها 30 ألفا.

وقد سعى متياس كرفن - ملك المجر في هذا الوقت – إلى استقطاعها ( أي بلاد البوسنة ) من الدولة العثمانية ، لكنه مُني بهزيمة قاسية ، وقُتل معظم جيشه.

ثم بعث السلطان الصدر الأعظم محمود باشا لفتح الهرسك ؛ لأنه رأى أن فتحها ضروري لتامين استقرار البوسنة ، ولأهمية موقعها الاستراتيجي ، حيث تشرف على البحر الإدرياتيكي ، وقد استسلم له أمير البلاد فأبقاه محمود باشا أميرا عليها ، ومنذ ذلك اليوم وبلاد الهرسك جزء للعالم الإسلامي ..

وبانضمام البوسنة والهرسك إلى حوزة الإسلام ثارت ثائرة البابا بيوس الثاني ، وأخذ ينادي في سائر بلاد أوربا للقيام بإعلان حرب صليبية على المسلمين ، وهكذا صار البابا مهيجا لمشاعر العداوة والكراهية ضد المسلمين ؛ مما نتج عن ذلك سفك أرواح الآلاف من الأرواح من الطرفين ، ويوما فيوم تأصلت العداوة بين المسلمين والمسيحيين في أوربا ، تلك العداوة التي يحمل منصب البابوية كفلا كبيرا منها .

نعم كانت البابوية سبب تلك النار التي كانت تشتعل بين المسلمين والمسيحيين في أوربا ، وعلى رأسهم بيوس الثاني هذا الذي جهر يوم تتويجه نفسه بارتياعه الشديد من تقدم المسلمين بإزاء نهر الدانوب في طريقهم إلى فينا، واختراقهم بلاد البلقان إلى البوسنة.

ولم يمض على تتويجه غير شهر واحد حتى أرسل إلى جميع الأمراء المسيحيين يدعوهم للانضمام إليه في مؤتمر كبير يعقد في مانتوا ليضعوا الخطط التي تكفل حماية العالم المسيحي الشرقي من تيار العثمانيين الجارف.

ووصل هو إلى مانتوا في السابع والعشرين من مايو عام 1459، يرتدي أفخم الأثواب الخاصة بمنصبه الرفيع؟!!!  واخترق المدينة في محمل يحف به أعيان المدينة وموظفو الكنيسة ، وألقى على الجموع المحتشدة لاستقباله خطبة من أقوى الخطب التي ألقاها في حياته وأعظمها تأثيراً.

ورغم أن أكثر ملوك أوربا صاروا يؤثرون السلامة ، ويرضون بالمعاهدات السلمية التي كانت الدولة العثمانية تحرص على الالتزام بها طالما التزم بها غيرهم إلا أنهم كانوا يضطرون تحت ضغط البابا لتجييش جيوشهم لتلقى مصرعها أمام العثمانيين ..

استجاب ملوك وأمراء أوربا إذن لنداء البابا بعد تلكؤ ، وعقدوا مؤتمرا في السادس والعشرين من شهر أغسطس ، واتفقوا على القيام بحرب مقدسة ضد المسلمين ، وتقسيم الأملاك التي خضعت للدولة العثمانية بين الدول المنتصرة.

 

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية وفي الصحة متسع .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين