الفاتح الذي اشتقنا لعودة أيامه (11)

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. .. وبعد

فقد قضى السلطان الفاتح بعد رجوعه عدة شهور في تنظيم أمور دولته التي اتسعت كثيرا ، وتباحث مع رجال دولته فيما ينهض بها ، وبدأ ينظر في أمور المواطنين الذين يتكاثرون على بابه ، ثم جاءه أن القائد المجري  يانكو هونياد الذي صار العدو التقليدي له يؤلب عليه ملوك أوربا ، ويسعى لإثارة القلاقل في البلاد التي ضمتها الدولة العثمانية ، وأن البابا كالكتوس الثالث الذي رأى فيه بطل أوربا المنشود أصبح يشجعه على ذلك ، وبدأ في تعبئة الرأي العام بأوربا لنصرته، وابتدع لهم صلاة خاصة عرفت بصلاة التبشير لطلب النصر على الأتراك ، كما أمر بضرب نواقيس الكنائس صباح كل يوم ، وسماه ناقوس الأتراك ، أي نذيرا من خطرهم ، وأذاع نداء إلى جميع النصارى للاتحاد ضدهم ..

علم السلطان بكل ذلك فجهز نفسه للخروج إليه ، وعزم هذه المرة على فتح مدينة بلجراد فتحا تاما ليأمن استقرار البلاد الصربية ، ويفصلها تماما عن المجر ..

ثم خرج في نحو 50 ألف جندي و300 مدفع عبر الطريق البري ، وبعث أسطوله الذي ضم مائتي سفينة من خلال نهر "طونا "  ، وتمكن من الاستيلاء على كل الأراضي الواقعة على الطريق إليها.

وفي يوم الأحد 9 رجب، الموافق لـ13 يونيه كانت قواته قد حطت رحلها حول المدينة ، فبدأ بضرب الحصار عليها ؛ واستمر في حصارها حتى يوم الخميس 18 شعبان الموافق لـ 22 يوليه ..  

وقبل أن يتمكن من دخولها جاءت قوة صليبية قوامها60 ألف مقاتل من الإيطاليين والألمان والبوهميا ، أمر بحشدها البابا ، كما جاء  "يانكو هونياد"   بجيوش غزيرة من المجر مع أسطول بحري تكون من مائتي سفينة ، ورغم تلك القوات التي جاءت لنجدة المدينة إلا أن الجيش العثماني استطاع القيام بثلاث هجمات عليها ، تمكن من خلالها من الاستيلاء على ضواحيها، ونجح في النفاذ منها إلى قلب المدينة إلا أن  الراهب الإيطالي "كابسترانو" الذي أرسله البابا في مدد آخر قد فاجأه من الخلف، وأشعل النيران من حوله ، فاضطر السلطان إلى التراجع عن المدينة لدحر هذا الراهب الذي فاجأه من الخلف ، فألحق به الهزيمة ، وشتت شمل من معه ، ثم عاود الكرة على المدينة ، وبينا هو يستعد لدخولها أصيب بجرح بالغ في رجله، أعاقه عن الحركة ، وألجأه إلى أن يوقف التقدم نحوها ، ويعود بجيشه ، خاصة بعد أن بلغه أن أمير أمراء الروملي   "دايي قره جه باشا؛ وآغا الإنكشارية "حسن آغا"  قد استشهدا .

وإذا كان السلطان لم يحقق الانتصار المرجو في هذا الحصار فإن يانكو هونياد  الذي قدمته أوربا ليكون بطلها المرتقب قد لقي حتفه على أيدي المسلمين نتيجة إصابته بإصابات بالغة ، وقد بكى البابا بكاء مرا لموته ، وقال إينياس الذي صار بابا فيما بعد باسم " بيوس الثاني " : لقد ماتت آمالنا بموته "..

ثم أرسل السلطان إلى المدينة في العام التالي صدره الأعظم محمود باشا ( الذي كان أبوه روميا وأمه صربية ، ولكنه ترقى إلى هذا المنصب الذي يعد المنصب الثاني في الدولة بعد السلطان ، ووصل إليه بكفاءته ومقدرته ، وليس بجنسيته التي ينتمي إليها ) ففتحها ، وواصل توغله داخل بلاد الصرب فأتم فتحها كلها في خلال سنتين، وبذلك فقدت الصرب استقلالها نهائيا ، وظلت في حوزة الدولة العثمانية تنعم بحكم الإسلام وعدله حتى بداية القرن التاسع عشر ، ثم انفصلت عنها بعد الوهن الذي أصابها ، وتآمر الأعداء عليها ...

وبعد عودة السلطان من تلك الغزوة مكث فترة من الزمن بين رجال دولته في إسلامبول بحث معهم الأمور التي تهم الدولة ، وشرع في تلك الفترة في بناء مسجد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، تخليدا لذكر هذا الصحابي الجليل ، وبدأ العمل فيه سنة 863 هـ ، وهو يعد أول  جامع بُني في "إستانبول"، وكذلك أمر بإنشاء دار لإقامة الفقراء بجوار هذا  المسجد ، وبنى في نفس المكان مدرسة حملت نفس الاسم المبارك ، وأجرى على طلابها وشيوخها العطايا ، كما شيد أيضا حماما عاما ينتفع به زوار القبر ..

وفي هذه الأثناء أيضا، وبالتحديد في يوم الاثنين، 10 ربيع الأول، الموافق لـ 15 يناير جاء الخبر إلى السلطان بأن العالم الجليل آق شمس الدين قد حضرته الوفاة فحزن على فقده حزنا شديدا، ولما كانت وفاته في "كوينوك" فإنه لم يحضر وفاته ، ولا الصلاة عليه .  

 وكانت خسارة السلطان والعالم الإسلامي بوفاة هذا العالم الجليل كبيرة ، فهو بالنسبة للسلطان شيخه ومربيه ، وبالنسبة للعالم الإسلامي كان قدوته في الجمع بين تزكية الروح والجهاد الدائب لنصرة دينه الله ، فضلا عن قدوته للعلماء في عزة النفس وعدم الهيبة من غير الله سبحانه وتعالى .

وكان شمس الدين بالإضافة إلى كونه شيخ الإسلام  يعمل طبيباً، يداوي أبدان الناس بالطب كما يداوي أرواحهم بالتزكية ، وله مؤلف في الطب، سماه "مادة الحياة"، تحدث فيه عن الأمراض التي تتكون في الجسم عن طريق الجراثيم، والتي تتكاثر من خلال مراحل التفريخ؛ حيث أسس بذلك "نظرية الجرثومة..

وبعد ذلك اتجه السلطان إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها فسار بجيشه في أوائل سنة 1461 بدون أن يُعلم أحدا بوجهته ، وهاجم أولا ميناء أماستريس ، وكانت مركز تجارة أهالي جنوه النازلين بهذه الأصقاع ، ولكون سكانها تجارا يحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرض لأموالهم ولا أرواحهم فإنهم فتحوا له أبواب المدينة ، ودخلها بجيشه بغير حرب ..

ثم عاد فاتجه لفتح بلاد البوسنة ، فسقطت في يده مدينة تلو مدينة وقلعة تلو قلعة ، وقد حاول ملكها أن يستنجد بالباب ولكن دون جدوى ، فاضطر إلى طلب الأمان من السلطان فأمنه ، ولم يأت عام 1463 إلا والبوسنة كلها قد صارت ولاية عثمانية ، وأسرع أهلها إلى الدخول في الإسلام ، وخاصة الأمراء وكبار القادة ، وكان لهم دور كبير في الفتوحات الإسلامية شمال البلاد فيما بعد ..

وخلال غزوات السلطان تلك لم يهمل الاهتمام بإعادة تحصين العاصمة الجديدة " إسلام بول " لتكون في مأمن ضد أي اعتداءات تأتيها من الخارج ، فقام ببناء عدة استحكامات على ضفتي قناة الدردنيل بالقرب من  قلعة "الروملي"، المواجهة لقلعة الأناضول؛ بغية استحكام البوسفور، ، وأطلق على تلك الاستحكامات القريبة من الدردنيل   "القلعة السلطانية/جنق قلعة"، وعلى الاستحكامات القريبة من ضفة الروملي "كليد البحر" أي مفتاح البحر ، وقد أشرف على بنائها  أمير سنجق "كلي بولي" وقائد الأسطول "يعقوب بك"  .

إضافة إلى وضع شريط أمني كامل حول "إستانبول" في مواجهة الأساطيل البندقية والجنوية والبابوية، وأسطول "رودس" استعداداً لأي مواجهة بحرية طارئة، وبذلك أصبح الطريق التجاري الممتد من البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط بيد العثمانيين.

كما قام بتقوية أسطوله البحري ، حتى صار من أكبر الأساطيل الموجودة في العالم في عصره . واهتم اهتماما بالغا ببناء المراسي .  

ثم انشغل السلطان الفاتح بعد ذلك بالقضاء على حركة المتمرد "إسكندر بك " وكان هذا الرجل ( واسمه الحقيقي جورج ) من أسرة صقلية متواضعة، أُسر وهو صغير فلما لاحظ عليه السلطان مراد الثاني  علامات النبوغ أسبغ عليه ، فنشأ في بلاط السلطان بأدرنة ، وأحب السلطان فيه الشجاعة والاحتمال حتى عامله كأحد أبنائه ، ولما شب جعله ضابطا في الجيش التركي ، وتظاهر بالدخول في الإسلام ، وسمى بهذا الاسم إسكندر بك - أي الأمير إسكندر ..

غير أنه قابل تلك النعمة بالنكران ، وفي سنة 1443 م استغل انشغال السلطان مراد بمحاربة هونياد وملك الصرب وألزم كاتب أول السلطان على أن يمضي له أمرا بإسناد إمارة مدينة آق حصار من أعمال بلاد ألبانيا إليه ، وختمه بخاتم السلطان ، وأخذ منه الكتاب ثم قتله خوفا من إفشاء سره ، وسار إلى المدينة ودخلها ، ثم استدعى إليه رؤساء قبائل الارنؤد ، وأظهر لهم عزمه على تخليص ألبانيا من العثمانيين  ، فوافقوه على ذلك طمعا في أن يشاركوه في الحكم ، وأمدوه بالمال والرجال ، فسار معهم وطرد العثمانيين من أغلب البلاد الألبانية  ، وانتصر على القائد "علي باشا " سنة 1443 م ..

وساعده على امتداد نفوذه اشتغال السلطان مراد بمحاربة المجر ، لكن لما تم النصر للسلطان في واقعة وارنه واستتب الأمن له في بلاد اليونان جمع جيشا جرارا لقمع هذا الخائن فقصده بمائة ألف مقاتل ، واسترد منه مدينتين من أهم مدن ألبانيا سنة 1447 م ، ثم تركه حين بلغه أن هونياد المجري قد أغار على بلاد الصرب ليعيد لنفسه ما فقد من الشرف في واقعة وارنه ، وكان معه أربعة وعشرون ألف رجل ، منهم عشرة آلاف من الفلاخ فقاتله السلطان مراد بنفسه ، وانتصر عليه في وادي قوص ، وذلك في 18 شعبان سنة 852 هـ الموافق  17 أكتوبر سنة 1448 م .

ثم عاد السلطان مراد الثاني لمحاربة إسكندر بك بألبانيا وحاصر مدينة آق مدة ، ولما تحصن منه أراد السلطان مراد أن يصالحه على أن يقلده إمارة بلاد ألبانيا في مقابلة جزية سنوية ، ولكنه لم يقبل بهذا الاقتراح ..

فرفع السلطان الحصار عن المدينة وعاد إلى أدرنه عاصمة ليأخذ جنوده الذين أرهقتهم كثرة الغزوات المتتابعة قسطا من الراحة على أمل أن يعود إليه ثانية ، لكن الموت حضره قبل أن يشرع في العودة إليه  ..

ولما تولى السلطان الفاتح انشغل عنه بفتح القسطنطينية فازداد تمرده وبغيه بعد أن لقي التأييد الكامل من ملوك أوربا في الظاهر والباطن طمعا في أن يكون سببا في إضعاف شوكة المسلمين ، وقد حاول أن يستفيد من وضع الأراضي الجبلية الوعرة التي تحصن بها ، وكان هذا الشقي قد عاهده السلطان محمد ، وعقد معه هدنة بينهما في 22 يونيو سنة 1461م وسمح له فيها بالسيادة على الجزء الجنوبي من ألبانيا وأبيروس لكن لم يمر عليه أكثر من 3 سنوات حتى سمع بدعوة  البابا بيوس الثاني إلى شن حملة صليبية ضد العثمانيين ، فأسرع بالانضمام  إلى تلك الحملة بعد أن قال صديقه " بول أنجيلو مطران دورازو" : أن نقض العهد مع السلطان محمد لا يعد ذنبا ، بل هو قربى إلى الرب !!!

فلما علم السلطان محمد بذلك بعث إليه يذكره بما بينهما من ميثاق ، فما كان منه إلا أن سخر منه ، ورد على رسوله قائلا : إنه لن يحافظ على أي عهد معه إلا إذا ارتد عن دينه الإسلامي ، ولم ينتظر حتى تجتمع الجيوش الصليبية التي اتفق مع البابا على التحالف معها ، وإنما بادر بالإغارة على أملاك الدولة العثمانية وتخريبها .

ووصلت أنباء أفعاله المشينة إلى السلطان فاشتاط غضبا من هذا القزم الذي تحداه بتلك الطريقة التي لم يجرؤ أحد من ملوك العالم على تحديه بها ، وأرسل جيشا مكونا من 10 آلاف فارس و3 آلاف من المشاة بقيادة بالابان بك ، وهو قائد ألباني الأصل سبق وأن أظهر في حصار القسطنطينية بسالة نادرة ، وكان أول جندي رفع الراية على أسوار المدينة ، وقد كافأه السلطان بأن رقاه إلى منصب القيادة ، ولكن بالان انهزم أمامه ، فأرسل إليه السلطان بجيش آخر فلم يجدِ معه شيئا لتحصنه بالجبال ، وأذاع في أوربا أنه قد انتصر على العثمانيين ، فأسرعت المجر والبندقية لمحالفته ، وأطلق عليه البابا نصير المسيحية ، وعندها رأى السلطان أنه لا مناص من الخروج إليه بنفسه فأعد جيشا قوامه 100 ألف جندي ، وزحف به إلى ألبانيا ، فدخلها في يونيو سنة 1465 م ، وأنزل به ( أي إسكندر ) عدة هزائم فر على إثرها إلى أعالي الجبال ، ثم خرج منها إلى إيطاليا ليطلب المساعدة من البابا ..

فمكث السلطان محمد حول القلاع التي أخذها منه أياما ثم عاد إلى عاصمته ليباشر أمور دولته ، وأناب عنه بالابان .

وفي إيطاليا رحب البابا باسكندر أعظم ترحيب ، وأغراه بالعودة بعد أن رأى فيه خير من يقوم بمحاربة العثمانيين بالإنابة عن أوربا ، وأرسل إلى ملوك أوربا يأمرهم بإمداده بما يحتاج من عدة وعتاد فلبوا جميعا أمره ، وجيشوا له الجيوش ، وسلحوها وأرسلوا بها إليه ، كما سنرى في الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية وفي الصحة متسع .

الحلقة السابقة هــــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين