الفاتح الذي اشتقنا لعودة أيامه -10-

 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ، ومن تبع هداه إلى يوم الدين .. ..وبعد

فلما علم القائد المجري "يانكو هونياد" والملك الصربي " برانكوفيش" الذي فر إلى المجر منذ قليل أن السلطان محمد الفاتح قد عاد  من "صربيا" بعد ترك قوة صغيرة بها ، قررا التعاون معا للقضاء على هذه القوة ، فأعدا جيشا جمع القوات المجرية والصربية، وقاما بالهجوم المباغت على القوة العثمانية المرابطة بالقلعة ، التي كانت تقل كثيراً عن قواتهما فهزماها، ونجحا في أسر القائد العثماني "محمد بك" أيضاً.

ولما علم السلطان محمد بذلك أسرع على الفور باصطحاب قوة من جيشه وتوجه إلى هذين القائدين للثأر لما لحق بقواته التي تركها في صربيا ، وفك أسر أميره " محمد بك " ولكن  "يانكو هونياد" لما أحس بتحركه هرب إلى "المجر" و ترك برنكوفيتش وحده ، فاضطر إلى مسالمة السلطان ودفع خراج سنوي، قدره ثلاثون ألف دوقة ذهباً، وقبول التبعية العثمانية والانقياد لها، فقل منه السلطان ذلك وعفا عنه  ..

وفي العام التالي (859هـ/1455م ) واصل السلطان فتوحاته في باقي بلاد صربيا فضرب الحصار على مدينة "نوفوبراء/نوفوبردا"  والتي كانت مستحكمة للغاية، فتم فتحها بعد أربعين يوماً ، ولم يجد مقاومة من الصرب بعدها ، فاتجه لزيارة المكان الذي استشهد فيه جده مراد الأول في صحاري "كوسوفا" ثم عاد إلى "إسلام بول "  عن طريق سلانيك مكللا بالنصر الذي اعتاده .

 وقد حاول القائد المجري "يانكو هونياد"  أن يغري " برنكوفيتش " بنقض عهده مرة أخرى ، ولكنه أبى خوفا من سطوة السلطان من جانب ، ومن جانب آخر فإن الصربيين الذين كانوا على المذهب الأرثوذكسي صاروا يفضلون تبعية الأتراك على تبعية المجر الكاثوليك ..

خاصة بعد أن اطمأن الصرب لنية السلطان الفاتح بعد السيطرة على كامل البلاد ، فقد سأله وفدهم ماذا سيفعل بأهل دينهم إن ملك البلاد : فقال : أقيم إلى جانب كل مسجد كنيسة ، والناس أحرار في دينهم ، فمن شاء ذهب إلى المسجد ، ومن شاء ذهب إلى الكنيسة ..

هذا في الوقت الذي لم يكن ملوك أوربا المتعصبين للنصرانية يسمحون ببقاء مسجد واحد في ممالكهم كما يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير ، بل لم  يكن يُسمح بتشييد الكنائس المخالفة للمذهب الكاثوليكي ، فقد سأل برنكوفيتش  "يانكو هونياد"  : وماذا ستفعل بأهل ديننا ( يقصد الأرثوذكس ) إذا انتصرت على الأتراك ، فقال :  أحمل الناس على الكنيسة الكاثوليكية ، وأقيم الكنائس الكاثوليكية في كل مكان ..

ولم يبق أمام السلطان بصربيا غير المدينة الكبرى بلغراد التي كانت تخضع للمجر ، فلم يشأ أن يواصل زحفه إليها هذه المرة فتركها إلى حين حتى يسكن الصرب لحكمه ، ويعرفون سماحته وعدله لتقل مقاومته ( هذه السماحة التي ستكون سببا في تفشي الإسلام بين أبناء الصرب بعد قليل ) وانطلق إلى ألبانيا ؛ لأن سكانها قد استغلوا من قبل انشغاله بحصار القسطنطينية ، وتعرضوا للجنود الأتراك في بعض المواقع حتى أنزلوا بهم  الهزيمة في يوم الأحد 12 ربيع الآخر 857هـ/22 أبريل 1453م؛ فأراد السلطان أن يؤدبهم على ذلك ، وأن يقضي على قوتهم التي صارت حجر عثرة أمام العثمانيين في البلقان .

وبعث السلطان على مقدمته القائد  "عيسى بك بن أفرنوس" على رأس قوة، قوامها أربعون ألف جندي ، وتمكن بتلك في يوم السبت 10 شعبان، الموافق لـ 26 يوليه من صد قوات ملك "نابولي"، التي اتحدت مع قوات "إسكندر بك" وكثير من القوات الإيطالية ، قبالة مدينة "برات"، واستطاع هذا القائد القضاء على نصف القوات الألبانية ـ الإيطالية قبل أن يلحق به السلطان ، وأسر المتبقين منهم  ، وكان من بين القتلى العديد من أمراء "ألبانيا" ..

وانكسرت بذلك شوكة ألبانيا ، وانخفض نفوذ "إسكندر بك"  الثائر ، والذي سوف نتكلم عنه بعد قليل .

ومن العجب أن الألبان بعد ذلك صاروا من أكثر الشعوب مسارعة إلى اعتناق الإسلام وتحمسا له ؛ لأن نظرتهم إليه قد تغيرت بعد معايشة الأتراك ، وكانوا يحسبون من قبل أنهم يتحركون فقط من أجل بسط سلطانهم عن طريق القوة دون أن يكون لهم رسالة سامية أو غاية يسعون من أجلها ..

ورأت ملوك أوربا بعد فتح السلطان محمد لألبانيا أنه عازم على ألا يتوقف عن مواصلة فتوحاته إلا بعد أن يهيمن على أوربا بأكملها فسعوا ـ وبحض من بابا روما "كالكتوس الثالث ـ لإنشاء تحالف صليبي ضم كلاً من "المجر" و"آراغون" وفرنسا و"برجونيا" و"جنوى" و"البندقية"، إضافة إلى فرسان جزر ردوس ( وهم أناس اجتمعوا من سائر بلدان أوربا ، وسكنوا تلك الجزيرة ، وجعلوا غايتهم تتبع سفن المسلمين والسطو عليها في البحر المتوسط ، وامتازوا بكراهيتهم الشديدة للمسلمين ، ونذروا حياتهم لمحاربتهم ) وقد أنشئ هذا الحلف تحت رئاسة البابا ..

 علم السلطان محمد الفاتح بأمر هذا التحالف فأسرع باقتناص المنضمين إليه ، كل على حده قبل أن يتم التلاقي بينهم ، وبدأ بفرسان ردوس ؛ لأنهم  قاموا بضرب السواحل العثمانية ، والاستيلاء على السفن التركية التي تبحر في البحر المتوسط ، بل وجاءت الأخبار إلى السلطان بأن سجنهم صار مملوءا بالأسرى المسلمين الذين اختطفوهم من فوق ظهر السفن التجارية التي اعتادوا مهاجمتها .

فأعد السلطان أسطولا مكونا من ثمانين سفينة ، تحمل على متنها  15:18 ألف جندي تحت قيادة القبطان   "حمزة بك"  وهاجم هذا الأسطول جزر  "إستانكوي" و"إنجرلي" و"سومبكي" و"لريوز" و"كالمنوس"؛ وضرب الحصار على قلعة "آنديماشيا" ودمرها تماما ، واستحوذ على كثير من الغنائم والأسرى من الجزر الأخرى ، ثم اتجه إلى جزيرة "آرشانجيلوس" الواقعة في جنوب شرقي جزيرة "رودس"، وأحرقها ، لأنه كان يتحصن فيها القراصنة الذين كانوا يتربصون للسفن الإسلامية ، وأعمل السيف في المدافعين عنها، وأسر الكثير منهم ، وحرر كثيرا من أسرى المسلمين لديهم ، ولكنه لم يحكم السيطرة الكاملة على تلك الجزر ؛ لأنه قصد تأديب قراصنتها فقط ..  

 ثم تابع حمزة بك الإبحار بأسطوله حتى وصل إلى جزيرة "ساقز"  الجنوية بأمر من السلطان الفاتح ،  وضرب عليها الحصار حتى فتحها ، وفرض عليها الخراج.

وكان سبب فتحه لتلك المدينة أن أحد التجار المسيحيين الجنويين ، واسمه "درابريس " كان له مستحقات على بعض تجار الجزيرة ( تقدر بـأربعين ألف دوقة ذهباً ) فماطلوه في أدائها ، ولما كان هذا الرجل من رعايا السلطان "محمد الفاتح"    فإنه قد تظلم إليه ، وذكر أنه يدفع ضريبة الجزية في مقابل أن تحميه الدولة وتحمي ممتلكاته داخل الدولة العثمانية وخارجه ، وتطالب له بحقه ..

فما كان من السلطان "محمداً الفاتح" إلا أن تعهد للتاجر بتحصيل هذا المبلغ من أمواله الخاصة ، وأعلن لسائر التجار من رعايا دولته على اختلاف أجناسهم وديانتهم أن الدولة تتكفل بحفظ حق كل تاجر في أي قطر من الأقطار التي يقصدونها بتجارتهم ، وأرسل إلى حمزة باشا يأمره بفتح الجزيرة لتكون عبرة لغيرها من البلاد التي تتعامل مع التجار من رعايا الدولة العثمانية ..

ومن العجب أنه خلال تلك الفترة لم يجرؤ أي من الأسطولين الجنوي والردوسي على الخروج إلى حمزة بك .

وأسرع فرسان "رودس" إلى تجديد المعاهدة التي كانوا قد عقدوها مع السلطان محمد عند جلوسه على كرسي الحكم ..

وبعد ذلك أرسل السلطان محمد لفتح الجزر الست الكبرى الواقعة قبالة مضيق الدردنيل في بحر إيجة ، مثل لمنوس ولسبوس وفسبوس ، والتي كانت تقع غير بعيد عن شواطئ الدولة العثمانية ، وقد عزم على فتح تلك الجزر لأنها صارت ملاذا لقراصنة البحر من جهة ، ولأنها غدت مركزا لمؤامرات الكنيسة البابوية ضد الدولة العثمانية من جهة أخرى ، وبالتالي فإن فتحها سيؤمن حدود الدولة الغربية ، وتم فتح تلك الجزر ما بين عامي ( 1456 و1462 ) .

وفي سنة 860 هـ | 1456 م بعث السلطان يونس بك الذي خلف حمزة بك على قيادة الأسطول العثماني لفتح إمارة " أنز " الجنوية والجزر التابعة لها لأن أميرها " دوريا" أساء التعامل مع المسلمين في " إبسالا " و " فير جيك " ..   

كما أن هذا الأمير " دوريا " منع زوجة أخيه، الذي توفي من قبل، وابنها الصغير، من أخذ الأرض التي منحها إياها والده في حياته ، فلم يكن من تلك المرأة إلا أن رفعت شكواها إلى السلطان "محمد الفاتح" الذي رأت أنه أنسب رجل يمكن أن يقدم لها المساعدة ، نظرا لما عرف عنه من عدل وحب لنصرة المظلومين ، وأنه كان يمتلك القوة التي يستطيع أن يمنع بها كل ظالم من ظلمه وبغيه ..

فخرج يونس بك على رأس عشر سفن في شهر صفر من هذا العام ( يناير ) رغم شدة البرد في هذا الوقت ، وفي نفس الوقت خرج السلطان محمد بنفسه بجزء من جيشه برا ، وفي توقيت واحد ضُرب الحصار على المدينة من البر والبحر فلم يجد أميرها سوى الاستسلام له ، ودخل السلطان محمد قصر المدينة فمكث فيه يوما أو يومين ، ثم عاد أدراجه إلى أدرنة بعد أن كلف الصدر الأعظم " محمود باشا " بمتابعة الاستيلاء على باقي الأراضي التابعة لهذه الإمارة .

 وذلك بعد أن خلص للمرأة والطفل اللذين استنجدا به أملاكهما ، ولم تكن تلك المرأة مسلمة ، ولم تكن من رعاياه ، ولكن الفاتح وجد أن نصرتها واجب عليه كحاكم مسلم مكّن الله له في الأرض كما فعل الملك الصالح ذو القرنين ..

أما الأمير "دوريا"  فإنه فر إلى "سمنديرك" ثم توجه منها  إلى "أدرنة" وهناك طلب الدخول على السلطان "محمد الفاتح"  فسُمح له بالدخول عليه ، فلما مثل بين يديه اعتذر عما بدر منه فصفح عنه السلطان ، ومنحه قريتين لإعاشته، وانتقل إلى "مدلي" .

وفي هذا الأثناء أيضا استنجد أهالي جزر "إمروز" و"تاشوز" و"سمنديرك " بالصدر الأعظم " محمود باشا " ليخلصهم من حكم الجنويين الذين أساءوا فيهم السيرة ، وحكموا فيهم بغير العدل ، فسار الصدر إليهم ، وحرر جزرهم الثلاث ، وعين عليها  " المؤرخ البيزنطي "كريتوفولوس"  ويبدو أن ذلك كان بناء على طلبهم واختيارهم ..

وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن كان في العمر بقية والسعة متسع

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين