الغوطة مقبرة الغزاة

بدأ العدو معركته الجديدة في الغوطة على جبهتين: الحرب النفسية في الفضاء الإعلامي، والقصف العشوائي على الأرض.

وجاء ردّ الفعل الثوري على صورتين: ذعر وإشفاق شديد، انتشر في بعض الكتابات والتعليقات، وتفاؤل وثبات عجيب ظهر في غيرها.

العجيب (وليس بعجيب) أن القسم الأول جاء أكثرُه من خارج الغوطة، من أبنائها ومحبّيها الذين يقيمون بعيداً عنها في مناطق النزوح ودول الشتات، والثاني: صدر أكثره عن أهل الأرض المرابطين على جبهات الرجولة والبطولة والصمود.

* * *

لمست في حواري مع كثيرين قلقاً غير مسبوق على الغوطة وأهلها وخوفاً من مصير كمصير الفلوجة والموصل، خوفاً من اجتياح قبائل المغول الأسدية للغوطة (كما صنعت قبائل الحشد الهولاكية في مدن العراق السليب الجريح) ومِن تعرّض أهلنا في الغوطة لما تعرضت له تلك المدن من فظائع وأهوال.

وكان جوابي لأولئك المشفقين: لا، لن يجتاحوا الغوطة ولن يرتكبوا فيها تلك الفظائع والأهوال بأمر الله.

ليست هذه أوهاماً وخيالات، ولا هي آمال وتمنيات، إنما هي استقراء لواقع اليوم الحاضر وحقائق الأمس القريب. لقد حشد العدو صفوة قواته على مدى ثلاث سنين وبذل غاية الوسع لاقتحام الغوطة، فماذا حصل؟ تبدّدت على أسوارها المنيعة الصامدة حملاتٌ بعد حملاتٍ، وفَنِيَت للنظام قوّاتٌ وقوات، حتى سجّلت صحائف التاريخ أن بقعة في سوريا لم تشهد خسائر للنظام وحلفائه كما شهدتها هذه الأرض المباركة، حتى صارت بالنسبة للنظام الثقب الأسود والأرض التي لا يؤوب منها الذاهبون.

هذا حال الغوطة في السنوات الماضيات، واليوم لم يصبح المدافعون عن الغوطة أضعف، ولا صار الذين يهاجمونها أقوى، فلماذا ينجحون فيما فشلت فيه جحافلُ جرارةٌ قبلهم عادت مكسورة مجلَّلة بالهزيمة والهوان؟

* * *

يا رجال الغوطة ويا أهلها الكرام: لا تنتظروا من الآخرين أكثر من بيانات وإدانات. ما نفعُ البيانات والإدانات؟ لا تنتظروا من غيركم من البشر المددَ والعطاء، ليس لكم إلا الله، وعطاء الله يتجلى ربطاً على القلوب ومددُه يتجلى اطمئناناً في الصدور، وهما ما نراه في كل ما يصلنا من الغوطة المباركة من صور وتسجيلات.

فإذا التزمتم بسنن النصر وعزّزتم الثقةَ بالله والاتكال الحق عليه بالأسباب المادية (بقدر الوسع) فأرجو أن يكون النصر القريب حليفكم بأمر الله، وتلك السنن والأسباب يعرفها العامي قبل العالِم والصغير قبل الكبير، وعلى رأسها وحدة الصف واجتماع الكلمة في هذا الوقت العصيب.

لقد سجلت فصائل الغوطة -على تفرّقها البغيض- بطولات تعجز عن وصفها الأقلام وأوقعت بالعدو خسائر لا يحصيها العادّون حتى استحقت لقب "مقبرة الغزاة" بجدارة واقتدار. صنعت فصائل الغوطة تلك الأعاجيب على ما بينها من تفرق واختلاف، فكيف لو استند إخوة الحصار بعضهم على ظهر بعض ووضع كل واحد منهم يده في يد صاحبه؟ من أين تؤتى الغوطة وفصائلها متحدة وأهلها متكاتفون؟

* * *

ختاماً أجدني مضطراً لإعادة بضع كلمات كتبتها قبل ثلاثة أشهر ضمن مقالة بعنوان: "الغوطةُ أمانةٌ في أعناقنا"، قلت في بعضها:

لقد صمد أهلنا في الغوطة صموداً عجيباً وصبروا حتى ضجر من صبرهم الصبر، وما زلنا نطالبهم بالصبر والصمود، لكنّ المطالبةَ بلا عمل ظلمٌ ولؤمٌ لا يليقان بأهل المروءة والشرف، بل علينا أن نمدّ أيدينا مرتين، مرة إلى السماء بالدعاء، ومرة إلى جيوبنا نستخرج منها ما يعينهم على البقاء.

كل واحد فينا يستطيع المساعدة ولو بأقل القليل. لقد صنعنا دائماً الكثيرَ وما زلنا قادرين على صنع الكثير، فهذه الثورة العظيمة لم تستنفد بعدُ معجزاتها. إن الغوطة أمانة في أعناقنا ونحن كلنا مسؤولون عنها، كل واحد فينا مسؤول عن وقف هذه المأساة الفظيعة بقدر ما يستطيع، فمن كانت قدرته في الشهر درهماً فمسؤوليته بحجم درهم، ومن كانت قدرته ألف دينار فمسؤوليته بألف دينار، ورُبّ درهم سبق ألف دينار. لا عذرَ اليوم لممسك عن الخير.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين