العيد ميلاد مجتمع - العيد والمجتمع
العيد.. ميلاد مجتمع
[فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ] {محمد:22}
أيها الأخوة المسلمون..
يودعنا رمضان برحمته ومغفرته وبره وبركاته وأنواره، يودِّعنا شهر التقوى مخلفاً بين أيدينا كتاب الله. كتاب الذكر والذكرى والمنهج والبصيرة.
يودِّعنا شهر الخير وشهر الجهاد ليسلمنا إلى عام يتمنى العارفون أن يكون كله رمضان. يسلمنا رمضان إلى يوم (الجائزة) يوم العيد الذي يغدو فيه المسلم على رب كريم لينال جائزة صيامه وقيامه وصلواته وصدقاته.
وفي إطار الفهم الإسلامي يتجلى العيد استمراراً للنسك، وتباعاً للطاعة لتكون الأيام من بعد صحائف أعمال يخط فيها كل امرئ ما كسبت يُمناه أو جَنَت يُسراه.
ويتجلَّى العيد في معنى من معانيه السامية ولادة حيوية لمجتمع يقوم على التواصل والتعاون والتناصر والتكافل وضم الجهود لتحقيق العظيم من الأمر والمهم من الشأن الذي لا يستطيعه الفرد بمقدراته الذاتية.
وكما يمتاز المسلم عن غيره في شخصيته الكلية وفي عنوانه واعتقاده وتفكيره وشعوره وسلوكه، تمتاز الجماعة المسلمة عن غيرها في غايات وجودها، وأهداف تحركها، وقواعد ترابطها. للفرد المسلم دائرة نشاطه الإسلامي الفردي، ونشاط الفرد المسلم الحيوي كله إسلامي. وللجماعة المسلمة دائرة نشاطها الجماعي الحيوي المشترك الذي يؤسس له ابتداء الأمر الرباني [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلَا الهَدْيَ وَلَا القَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {المائدة:2}. بناء الحياة الإسلامية الجماعية، والقيام على أمرها، والتعاون على تحقيق مقاصد الشريعة وأهدافها أمر رباني ناجز يقتضي الامتثال والطاعة والسعي إلى تحقيق الواجب من أيسر السبل وأقربها.
أيها الأخوة المسلمون..
الجماعة المسلمة بين ماض منهك ومستقبل مخيف
من الحق أن نعترف أنه قد أتى على المسلمين حين من الدهر ضمرت فيه حياتهم الاجتماعية، وتوارت أنشطتهم الجماعية، وتقلص نشاط المسلم،  في فترة غربة للإسلام وأهله، إلى دائرة فردية، بل اقتصر الوجود الإسلامي في حياة الفرد على بعض العناوين أو الشعائر. ووَضُعت الآية الكريمة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {المائدة:105} في غير موضعها. فغضَّ المسلمُ الطَّرْفَ عن مجتمعه وجماعته وحيه وأسرته ورفاق مدخله ومخرجه ومطعمه ومشربه وتناسى كثير من المسلمين قول الله تعالى: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] {المائدة:78}.
كانت الفيئة في حياة المسلمين العامة إلى نوع من الكمون والعزلة والانفراد واعتزال أمر العامة، والاهتمام بالخويصة، خوف أذى أو اتقاء شر أو تواهناً وكسلاً، وربما أحياناً بسبب قصور في الإدراك عن أهمية الشعائر والشرائع الإسلامية الجماعية، التي لا تؤدى ولا يستقيم لها أمر إلا في جماعة المسلمين.
وامتَّدت حالة النكوص في بعض الأحيان لتشمل حالة من القطيعة بين ذوي الرحم، فقطع المسلم رحمه، وهجر العم والخال والأخ والأخت، وأوصله الانشغال بهموم الدنيا إلى قطيعة الوالدين التي تدخل صاحبها في باب العقوق.
 لقد عطف القرآن الكريم قطيعة الرحم على الفساد في الأرض لأن تدمير بنية الجماعة المسلمة هي نوع من تدمير معالم الصلاح والبر والخير في حياة الناس.
وفي مقابل المجتمع المتفكك الواهن الذي تسلل إلى أمة الإسلام عبر عصور التراخي والوهن، يهددنا في هذا العصر نمط حياة وافد جديد. نمط حياة يقدس الفرد وذاتيته ومصلحته ورغباته وإشباعاته، ويقطع الصلة الخيرة بين الناس، فلا قيمة ولا مصلحة تتقدم على مصلحة الذات. يتنكر الفرد لأمه وأبيه، بل الوالد والوالدة لأولادهم وبناتهم، وفي مجمعات كبار السن واللقطاء في تلك المجتمعات شاهد حي على ما نقول. وتسوق لنا هذه المجتمعات المتحللة من كل الروابط الإنسانية الحية تحت عناوين التقدم والتحرر والحداثة والتطور.
أيها الأخوة المسلمون..
في يوم العيد يوم الجائزة لنغذ السير إلى إعادة بناء الجماعة المسلمة، على الأسس القرآنية الراشدة، على أسس من دعوة الخير والبر والرشد.
وأول قواعد الاجتماع الإسلامي (صلة الرحم) بمفهومها الأوسع والأشمل التي تستغرق الأسرة الأصغر والعشيرة الأقرب، وتتسع لتشمل دوائر من الوجود الاجتماعي صاعدة نازلة.
في ظلال العيد لتكن لنا عودة إلى مجلس الأسرة، وديوانها، ولقاءاتها، وكلمة كبيرها، وأسس تعاونها وتكافلها وتناصرها. كل هذا ينبغي إحياؤه لإعادة بناء مجتمعنا البناء الذي أمر به الإسلام وحض عليه. [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ مَسْطُورًا] {الأحزاب:6}
ومن قواعد بناء المجتمع المسلم: الصلة الحية على أساس المصاقبة المكانية (الجوار): [وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا] {النساء:36}  و"مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
علاقة الجوار المستندة إلى التواصل المكاني تمتد لتشمل أهل الحي والمحلة والقرية والبلدة. حيث تترتب على هؤلاء بحكم تجاورهم أحكام شرعية لا بد لهم من التواصل لأدائها على الوجه الذي شرعت عليه.
ويتفرع على هذه القاعدة قاعدة ثالثة هي الوحدة الممثلة لشركاء المهنة أو الواجب التي تسمى في هذا العصر: النقابات والتي يكون لها دورها في بناء مجتمع حي تترابط أطرافه للسعي إلى البر والتعاون على التقوى.
ثم تتفرع بعد ذلك قواعد اللقاء الاجتماعي فتكون لها أسسها الفكرية والعلمية والدعوية والتكافلية والاستثمارية والتي هي في مجموعها بنية للمجتمع الخير المعبِّر عن ذاته وَفْق قواعد الحياة الإسلامية العامة.
أيها الأخوة المسلمون..
لنجعل من يوم العيد يوم ميلاد للمجتمع المسلم المترابط المتمثل في شبكة من العلاقات الإيجابية الحية الصالحة للأخذ والعطاء وللإرسال والاستقبال. وعبر هذه الشبكة التي يجب أن نسعى إلى بنائها بناء صالحاً متيناً نرسل تهنئتنا لأمة الإسلام في كل مكان ولجميع المسلمين في شام البركة والخير. كل عام وأمة الإسلام وأهله بألف خير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين