العيد بين التعظيم والتقزيم - العيد

العِيْدُ

بَيْنَ التعْظِيْمِ وَالتقْزِيْمِ

 الأستاذ : يوسف القادري

?اليومَ أَكملتُ لكم دِينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورَضيتُ لكم الإسلامَ ديناً? نَعَمْ الإسلام دِين كامل شَملتْ تشريعاتُه جوانبَ حياة الإنسان، ومختلفَ تصرفاته: بأحكامٍ وأَنظمةٍ تَضْمَنُ مراعاتُها سعادةَ الفردِ ورقيَّ الأمةِ، بما ينسجم مع فطرته ويُلَـبِّي حاجاته دون إفراط أو تفريط، فهو دين يتعامل مع الواقع لينهض به إلى أعلى درجات المثال المتاحة للإنسان...
وتَصُبُّ كلُّ عقائدِ وعباداتِ ونُظمِ الإسلام؛ السياسية والقانونية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية... ومنها الأعياد تَصُب في أهدافه الكبرى. وربما يستغرب العُرْف العام هذا الطَّرْح ويظنهُّ بِدْعاً من القول دخيلاً على الإسلام ودَعْوَى بلا رصيد، فالمشهور على الألسنة اليوم قَوْلُ: (العيد للصِّغار)! كِنَايةً عن أن العيد ليس إلا لَهْواً عابثاً وسعادةً متوهَّمة لا يستطيعها العقلاء الراشدون! وهذا تقزيم للمعاني العظيمة العملاقة فيه. فما هو مفهوم العيد وأهدافه وآثاره في الإسلام؟    
1. العيد انتماءٌ للعقيدة ولَهْوٌ هادف: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ لأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا. فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ? الْمَدِينَةَ قَالَ: "مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟" قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: "كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا، وَقَدْ أَبْدَلَكُمْ اللَّهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا؛ 1.يَوْمَ الْفِطْرِ 2.وَيَوْمَ الأَضْحَى [النَّحْر]". رواه النسائي وأبو داود وأحمد. فاللَّهْو ليس هو الأصل في "الرُّزْنَامة الإسلامية" ولكنه أَحد الفقرات في هذا الدين الواقعي الذي يوجه ويُهَذِّب الفطرة، بدل أن يَقمعها أو يُفسدها. وهكذا علّمنا رسول الله ? كيف يجب أن نقتصر على عِيْدَينا دون أعياد غيرنا؛ دينية كانت أو اجتماعية.
2. العيد طِفلٌ يَفْرح في لَهْو موجَّه: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَرَسُولُ اللَّهِ ? عِنْدَهَا فِي أَيَّامِ مِنًى وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ [بنتان صغيرتان] تُغَنِّيَانِ وتَضْرِبَانِ بِدُفَّيْنِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ? مُسَجًّى [مُغَطًّى] بِثَوْبِهِ. فَانْتَهَرَهُمَا [زَجَرهما] أَبُو بَكْرٍ. فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْهُ فَقَالَ ?: "دَعْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمَ... لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ". رواه مسلم وأحمد. فهو دين الوسطية والسماحة المنضبطة بالأصالة "الحنيفية" والنقاء، وتشريعاته انطلاقاً من ذلك تَحْفَظُ على الطفل صحتَه النفسية والنموَّ المعتدل لشخصيته. وهذا مما ينبغي الاهتمام بنشره في أوساط غير المسلمين "لتعلم يهود...".
3. العيد فتاةٌ تَمرح وتُراعَى حاجاتها 4.وشابٌٌّ في استعراض عسكري وعزة وقوة: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ?؛ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ لأَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ مِنْ بَيْنِ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي. فَمَا زِلْتُ أَنْظُرُ حَتَّى كُنْتُ أَنَا الَّتِي أَسْأَمُ وأَنْصَرِفُ. فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ [الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ] الْحَدِيثَةِ السِّنِّ. البخاري ومسلم وأحمد. وفي هذا المشهد نموذج لِفَهْم النفسياتِ، والفروقاتِ الفردية وبين الجنسين والخصائصِ العمرية، وكيف أن تلبية تلك الحاجات على ضوء هذا الفهم ومراعاتها: مَطْلَبٌ شرعي وهَدْيٌ نبوي، بالكلمة المنضبطة حيث كان إنشادهما عن الحَرْب والشجاعة، واقتصرتا على "الدُّف". والعيد محطّة حيوية لهذه التطبيقات.
          5. العيد ازدهارٌ اقتصادي وتجارةٌ وصناعةٌ: ?وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ? لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ...?[الحج: 27،28]. وهي منافع أُخرويَّةٌ ودنيوية، وعلى المسلمين أن يستغلوا ويستثمروا هذا الموسم لتحقيق هذه المنافع ?لَهُم? لا أن يكونوا أسواقاً استهلاكية (لغيرهم) حتى في المواسم العبادية وشعائرها (كالخِراف للأضاحي)، ووسائلها (كساعات مواقيت الصلاة)، وألعاب أطفالهم (كفوانيس رمضان التي كلفت مصر وحدها 30 مليون دولار حين استوردتها من الصين سنة 1424 هـ!) وهَلُمَّ جَرًّا.
6. العيد حجٌ وطهارةٌ ومغفرة: ?الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ...? [البقرة: 197]. فهو طهارة للعقيدة والأخلاق والعادات ومن الذنوب؛ قال ?: "اللهم اغفر للحاجِّ ولِمن استَغفر له الحاج" رواه البيهقي في "شُعَب الإيمان". وصيام يوم عرفة لغير الحاج "يُكَفِّر [يَغفر] السنةَ الماضية والباقية" كما في صحيح مسلم.
7. العيد بَرْمَجةٌ للأمة: قال جَابِر: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ? يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ؛ فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ. رواه مسلم. فالبرمجة تكون بالاقتداء بالنبي ? واتباع شريعته وهَدْيه، وليس ذلك أَحَدَ الخيارات بل هو الواجب المأمور به حَصْراً، والوسيلة الوحيدة لتحقيق النجاح في الدنيا والنجاة في الآخرة. وكما يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتابه الساحر "وَحْيُ القَلَم": العيد إشعارُ هذه الأمة بأن فيها قوةَ تغييرِ الأيام، لا بأن الأيام تتغيّر. وتعليمُ الأمة كيف توجِّه بقوتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت!
8. العيد احتفالٌ جماهيري عفيف: عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا [المراهقات للبلوغ والبالغات] أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ. فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا - وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ ? ثِنْتَيْ عَشَرَةَ (12) غَزْوَةً -: وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى [الجَرْحَى] وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى. فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ ?: أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لا تَخْرُجَ؟ قَالَ ?: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا: أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ ? قَالَتْ: ... نَعَمْ. سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى. رواه البخاري. وهذا نموذج من مسؤولية المرأة الاجتماعية - لا مُجَرَّد حقها بذلك - وكيف لها دور بالجهاد يتناسب مع فطرتها (الإسعاف والأعمال اللوجستية)، فكذلك في المشاركة الإلزامية في تحصيل الوعي وتوصيله وتشكيل الرأي العام... وغير ذلك من فروض الكفاية التي تجب على عموم المسلمين. كلُّ ذلك بما لا يتعارض مع فروضِ العَين المتعلقة بها خصوصاً، ومع باقي أحكام الشريعة وحجابها وجلبابها، حتى ولو اضطرت لاستعارة الجلباب!
9. العيد تضحيةٌ وعبادة وانقياد وخضوع: عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ? يَخْطُبُ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ. فَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسْكِ فِي شَيْءٍ. رواه البخاري. فالأضحية ليست مُجردَ فرحةٍ للفقراء، بل هي أيضاً سُنة الأنبياء، وشَرِيعةٌ وشَعِيرةٌ، نتقرب بها إلى الله كَما أَمر الله، ونتذكر قِمّة العبودية والالتزام حين استعدّ سيدُنا إبراهيمُ لِذَبح ابنه إسماعيلَ عليهما السلام.
          10. العيد إصلاحٌ سياسي ومحاسبةٌ للحاكم: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ? يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ؛ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا [أي يُخرج طائفة من الجيش إلى جهَة من الجهات] قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ فِي أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى: إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فَجَبَذَنِي فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ! فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ! فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لا أَعْلَمُ. فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلاةِ. رواه البخاري.
          11. العيد تكافل ومواساة  12. ورَحِمٌ ومواصلة للأقارب والجِيرَان...
هذه بعض معاني العيد التي علينا أن نَبعثها ونُحييها حتى نستفيد منه محطةً للتجديد، وانطلاقةً للنهوض والإصلاح، تتكرر مرتين في كل عام لِتَتَرَاكم إنجازاتنا ومُكْتَسَباتنا سَنَةً بعد سنة، فنخرج من اللَّهْو الهادف فيهما لِنَخُوض الجِدَّ الهادف في حياتنَا اليومية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين