العمل الصالح -4-

سماع الحاكم الصالح النصيحة وأخذه بالمشورة:

إنَّ الوالي العادل ا لذي يطلب النفع العام الذي يعمل للمسلمين، ولا يعمل لنفسه، يستمع للنصيحة، ويسترشد بأهل الرَّشاد، ويظنُّ الظنون في آرائه التي ينفرد بها، ويتعرَّف الأمر من كلِّ وجوهه بالشُّورى، والاستماع لرأي غيره، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأمر جامع، وكما كان يفعل الحواريُّون من أصحابه الذين ابتلاهم الله تعالى بالحكم، فقد فهموا أنَّ الولاية اختبارٌ من الله تعالى، يجب أن يستعينوا فيها بكل ذي رأي، وإنَّ ذلك هو حكم الإسلام، إذ يقوله صلى الله عليه وسلم:[ وَأَمْرُهُمْ شُورَى] {الشُّورى:38}. وأمر نبيَّه المعصوم بالتشاور فقال تعالى: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] {آل عمران:159}.

وإن من لا يُشاور من الحكام يفهم أن الحكم تحكُّم، وأنَّ الولاية تسيطر، وما على المسيطر المتحكم إلا أن ينفذ ما يريد، ولا مُعقب لقوله، ولا معلق على أمره، ومن خالف نُبذ وأبعِد، أو سُجن وشُرد، فيضيع صواب الرأي وسط ضجَّة الاستبداد، والتهديد والإرعاد، فلا ينجح أمر من الأمور ولا تُحمد مغبة فعلٍ من الأفعال، لأن الحاكم الذي يعمل لنفسه يطَّرح كلَّ ما عدا شخصه، ويفرض في نفسه العصمة، وفي غيره الجهل، وإنَّ أوَّل ما يُدلى الوالي بالغرور اعتقاده في نفسه العصمة، فإن ذلك سبيل الطغيان.

الحكمة من الخطأ في اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم:

ولقد وجدنا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يهدينا، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ولقد ترك الله تعالى نبيَّه الموحى إليه يُخطى في أسرى بدر، كما يعلم كل من له إلمام بمبادئ التاريخ الإسلامي وأصوله، ثم نبَّهه إلى موضع الخطأ، وإننا نتلمس الحكمة في الترك من غير إهمال، ثم التنبيه من الله تعالى، فنجدها تعليماً للإنسان وتنبيهاً إلى أنه لا عصمة لأحدٍ من الخطأ، وأنَّ الذين يفرضون في أنفسهم أنفسهم لا يخطؤون، واقعون في الخطأ من قمَّة رؤوسهم إلى أخماص أقدامهم، أخطأوا في هذا الاعتقاد، ووقعوا في الغرور، وتتابع من بعد ذلك التَّردي في الأخطاء المترادفة المتتابعة، وأخطاؤهم تتحمَّل الشعوب الإسلامية مغباتها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويظنون أن الناس عن أعمالهم راضون، لأنهم ساكتون لإجبارهم وإرهاقهم للنفوس والعقول والأبدان، وقد زُيِّن لهم سوء عملهم فظنُّوه حسناً لكثرة الإطراء المنافق من الذين يلوذون بهم، ويأكلون الفتات المتساقط منهم، أو يلتهمون حقوق الشعوب.

وإنَّ من شأن هذا الصنف من الحُكَّام ألا يزدلف إليهم إلا المراؤون، أو المنافقون، أو الذين يُريدون أن يصلوا إلى ما يبتغون، سواء أكان حلالاً أم حراماً، وسواء أكان الطريق الموصل إلى الغاية مُعْوَجّاً أم كان مستقيماً، وأن يصل بالسعاية والنميمة أم يصل بالصدق والفضيلة.

وإن الله يَبتلي الحُكَّام الفاسدين بأعوان على شاكلتهم، فيكونون شراً عليهم، والأخيار من الحُكام يُعينهم الله تعالى بأعوان من الأخيار، كما ورد في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( ). 

ولقد ابتلي الله الإسلام في بعض ربوع الديار الإسلامية بهذا الصنف من الحُكَّام، فكانوا وبالاً على الشعوب، أرهقوها من أمرها عُسراً، وجعلوا قاسم أمرها فُرُطا لا ضابط، ولا حكم يعدُّ صالحاً.

ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مميزاً بين الأمراء الصالحين وغيرهم: (إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمورُكُم إلى نسائكم، فبطنُ الأرض خير لكم من ظهرها) ( ).

ولقد حُكم بعض المسلمين بالنوع الثاني، ووجد له من بينهم من يدقُّون الطبول للظالمين، ويسارعون فيهم دعاة لهم بالتأييد المطلق.

ولقد أفسدت العقول الدعاوى الباطلة، فضللت الأمة، ولقد قال رسول لاله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ ما أخافُ على أمتي الأئمة المضلين) ( ).

اللهم هيئ لنا معشر المسلمين من أمرنا رشداً، وأصلح أحوالنا، وأقم الحق والعدل بيننا، ولا تُسَلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، إنَّ الأمر إليك، والنهاية عندك، فأعطِ الحُسنى لمن يستحقُّها، وأنزل العذاب على مَنْ سام أمتك الخَسْف والهوان.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

الحلقة السابقة هــــنا

--------------------------

(1) روى البخاري (6611) عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم،قال: (ما استخلف خليفة إلا له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضُّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضُّه عليه،والمعصوم من عصم الله).

(2) أخرجه الترمذي في كتاب الفتن(2266) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح، وصالح المري في حديثه غرائب ينفرد بها لا يتابع عليها، وهو رجل صالح. انتهى. والحديث أخرجه الطبري في تهذيب الأثار 1/113، وأبو عمرو الداني في (السنن الواردة في الفتن) 29.

(3)أخرجه أحمد (21888)، وأبو داود (4252)، والترمذي (2229) وقال: حسن صحيح، والدارمي (209) من حديث ثوبان رضي الله عنه 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين