العلم .. بين استشراف المستقبل وأهواء السلاطين

يقصد بــــــ (استشراف المستقبل) النظر في التغيرات المستقبلية التي يمكن أن تطرأ على المجتمعات سواء كانت سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية ... ووضع الخطط الكفيلة بمواجهتها وحسن الاستفادة منها في تطوير المجتمع بشكل عام.

والمجتمعات التي تضم علماء يحسنون استشراف المستقبل، تعتبر مجتمعات قوية، ومحصنة، لأن المنطق يقول: إن معرفة هذه التغيرات كفيلة بوضع الخطط المناسبة لمواجهتها وتجنب سلبياتها في المجتمع، الأمر الذي يعطي حصانة ومناعة في مواجهة آثار هذه التغيرات. 

ونحن لو نظرنا في واقع المجتمعات اليوم نجد أن تلك التي تغيب عنها هذه الميزة هي المجتمعات العربية والإسلامية عموما، باستثناء تركيا وماليزيا وأندونيسيا وإن بتفاوت بينها، لذلك فإن هذه السلبية تكاد تكون محصورة في المجتمعات العربية فقط، علما أن هذه المجتمعات ينبغي أن تكون في طليعة مستشرفي المستقبل لسبب بسيط، وهو أن التغيرات المستقبلية التي تستشرفها المجتمعات عادة تكون مظنونة، يعني هي مبنية على استقراء ودراسة لسير التاريخ والأمم، وهذا الاستقراء ليس قطعيا، ولكنه أغلبي.

أما المجتمعات العربية المقترنة بالإسلام، فالتغيرات القادمة جاءت أخبارها في الوحي (القرآن الكريم والسنة النبوية) وهذا يعني أن كل ما هو مطلوب من العقول العلمية عندنا - إن وجدت - أن تبني على هذه الأخبار القطعية في غالب دلالاتها.. وبخاصة أن علماءنا الماضين، رضوان الله عليهم، وضعوا مؤلفات جامعة في إحصاء كل هذه المتغيرات التي جاء ذكرها على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من مثل كتاب (النهاية في الملاحم والفتن) للحافظ ابن كثير الدمشقي [701 - 774ه / 1301 – 1373م]، وهذا الكتاب جمع فيه مؤلفه جهود من سبقه، ونخلها نخلا علميا يميز بين ما يمكن أن يبنى عليه وما لا اعتبار له. 

وعليه فإن العقول العلمية التي تدرس علوم الاجتماع ليست بحاجة إلى بذل جهود؛ فردية أو جماعية؛ تاريخية واجتماعية؛ لتستقرئ الماضي وصولا إلى زمانها، وهي دراسة تستغرق اليوم عمر التأريخ البشري، لأن الوحي اختصر لنا كل هذه المسافات التاريخية، وأعطانا خلاصة القضايا التي ينبغي الاعتبار بها، فاستفاد منها علماؤنا فيما مضى أيما استفادة. هذا يوم كان العلم يرتكز على الوحي. 

وتعتبر مقدمة ابن خلدون [723-808ه / 1332 – 1402م] زبدة هذه الملاحظات للمتغيرات، ويوم وضعها ابن خلدون في القرن الثامن هجري، الرابع عشر ميلادي، ما كانت الوسائل تسمح باستقراء التاريخ كله لولا الأخبار الواردة على لسان الوحي والتي جعلها ابن خلدون عمدته في دراسة التغيرات واستشراف المستقبل. ولست بحاجة هنا إلى الدلالة على قيمة هذه المقدمة في الدراسات الاجتماعية.

إذن يوم كان زمام العلم بيد أحرارٍ لا يقيمون وزنا فيما يتولونه من أمور علمية إلا إلى الحقيقة العلمية، كانت المجتمعات تسير على هدى ما يستنبطونه من قضايا بصدق وإخلاص. سواء كانت عربية أم غير عربية، إسلامية أم غير إسلامية، حيث كان العلم يشكل جامعا حقيقيا لثقافات الشعوب.

وهذا الوصف متحقق اليوم في المجتمعات الغربية، فإن أمورها كلها مبنية على استقراء هذه التغيرات، وعلى المستخرجات العلمية، والعلمية فقط، ولكن بعيدا عن الوحي، لذلك غلبت عليها الشخصانية، بخلاف تعاملها مع مجتمعاتنا العربية القائمة على المصلحة بعيدا عن النتائج العلمية، حيث استلم فيها زمام العلم عندنا فئة تأخذ منه المقدار الذي يتوافق مع رؤى الحاكم بعيدا عن حاجات المجتمعات وتقلبات الزمان. 

فلا غرو أننا نرى الغرب اليوم في الطليعة، لأن علماءه أحسنوا استشراف المستقبل. بينما تسنمت المواقع العلمية المتقدمة في بلادنا فئة من المحسوبين على العلم لا هم لها إلا الاستفادة المادية من خلال إرضاء الحاكم. 

ولما كان غالب الحكام عندنا (رويبضات) وجدنا الأمة اليوم ما زالت رابضة حيث خلفتها أهواء حكامها منذ قرنين من الزمن. 

وتطبيقا على ما سبق، أذكر مثالا على استفادة علمائنا قديما من أخبار الوحي في استشراف المستقبل، غير ابن خلدون، بل وسابق عليه، فابن خلدون من علماء القرن الثامن هجري، وهذا العلم الذي سأتناول استشرافه السياسي والاجتماعي المميز هو من علماء القرن الخامس هجري، الحادي عشر ميلادي، أي سبق ابن خلدون بثلاثة قرون، وهو إمام الحرمين، ضياءُ الدين، أبو المعالي، عبدُ الله بنُ عبد الله بنِ يوسف النيسابوري الجويني [419 - 478 ه / 1028 – 1085م]. رحمه الله تعالى. 

ففي زمنه، القرن الخامس هجري، كانت الشريعة مهيمنة على حياة المسلمين، بل وعلى حياة شعوب كثيرة متأثرة بحضارة الإسلام، على الرغم من التقلبات السياسية الكثيرة، فالإسلام لا تعبر عنه سياسات الملوك والسلاطين، وإنما أحكام الشريعة والدين. 

ومع ذلك فإنه قرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ)، ثم قرنه بالتحولات السياسية في زمنه، فخرج بنتيجة مفادها ان الأمور تسير باتجاه تعطيل أحكام الإسلام، وعليه فلو وصلنا إلى الزمن الذي تُعطَّلُ فيه الأحكام، ماذا نصنع؟ وهو السبب الأساس الذي دفعه لوضع كتابه العجاب (غياث الأمم في التياث الظُّلم). ولنقرأ عبارته بقلمه، كما سطرها في مقدمة الكتاب، يقول:

《إني وضعت الكتاب لأمر عظيم: فإني تخيلت انحلال الشريعة وانقراض حملتها ورغبة الناس عن طلبها، وعاينت في عهدي الأئمةَ ينقرضون ولا يُخلَفون، والمُتَّسِمون بالطلب يرضون بالاستطراف، وغاية مطلبهم مسائلُ خلافية يباهون بها، أو فصول ملفقة وكلمات مرتَّقة في المواعظ يستعطفون بها قلوب العوام والهمج الطغام 》.

كلمات قليلة وصفت منذ حوالي الألف عام مجتمعا نعيشه نحن اليوم في القرن الخامس عشر هجري، الواحد والعشرين ميلادي، حيث (انحلَّت) الشريعة، وانقرض – أو يكاد - حملتها، وانصرف الناس عنها إلى غيرها، وكلما مضى عَلَمٌ من الأعلام لم نجد من يسد مسده، ونرى طلبة العلم منشغلين بفضول العلم عن لبه، غارقين في تحقيق مسائل خلافية مضى عليها قرون يريدون حسمها، وهيهات، وتصدر المنابر على أنواعها حكواتية لا يعرفون من العلم غير السجع وتنميق الكلام، غاية مرادهم ثناء العوام.

ثم تسألون لماذا خلَّفتنا وراءها الأقوام؟؟؟؟؟؟ 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين